مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وإمام العلماء العاملين, وعلى آله وصحبه هداة الدنيا وأئمة الدين, ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
لما كانت أنظمة جامعة دمشق تفرض على المتخرج فيها أن يقدم رسالة صغيرة من تأليفه في موضوع يختاره ويعدّه تحت إشراف أحد الأساتذة العاملين في الكلية التي يتخرج فيها, ولما كنت في عداد المتخرجين في عام 1963م - والحمد لله رب العالمين - في كلية الشريعة من جامعة دمشق، كان لزاماً عليّ أن أعد بحثاً في موضوع ما، لأتقدم به إلى عمادة الكلية، وأحصل بعده على درجة الليسانس في الشريعة، طوفت نظري، وأعملت فكري، لعله يقع على موضوع مبتكر جديد يتناسب وقصر الزمن الذي كان علي أن أعده فيه، وفي أثناء تلك المدة شاءت الأقدار أن أزور بعض الأصدقاء الأدباء في مدينة حلب, ودار بينا الحديث حول شخصية الأستاذ الكبير العلامة الشيخ بشير الغزي – رحمه الله – الذي كان علماً من أعلام الفقه والأدب في زمنه, وتحدثنا عن آثاره, وتذاكرنا علمه وفضله وأدبه وتضلعه في اللغة العربية, كما انتقل بنا الحديث إلى البحث في تلاميذه ومن كان له عليهم الفضل الأكبر، فذكرنا في طليعتهم جدي لأبي الشيخ أحمد الكردي – رحمه الله – وما كان له من أثر بالغ في إذكاء روح النهضة العلمية التي قامت في عصره.
وفي هذه البرهة وقع في نفسي شيء لم أخفه عن أحد أصدقائي فقلت له مستشيراً: إنني مكلف بإعداد بحث في موضوع مبتكر جديد لم يسبق إلى الكتابة فيه أحد, والآن دار بخلدي أن يكون بحثي الكتابة حول حياة هذين العالمين الجليلين اللذين نحن بصددهما الآن، وهما: الشيخ بشير الغزي, والشيخ أحمد الكردي، لما في ذلك من خدمة جليلة يمكنني أن أسهم في تقديمها للشهباء, عرين المجاهدين، ومنطلق الجهابذة من العلماء والأدباء, ولأنني أجد لهما الأثر الأكبر في النهضة العلمية التي قامت في عهدهما, مع أنه لم يكتب عنهما أحد، ولم يشرح حياتهما مؤلف -فيما أعلم- اللهم إلا من تعرض بإيجاز وبأسطر معدودة لحياة الشيخ بشير الغزي – رحمه الله -، وبما أن أحدهما جدي لأبي كما تقدم، والآخر أستاذه، رأيت الواجب يستحثني أكثر فأكثر من غيري إلى بحث حياة هذين العالمين الجليلين، والتنويه بآثارهما وفضلهما، وتقديم شذرات من تاريخهما، ليكون منار هدى للأجيال اللاحقة، ومحل فخر واعتزاز لهم... فما كان من صديقي إلا أن سارع إلى موافقتي، وزاد في حماسي لهذا الموضوع، وشجعني على تبنيه والكتابة فيه، ووعدني بالمساعدة بالبحث عن المراجع التي يمكن أن تمدني ببعض النقاط الهامة فيه, فشكرته على ذلك، وعقدت العزم من ساعتي على المضي قدماً في تأليفه وجمعه.
ولكن المراجع قليلة جداً بالنسبة لحياة الشيخ بشير الغزي كما أسلفت, ومعدومة تقريباً بالنسبة لحياة جدي الشيخ أحمد الكردي الذي توفي وأنا صغير بعد, فصممت على الاستقراء والاستقصاء, فكنت أزور الأساتذة والأصدقاء وأسألهم عمن كانت له صداقة بالشيخين، أو تتلمذ عليهما، أو على أحدهما، فأذهب إليه، وأسأله عما يعرف عنهما، وهكذا حتى انكشف لي جانب هام من حياتهما الخلقية والعلمية, فجمعت ذلك كله، وأضفته إلى ما كنت أعرف عنهما سابقاً من معلومات وحوادث.
ونظراً لضيق الوقت الذي أشرت إليه، قدمت هذه الرسالة المتواضعة التي جمعت نقاطاً هامة من حياة الشيخين الكريمين, وكشفت قدر الإمكان عن شخصيتهما وعلمهما، ولا أدعي الإحاطة التامة والاستقصاء فيما كتبت، بل كل ما قدمته شذرات قليلة وغيض من فيض، أرجو من الله العلي القدير أن يوفقني في مستقبل الزمن إلى إعادة الكتابة عنهما بما هو أوفى من ذلك.
وإنني عندما انتهيت من إعداد هذا البحث عرضته على أستاذي الجليل الدكتور محمد فوزي فيض الله وكيل كلية الشريعة لتنال موافقته، وأن تكون تحت إشرافه, فدرس الأستاذ الكريم الرسالة، وأشار علي بإصلاح بعض النقاط، ففعلت، وبعد ذلك قدمتها له ثانية فحازت رضاه، وأصدر موافقته عليها – مشكوراً- إلى عميد كلية الشريعة، فقبلها، وأثبت في نهاية البحث صورة عن كتاب الموافقة هذا -.
وفي الختام يسرني أن أتقدم بخالص الشكر والتقدير والإجلال إلى أستاذي الجليل الدكتور محمد فوزي فيض الله على ملاحظاته الهامة التي لفت نظري إليها، كما أشكر أستاذي الكبير محمد بك المبارك عميد كلية الشريعة السابق على موافقته عليها، وعلى ما غرسه في نفسي أثناء الدراسة في كلية الشريعة من حب للعلم وتقدير للعلماء، الذي كان المنطق الأول لي في إعداد هذه الرسالة المتواضعة, وأتقدم بجزيل الشكر والتحية إلى عميد كلية الشريعة الدكتور يوسف بك العش، وإلى جميع أساتذتي الذين حضرت عليهم الدروس في كلية الشريعة، وفي الثانوية الشرعية في حلب، وكان لهم الفضل الأكبر في تثقيفي وتعليمي، عرفاناً مني بالجميل، وقياماً بالواجب، ومن الله تعالى أستلهم التوفيق والسداد، إنه سميع مجيب.
7/ من ربيع الأول/1383هـ
28/ من تمـــوز/1963م
أحمد الحجي الكردي