صبره في البحث والدرس:
لقد كان ـ رحمه الله تعالى ـ دؤوباً في بحثه ومطالعته, دقيقاً في تفحصه للموضوع وتعمقه في جزئياته. فقد كاد يقضي الساعات الطويلة في تفهم مسألة جزئية أو موضوع صغير، لا لضعف في ذكائه أو قلة في تبحره في العلم، بل رغبة منه في سبر أعماق الموضوع، للكشف عن غوامضه واستطلاع خباياه، والوقوف على حقيقته.
ومرة وقع في يده كتاب لأحد الأدباء اللبنانيين المشهورين، يبحث فيه بعض المواضيع الأدبية العويصة، ولما قرأه وجد فيه أن المؤلف قد استشهد ببيت من الشعر في سياق حديثه، وهذا الاستشهاد يدل على أن المؤلف قد فهم البيت على غير المعنى المراد، ولكن الشيخ تغاضى عن هذه الزلة التي سقط فيها المؤلف، حيث شأنه دائماً الصفح والتسامح وعدم التشهير، ولكنه ما كاد ينهي دراسة الكتاب حتى وجد في آخر صفحة منه بضعة أسطر بتوقيع المؤلف، يتحدى فيها جميع القراء أن يجدوا في كتابه مطعناً، أو يسفهوا له رأياً، ويقول: من وجد في كتابي هذا مطعناً واحد فليكتب إلي به، وعندها ما كان من الشيخ إلا أن تناول القرطاس، وسجل فيه ملاحظته السالفة، وأرسلها إلى المؤلف في لبنان، ولما وقع عليها المؤلف أدرك خطأه، فكتب إلى الشيخ شاكراً معتذراً، ولكنه لما لم يعد في وسعه جمع نسخ الكتاب وتصحيحها لانتشارها وتوزعها، حزن حزناً شديداً، ثم توفي بعد برهة يسيرة.
وكان – رحمه الله تعالى– على جلالة قدره وعلو منزلته لا يقرأ درساً إلا بعد أن يطالعه في مراجع عدة، ويقف على جزئياته وخفاياه من جديد، حتى إذا حضر الدرس بسطه على أوسع نطاق، مستقصياً فيه الأدلة الموافقة والمعارضة، ثم بعد ذلك لا يرى حرجاً من تقبل أدنى سؤال يعرض عليه مهما بلغ من البساطة، ويرد عليه بأسلوب سهل بيِّن سديد، ولا يغادر موضوعاً ما قبل أن يأتي على جميع أطرافه ومشكلاته.