آثــاره
مؤلفاتـه:
لم يكن – رحمه الله تعالى – غزير التأليف كثير الكتابة بقدر ما كان دقيق العبارة قوي الملاحظة، يمخر عباب الحكمة، ويستقصي فيها الأدلة، فتأتي عبارته رصينة، وتراكيبه متينة، وكتبه مدروسة ومنقحة، قل أن تجد فيها مأخذاً أو مطعناً، أو أن تعثر فيها على خطأ لغوي أو نحوي، ومع ذلك، فإن مؤلفاته على قلتها قد اندثر أكثرها وذهب مع الرياح، إذ لم يتح له من يحفظها ويصونها من الهلاك والضياع، ولم يطبع منها تقريباً إلا كتابه المسمى: "حدائق الرند في ترجمة ترجيع بند" ومنظومة في المنطق جمع فيها بين التصورات والتصديقات، ورسالة في التجويد، وأما بقية مؤلفاته فقد بقي أكثرها في مسوداته، ثم ضل طريقه إلينا، من ذلك:
1- كتاب في اللغة، ضمنه جميع ما في مختار الصحاح من الكلمات اللغوية، وجعله على أسلوب حكاية سائح، يذكر فيه حكاية الكلمة ويعطف عليها مرادفها تفسيراً لها.
2- كتاب في الفقه الحنفي، لخص فيه ما جاء في كتاب الدر المختار وحواشيه من الأحكام والمسائل المفتى بها، وهو مجلد ضخم لكنه لم يكمل.
3- عدة مجاميع في حادثات الفتوى لو جمعت لبلغت مجلداً ضخماً.
4- تفسير صغير مختصر يمكن طبعه على حاشية مصحف.
والباقي منها أتت عليه الأيام يعد أن كان مجهزاً للطبع، ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن مؤلفات الشيخ كانت تستجمع سائر اختصاصاته ونواحي حياته العلمية كلها، فهو لم يقتصر على الكتابة في الفقه والأصول واللغة فحسب، بل ألف أيضاً في التفسير والحديث والرياضيات، كما كان له كراريس في علوم النجوم والفلك وغيرها من العلوم النادرة، التي قل أن يوجد في بلادنا عالم متبحر فيها، واقف على مراميها، ولو قدر لهذه المؤلفات البقاء و الانتشار لأفاد منها الطلاب الكثير، وإنني آخذ العهد على نفسي منذ الآن أن أجد السير وأتابع البحث والتنقيب عما اندثر من مؤلفاته، فأحييه من جديد، وأقدمه للطبع، وأبذل في نشره ما أوتيته من جهد، ليكون للعلماء نبراساً، وللطلاب إماماُ، وذلك لما تحويه هذه المؤلفات من علم غزير ومعرفة واسعة وفكر نير ودقة في التعبير وفصاحة في اللغة وقوة في الملاحظة.
كتابه "حدائق الرند في ترجمة ترجيع بند"
1- التعريف به:
هو رسالة صغيرة منظومة تقع في تسع عشرة صفحة، واثني عشر فصلا، ينتهي كل فصل منها بقوله:
سبحان من قد حيَّر العقولا |
بصنعه وأعجز الفحولا |
نقل فيه إلى العربية القصيدة الحِكَمِيَّة التركية المنسوبة إلى "ضيا باشا" أحد فلاسفة الترك، وقد أشار عليه بهذا التعريب تلميذه الوفي وصديقه الأخوي رفعت بك المناستري، صاحب المؤلفات الشهيرة عند الترك. وقد جاءت في صيغتها العربية كأنها عربية الأصل كما يقول الأستاذ قسطاكي الحمصي في معرض حديثه عنها: "فجاءت منظومة كأنها عربية الأصل، وكل من عانى التعريب يعلم صعوبة السبك والنقل إلى القوالب العربية نثراً فكيف به نظماً". ولقد كان لها أثر كبير في العالم العربي وبين طلاب العلم خاصة، فقد انتشرت انتشارا واسعاً، وتداولها الأساتذة والعلماء، وتدارسها الطلاب وأفادوا منها الكثير.
وقد أتم الشيخ تعريبها في غرة ربيع الأول عام 1315 هجرية، في عهد السلطان عبد الحميد، وقد طبعت بمصر على ورق أصفر أول مرة عام 1898 ميلادية، بمطبعة التوفيق بشارع كلوت بيك، وقد جمع طابعها بين الأصل التركي والصيغة العربية، فيأتي البيت في اللغة التركية وتحته ترجمته للغة العربية، وهكذا.
وقد جاء في خاتمتها العربية كلمة للمترجم،-رحمه الله تعالى - قال فيها: "استغفر الله، وأتنصل بالمعذرة عما فرَّط فيه اليراع، وورط فهمه قصور الباع، بأن علمي بالتركية والفارسية كعلم ابن دارم باللغة الحميرية، فكنت أعتمد في التعريب على تقرير فاضل أريب، والذي دعا إليه باهر الحكم، الذي انطوى عليه الأصل والعمل، بقول النبي المهيمن: (الحكمة ضالة المؤمن) رواه الترمذي وابن ماجه) صلى الله عليه وعلى آله ما فاح عرار ونفخ صوار.
2- موضوعه:
لقد نهج مؤلفه الأول السيد ضيا باشا أن يجمع فيه غرائب الأمثال، وفريد الحكم الكونية، مما يسر له الله أن يجمع، فجاءت مليئة بالمآثر الحكمية، والأمثال القيمة، والفوائد الجليلة، حلَّق بها في سماء المعارف الإلهية، ورقى فيها سلالم الفلسفة الكونية الحكيمة، فلا زيغ ولا ضلال، ولا التواء ولا انحراف، بل تمجيد للخالق، وإعلاء لشأنه، وإشادة بآياته الظاهرة، ونعمه الغزيرة الباهرة، وشكر له على ما أنعم به علينا، فهي الإيمان الكامل، والشكر الخالص، والتوحيد المخلص، فرحم الله مؤلفها ومترجمها وكل من سعى في طبعها ونشرها، وهاك مقتطفات من الفصل الأول منها، تدلي بالشهادة لها أو عليها:
ذا معمل الصنع العجيب مكتب |
|
نقوشه عن علم غيب تعرب |