كلمة الأستاذ الشيخ عمر مكناس:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن الدراسة هي التي تربطني بالأستاذ الشيخ أحمد الكردي، لذلك فإني سأتكلم عنه من هذه الناحية فحسب.
كنا نسمع ونحن في أول طلب العلم الشرعي أن الأستاذ أحمد الكردي واسع الاطلاع, قوي الحجة، سهل التدريس, فكنا نتشوق للحضور عليه، حتى إذا تحققت لنا هذه الأمنية، وحضرنا عليه الفقه (الفروع والأصول) وجدناه فوق ما كنا نسمع, والآذان تعشق قبل العين أحياناً، كنا نطالع بعض المواضيع قبل حضور الدرس، فيعرض لنا إشكال نقلب له سائر الاحتمالات (حسب فكرنا وفهمنا) فلا نكاد نجد له حلا، ونعتقد أنه من المعضلات، حتى إذا كان وقت الدرس في اليوم الثاني، ومر الأستاذ بهذه المعضلة ففصلها تفصيلا جميلا، ذهب الإشكال، وكأنها من أبسط القواعد، فنكاد نطير فرحا، ويرسل بعضنا لبعض (نحن الطلاب) إشارات الإكبار والإعظام لهذا الأستاذ، الذي أزال من نفوسنا ذلك الإشكال، وهكذا كان –رحمه الله تعالى– حلاَّلا للمشكلات، فلا تكاد تعرض مشكلة علمية إلا وحلها حلا صحيحا، وضرب لها الأمثلة، وساق الأدلة، حتى يذيل كل غشاوة عنها, وكان _ رحمه الله تعالى _ مجموعة نادرة من العلوم والمعارف, نحن نعرف بعض الأساتذة كانوا مشهورين في علم من العلوم، وآخرين مبرزين في ناحية ثانية، أما العلامة الكردي فكان مجليا في كل فن، مبرزا في كل علم، فإذا ذاكرته في الفقه حسبته أبا حنيفة, وإذا حادثته في العلوم العقلية وجده جبلا أشما، يقيم الأدلة، ويأتي بالبراهين الصحيحة, وإذا سمعته يتكلم في النحو قلت سيبويه، وأذكر أن الأستاذ عبد القادر الكرمان حدثني عنه وقد حضر عليه النحو (والكرمان كان مشهورا بين رفاقه الطلاب بسعة اطلاعه على اللغة العربية وقواعدها، وكان يجيد الكتابة والخطابة) قال لي: "أتعرف يا عمر من أين حصل لي هذا الاطلاع على النحو وقواعد اللغة، قلت من أين؟ قال: من ملازمتي للأستاذ الكردي، فالأستاذ الكردي لا يوجد له مثيل في عصرنا يدرس النحو، قال لي أتسمع أن الناس يضربون المثل بضعف علل النحاة، ويقولون: (أوهى من حجة نحوي)؟ قلت نعم، قال: فإن الأستاذ الكردي كان يقيم الأدلة على علل النحو مدعمة بالبراهين المنطقية التي تجعل منها عللا راسخة، وحججا قوية، فتعليل النحاة كغيرهم من العلماء، يرتكز على أسس المنطق وقواعده, وكنا ندهش عندما يعلل لنا هذه التعاليل الجميلة، ونود أن الساعة لا تنقضي، والدرس لا ينتهي، ونحن في نشوة هذه العلل".
وللعلامة الكردي ميزة خاصة تميز بها على إخوانه العلماء, هي محبته لطلاب العلم بصورة عامة، ولطلابه بصورة خاصة, فكان يلقى الطالب ببشاشة، ويؤانسه بالكلام، حتى يكاد يشعر الطالب أن الأستاذ يوليه عناية خاصة، في حين أنه إذا جاء طالب آخر وجد العناية نفسها، وزعم أن الأستاذ يخصه بذلك، وهكذا دواليك. وأذكر حادثة خاصة وقعت لي أثناء الطلب لن أنساها ما حييت: "دخلت في السنة الأولى لإعطاء الفحص الشفهي أمام كتلة من علماء حلب في قاعة المدرسة الخسروية، فلما توسطت القاعة وأخذت مكاني، اعتراني نوع من الوجل، وأرتج عليَّ، فلم أستطع أداء الفحص، وإذا بالأستاذ الكردي كان أسرع الأساتذة لإنقاذ الموقف، والتسرية عني، فقال لي: يا عمر، أغلق الباب، فأغلقته امتثالا، فقال: دعنا من الفحص الآن، فنحن إذا أردنا أن نذهب إلى البستان، وكلفناك بعمل (مجَدَّرة) هل تستطيع أن تعملها؟ قلت: نعم، قال: كيف؟ قلت: ننقي العدس، ثم نضعه في الماعون (الطنجرة) ونغلي عليه الماء، حتى إذا نضج وضعنا فوقه البرغل... واستغرق في حديثه معي دقائق معدودة، حتى آنس مني الانبساط، وأنه سُرِّي عني، فقال: افتح الكتاب وعد للفحص، فأجبت الجواب المحكم، وكان الفضل لله وعناية هذا الأستاذ الرحيمة، ولو أنه اشتد علي كغيره لرسبت في الفحص، لا عن عجز أو ضعف، لكن عن هيبة ووجل.
وكان _ رحمه الله تعالى _ متواضعا جدا، لا يعرف التكبر، ولا يحب الظهور، ويبعد كل البعد عن الحفلات الرسمية والنوادي والمجتمعات, فهو لا يعرف إلا المدرسة العثمانية (الرضائية) وكان يشتاق إليها إذا بعد عنها في رحلة قصيرة إلى مضارب الأعراب، فسرعان ما يعود إلى العثمانية التي أحبها حبا جما, فقد كان يأتي إليها بعيد طلوع الشمس، وينصرف قبيل غروبها، فلا يتقيد بدوام الحكومة، بل يداوم ضعفيه، وقد اختارني _ رحمه الله تعالى _ لأمانة الفتوى، وكنت معتادا على الدوام الرسمي في دائرة أوقاف حلب، حتى إذا انقضى الدوام ذاكرت أخي وزميلي ابنه الأستاذ محمد المهدي الكردي، بأن الدوام قد انقضى، فيجيبني ضاحكا: ليس لدى والدي دوام كدوام الحكومة, وكان الأستاذ يشعر بعض الأحيان بأننا (أنا وابنه) نضجر من البقاء إلى المساء، فكان يسرى عنا ويقول: يا ولدي، لعل فلاحا يأتي لسؤال فلا يجدنا فيضطر للمبيت ويتكبد نفقات ومشقة وبعدا عن أهله، فماذا يضيرنا إذا بقينا زيادة ساعات من الدوام، يتضاعف فيها الأجر والمثوبة, فكنا نمتثل أمره على مضض، ونبقى معه مكرهين، وكان إذا أراد أن يأخذ طلابه إلى نزهة في البستان لا يميز نفسه عن واحد منهم، فيمشي بجانبهم، ويجلس في البستان كواحد منهم, ويعمل في تهيئة الطعام كأحدهم، ويأخذ الطلاب حريتهم معه باللعب، ولا يشعرون بأي عنف أو شدة منه.
كان _ رحمه الله تعالى _ وقَّافا عند حدود الله تعالى, صلبا في الحفاظ على أموال الأوقاف كالصخرة القوية تتكسر عليها أطماع الطامعين، كنت موظفا في دائرة الأوقاف بحلب، واطلعت على بعض أعماله وصلابته وعدم تسامحه في صرف قرش واحد من أموال الأوقاف في غير طريقه، حتى أذكر أنه في بعض السنين أرادت دار الأيتام الإسلامية أن تأخذ قطعة أرض من أموال الأوقاف مجانا، فلم يوافق, ولما قيل له في ذلك: إن الأيتام هم أضعف فقراء المسلمين، أجاب بأن أموال الأوقاف حبسها الواقفون لجهات معينة لا يجوز الخروج عليها, أما الأيتام فيجب على المسلمين عامة أن يكفوهم مئونتهم, وإنني شخصيا أساهم بقدر استطاعتي، وراجعه متنفذ كبير بواسطة محام قدير في بعض الشئون التي فيها إضاعة مال الأوقاف, فأخذ عصاه وحاول أن ينقض عليه بعد أن اسمعه ما يكره فهربا حافيا , وأذكر له كثيرا من المواقف المشرفة.
وخلاصة القول، فإن سماحة الأستاذ الشيخ أحمد الكردي كان علامة عصره, ووحيد دهره، علما وتقى وأخلاقا، وكان مجموعة نادرة في العلوم والمعارف, وكانت خسارة الشهباء به لا تعوض, رحمه الله، وعوضنا عنه حفيده الشاب الذي نشأ في طاعة الله السيد أحمد الحجي، إنه سميع مجيب, والله من وراء القصد.