حياته العلمية
تخصصه:
لقد كان – رحمه الله تعالى – حاد الذكاء قوي الحافظة, حريصاً على العلم بشتى أنواعه وفنونه, بعيداً عن الدنيا ومشكلاتها, عاكفاً على دراسته وتدريسه, لا يهمه غير العلم، فلا يلقي بالاً لسواه، مما كان له أكبر الأثر في تكوين شخصيته الفذة، فجمعت من العلوم أشتاتاً، ومن الفنون أنواعاً وأشكالاً, فلا نراه متبحراً في العلوم العربية وفنونها على مختلف أشكالها وأنواعها وصورها، حتى نراه المشار إليه بالبنان في علوم الفقه والأصول, وحتى نراه المرجع الأول في علوم المنطق, وحتى نراه الحجة في علوم الكلام, والأول من نوعه في علوم المناظرة وآداب البحث, والمبرز في علوم الفلك والنجوم.
وهكذا نرى شيخنا موسوعة عظيمة لأنواع شتى من العلوم، وأشكال مختلفة من الفنون.
كان –رحمه الله تعالى- لا يكتفي بمطلق العلم بأحد هذه العلوم، بل كان يغوص في العلم إلى أعماقه، فيستخرج خباياه، ويكشف عن أسراره، ويزيح الستار عن غوامضه, حتى يصبح فيه الحجة والمرجع الأول للمختصين العاكفين على اكتشاف أسراره وخفاياه, ولكنه مع ذلك ورغم هذا التبحر كله كان يفضل العربية وعلومها، والفقه والأصول وفروعهما، على بقية العلوم, وكان يخصها بأكبر حظ من الوقت الثمين الموزع على جميع هاتيك العلوم.
لقد كان -رحمه الله تعالى- في اللغة العربية المرجع الأول، لا في حلب فقط، بل ولا في سورية وحدها، بل في العالم العربي كله, أقر له بذلك جهابذة علم اللغة والأدب في البلاد العربية، وجعلوه مرجعهم وقدوتهم في ما أشكل عليهم فهمه من اللغة والأدب، وكان من جملة ما يكاتبه ويعتمد على ما يرى في المسائل اللغوية، فقيد الوطن اللغوي الشهير الشيخ إبراهيم اليازجي.
يحكي الشيخ كامل الغزي عنه فيقول: (طالما كنا نبحث عن اسم مسمى نعرفه ولا نعرف له اسماً في اللغة العربية، بعد أن ننقب عنه في معاجم اللغة فلا نظفر من طول بحثنا بطائل، فنسأله عنه فيجيبنا على الفور والبديهية بقوله: اسمه كذا, وهو مذكور في المادة الفلانية من المعجم الفلاني, أو في الشعر المنسوب إلى فلان، فنراجعه فنراه صريحاً كما أفاد.
ومن ذلك ما حكاه السيد الفاضل الأديب الشيخ طاهر أفندي الكيَّالي "الطيار" أنه بحث عما يتساقط من فتيل المصباح ما اسمه، ليجعله عنواناً لنقد في جريدة المصباح، فلم يهتد لاسمه، مع سؤاله جماعة من أهل اللغة والعلم، فسأله عنه على صفحات الجريدة، فأجابه في اليوم التالي: اسمه قراطة)، وإنني سمعت هذه الحادثة من الشيخ طاهر أفندي الكيَّالي نفسه مرات عديدة في معرض التحدث عن الشيخ بشير الغزي ـ رحمه الله ـ.
وأما معرفته بالأدب, وتبحره في كلام العرب وأخبارهم وغرائب أشعارهم، فقد كان في ذلك الآية الكبرى, وناهيك شاهداً على طول باعه في هذا الفن، أن جماعة من عشاق الأدب كانت تجمعهم وإياه رابطة الصداقة في بعض المجالس التي كان يتوخى زيارتها في بعض الأحيان, فكانوا يترقبون مجيأه إلى تلك المجالس, فيغتنمون فرصة الاجتماع به ويستوضحون منه عما أعياهم فهمه من رسالة الغفران، و لزوميات أبي العلاء، وغيرهما, فكان يجيبهم على أسئلتهم على الفور, فيحل لهم رموزها, ويطلعهم على ما خفي من إشاراتها، ويأتيهم بالعجب العجاب من الأشعار والأمثال الشاهدة على صحة فهمه وسرعة جوابه, والغريب في ذلك أنه لم يملك كتاب اللزوميات ولا رسالة الغفران و لا اقتناهما قط.
وكان ـ رحمه الله تعالى ـ إذا تكلم في الأدب تخيل من يسمعه أنه يمكن أن يملي من حفظه كتاب الأغاني, وكتاب الحماسة, وأمالي القالي, وكتاب الكامل للمبرد, ومختارات الثلاثة: الطائي والبحتري والمتنبي، وغير ذلك من المحفوظات التي يكاد العقل يحيل جمعها في صدر.
وأما تضلعه في الفقه والأصول، فقد شهد به العلماء, ووقف أمامه واجماً كبار الجهابذة والمختصين بهذه الفنون، فكان لا يأتي على مسألة فقهية إلا ويبسط الأقوال فيها على ضوء المذاهب جميعها, ويوضح الأدلة التي تدعم كل قول من منقول ومعقول، ثم نراه بعد ذلك يخلص منها إلى رأي سديد مدعم بالأدلة الناهضة التي إذا نظر إليها عالم لم يسعه إلا أن يسلم بحجيتها وبطلان ما عداها.
ثم إن نبوغه في هذا الفن العويص البعيد الأهداف, وتقدمه فيه على جميع الأقران, جعله يترأس الحركة الفقهية في المدينة (حلب) مدة حياته, فشاع صيته، واشتُهر أمره, وكان المرجع الأول والحجة الدامغة في كل خلاف فقهي يقع بين العلماء في الشهباء, مما حدا بالسلطات المختصة إلى إحداث وظيفة قاضي القضاة في حلب من أجله, فتسلمها إلى أن توفاه الله، حيث ألغي هذا المنصب عقب وفاته، لعدم وجود من يخلفه فيه.