وفاتـــه
تشييعه وما قيل في رثائه:
كانت وفاته ـ رحمه الله تعالى ـ غداة يوم السبت، الخامس عشر من شهر ربيع الأول، عام /1373/ هـ. الموافق للحادي والعشرين من تشرين الثاني، عام /1953/ م، في منزله في حي البياضة بحلب، بين أهله وذويه, وكان عند رأسه ساعة وفاته أولاده وأحفاده، وتلميذه الطبيب الدكتور عمر خياطة, وما أن لفظ أنفاسه الأخيرة بهدوء وسكينة، حتى شاع النعي وانتشر النبأ المحزن في المحلة، ومنها إلى سائر أنحاء المدينة، فوفد إلى داره الكثير من أقربائه وجيرانه وتلاميذه، يعزوننا بالمصاب الجلل، وفي صبيحة اليوم الثاني الأحد، شيع جثمانه الطاهر, فصلى عليه في جامع بانقوسا عدد جم من العلماء والوجهاء, ثم ووري في مقره الأخير في مقبرة (كرزداده) في محلة قاضي عسكر في حلب.
ولقد سار في جنازته ـ رحمه الله تعالى ـ جمع غفير من العلماء والتجار والموظفين، كما سار في جنازته محافظ حلب، وقائد شرطتها، ومدير الأوقاف، والقضاة، وطلاب المدارس الشرعية، ووفود عديدة من رجالات المناطق والنواحي التابعة لحلب، كل ذلك بالإضافة إلى جماعات أبناء الشعب الحلبي، وقد ألقى على ضريحه بعض العلماء الخطب المطولة، شرحوا فيها صفاته ومراحل حياته وأثره في الحركة العلمية التي قامت مؤخراً في حلب، وكان ممن تحدث في ذلك المقام الأستاذ الشيخ محمد الحكيم القاضي الشرعي بحلب يومها، والأستاذ عمر مكناس أمين الفتوى فيها، الذي ألقى كلمة بكى لها الحاضرون جميعاً، كما ألقى قصيدة أشاد فيها بمكارم أخلاقه، سأدرج في آخر هذا الفصل بعض أبياتها ومقتطفات من الكلمة التي ألقاها, كما ألقى الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة كلمة ضافية أيضاً.
وقد تلقينا في تأبينه والتعزية فيه عدداً جماً من البرقيات والرسائل من مختلف المحافظات والمناطق السورية.
وفي ذلك اليوم خبا نبراس علم، ومصباح هداية, وغربت عن أفق الشهباء شمس طالما أنارت للسالكين طريق الخير والرشاد, تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح الجنات، إنه سميع مجيب.
مقتطفات من القصيدة والكلمة التي ألقاها الأستاذ عمر مكناس أمين فتوى حلب على ضريح المرحوم الشيخ أحمد الكردي ساعة مواراته في التراب أمام الجمع الحافل من المشيعين:
سهام الموت في الأخيار عجلى |
|
وبالأشـرار كم تمشـي وئيدا |
فلا تقرر إذا ابتسـمت ليال |
|
ففي أسحارها تجد الرعـودا |
أيا غصناً من العلماء يـذوي |
|
و يا بدراً هـوى فينا فريــداً |
ويا طود العلوم فدتك نفسـي |
|
وهـذا البحر قد سـكن اللحودا |
فكـم من موقف دافعت فيـه |
|
عن الضعفاء لا تخشـى وعيدا |
ومنها:
قضيـت العمر في علم ونفع |
|
وسـهلت المصـادر والورودا |
وقـد كنت المعلـم والمربـي |
|
وكنت البحر عرفانا و جـودا |
أأحمد هـذه الأيـام ذكـرى |
|
لفقدك فالأسـى ملأ الوجـودا |
ولكن ســنة الجبـار فينـا |
|
نـودع راحلاً لنـرى وليـدا |
حييـت محبباً مـن كل نفس |
|
ومـتَّ معظمـاً فيهـا ودودا |
تدثـر في ثراك قرير عيـن |
|
لقد أعطيتنـا درسـاً مفيـدا |
بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله الباقي على الدوام, الذي لا يحيطه موت ولا يعتريه انعدام, و الصلاة والسلام على خير الأنام، وآله وصحبه ما كر المَلَوان وتعاقب الجديدان، وبعد: لمثل هذا فليعمل العاملون، لكل أجل كتاب, كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، في كتاب الله سلوة عن فقد كل حبيب وإن لم تطب النفس عنه, وإن عظمت اللوعة به، إذ يقول عز وجل: (كلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(القصص: من الآية88) وحيث يقول: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:156) ، والموت سبيل الماضين والغابرين والخلائق أجمعين, وفي أنبياء الله وسالف أوليائه أفضل العبر وأحسن الأسوة.
أيها الراحل العزيز على كل نفس, المقيم في سويداء كل قلب، أي كوكب هوى من سمائه, وأي طود دُك من عليائه, أي غصن رطيب ذوى, وأي فاجعة حلت بالشهباء، إن الخطب جسيم، والمصاب جلل، لا حول ولا قوة إلا بالله.
أجل لقد مات العلامة الكردي، وترك في العيون دمعة، وفي النفوس لوعة، لقد فجعت الشهباء بلفيف من علمائها كانوا كواكب مشرقات, وبدوراً ساطعات، فجعت الشهباء بالعلامة الإدلبي، وبعده الأستاذ الشماع, وها نحن اليوم نودع العلامة الكردي، خاتمة الفقهاء، وآخر الجهابذة العلماء، وهكذا نرى قوافل العلماء سائرة دون رجعة ولا تعويض, ولا ريب أن خسارة العلماء أفدح الخسائر التي تنزل بالأمة، لأنهم ورثة الأنبياء، والهداة المصلحون، لقد كان الفقيد الراحل جبلاً أشم في العلم, لا تعرض مشكلة علمية إلا ويكون حلالها، وكان مجموعة نادرة في العلوم الشرعية والعقلية على اختلاف أنواعها، وكان _ رحمه الله تعالى _ جريئاً في الحق لا تأخذه فيه لومة لائم, يقول الحق مهما ترتب عليه من نتائج, ولا يخشى في الله أحداً، وكان يحب الخير ويساعد الضعفاء ويعطف على طلاب العلم.
أيها الراحل الكريم: إن نفوسنا التي أحبتك, وأرواحنا التي ألفتك, لتمر باضطراب لبعدك, وألم عظيم لفقدك، وإن قلوبنا التي أحلتك في سويدائها لتشعر بعدك بفراغ كبير، لئن غبت عنا فإنك في القلوب مقيم، لا ينزع صورتك وصحبتك من القلوب كر الأعوام و مر الدهور، رحمك الله رحمة واسعة, وأغدق عليك من فيض غفرانه, و أسكنك فسيح جناته, والهم آلك الصبر والسلوان, وعوض هذه الأمة المسكينة عنك خير عوض، إنه سميع مجيب, وإنا لله وإنا إليه راجعون.