صفاته الخَلقية والخُلقية، وعدم اكتراثه بالدنيا، وجرأته في الحق:
لقد كان ـ رحمه الله تعالى ـ طويل القامة, مستقيم الظهر, حنطي اللون, كث اللحية, خفيف شعر الرأس, حسن الثياب, عالي الصوت, متواضعاً في جلسته, سريعاً في مشيته, حاد البصر, قوي البنية, مفتول الساعدين, جريئاً في الحق, صريحاً في القول, لا يعرف المخاتلة ولا المخادعة, ويكره الكذب، ويبغض الكذابين ويوبخهم, طويل الأناة, حسن الخلق, فإذا انتهكت الحرمات وارتكبت المخالفات وأعرض أحد عن الحق، ثارت ثورته، واستُفزت حفيظته, وطالما ضرب مستفتياً أعرض عن الحق وأبت عليه نفسه الخبيثة الانصياع إلى حكم الله تعالى بعصا كانت بجانبه لا تفارقه , كما كان ـ رحمه الله تعالى ـ سمحاً في معاملته, وفي قضائه واستقضائه، يكرم الضيوف، ويحب الزوار، ويخدمهم بنفسه, ويحنو على الفقراء والضعفاء من الناس ويساعدهم ويعطف عليهم ويسعى جهده لسد عوزهم بما أوتيه من إمكانات, كما كان يحب العلماء وبخاصة الفقراء منهم, ويرأف بحالهم, ويسعى لتأمين الموارد الكافية لهم، التي تستر وجوههم من المسألة، وتشجعهم على الانصراف لطلب العلم، وكثيراً ما سعى لتوظيفهم في دائرة الأوقاف أئمة وخطباء ومدرسين، أوفي غيرها من الوظائف التي تؤهلهم كفاءتهم العلمية لها, وكثيراً ما اضطر أعضاء مجلس أوقاف حلب الذي يرأسه هو إلى زيادة راتب إمام أو مؤذن تقي فقير لا يكفيه راتبه الضئيل رغم المعارضين والمناوئين له.
وكان ـ رحمه الله تعالى ـ يحرص كل الحرص على أموال الأوقاف واستثمارها خير استثمار, وصونها عن الخراب والدمار, فيغضب إذا أجِّر عقار بدون أجر مثله، أواستبدل بآخر لا يعادله في الثمن, وأذكر على سبيل المثال أن دائرة أوقاف حلب أقامت مبنى جديداً يضم عدداً كبيراً من المحلات التجارية والدور في مكان يدعى العبارة ـ أحد أحياء حلب الجديدة التجارية ـ وعند انتهاء البناء عرضت محلاته للإيجار، وبدأ الناس يتزايدون في إيجارها، ولكن رجلاً يدعى انتيبا طلب استئجار أحد المحلات الهامة فيها بثمن بخس يدفع غيره من المتزايدين أضعافه, وبطريقة ما استطاع هذا الرجل أن يستميل أكثرية أعضاء المجلس الوقفي والإدارة إلى جانبه, فمنعوا المتزايدين عن الزيادة في أجر هذا العقار المذكور، وفي اليوم المحدد للإحالة القطعية حضر جماعة من المستأجرين إلى المجلس الوقفي، وعرضوا عليه استعدادهم لاستئجار هذا العقار بأضعاف ما يستأجره انتيبا, ولكن أكثرية أعضاء المجلس رفضت هذا العرض دون مبرر، وأحالت العقار لاسم انتيبا بذلك الأجر الزهيد, عند ذلك ثارت ثورة الشيخ أحمد الكردي رئيس المجلس، حيث يغتصب مال الأوقاف أمام ناظريه، فانتصب على قدميه، وقال للمدير والأعضاء إذ ذاك: إنكم جماعة لصوص سارقون تنهبون أموال الأوقاف لتهبوها رجلاً ظالماً وتحجبوها عن مستحقيها الشرعيين الذين هم في الدرجة الأولى طلاب العلم الشرعي, وحرام عليَّ أن أجالسكم أو أجالس أمثالكم بعد اليوم, ثم انسحب من جلسة المجلس ولم يحضر بعدها جلسة له قط حتى توفاه الله تعالى.
وقد كان ـ رحمه الله تعالى ـ شديد الخوف من الله تعالى, يتحرج من الفتيا تحرجاً كبيراً، ولا يصدر فتواه إلا بعد تمحيص كبير وتدقيق طويل, و إلا بعد أن يرى فيها النص الصريح في أمهات كتب الفقه الحنفي، تحرزاً عن الوقوع في الخطأ, فإذا سئل مرة ثانية السؤال نفسه ولو في اليوم الثاني، لم ير بداً قبل الجواب من الرجوع إلى النص وتمحيصه من جديد، خشية أن يكون قد فهم العبارة في المرة الأولى على غير وجهها الصحيح.
وقد كان ـ رحمه الله تعالى ـ يحب أقاربه, ويصل أرحامه، ولا يألو جهداً في مساعدتهم وإن أساؤوا إليه, وكثيراً ما اضطر للاستدانة من صديق بغية مدهم بالمعونة والإنفاق على الفقراء منهم، وعندما توفي والده وترك وراءه شيئاً من الأموال والأراضي ـ تشح كثير من النفوس في التغاضي عن بعضها ـ لم يأخذ منها شيئا يذكر، سوى قطعة أرض واحدة رمزية تعتبر ذكرى له من والده, وترك كل شيء خلَّفه والده إلى أخيه وأخواته الذين كانوا يقطنون القرية آنذاك، والذين كان لهم أولاد كثر يحتاجون إلى النفقة الكثيرة.