طريقته في الدراسة والتدريس:
كان ـ رحمه الله تعالى ـ يحب المطالعة ويهواها ويدأب عليها, وقد كان يجلس الساعات الطويلة يواصل فيها القراءة والدراسة دون ما ملل أو نصب, ودون ما ضجر أو سأم, يفترض المشكلات الفقهية، ويبحث عن حلها، ويطيل البحث والتنقيب في بطون الكتب والمطولات إلى أن يظفر بالحل المرضي لها، والجواب السديد للإشكال الذي قام فيها, وقد يطول الزمن دون أن يظفر بالحل، ولكن ذلك لا يمنعه من الاستمرار في البحث، وقد يمتد به ذلك اليوم واليومين وأكثر من ذلك، وهو لا يترك البحث حتى يظفر ببغيته، ويقف على ما يريد, وطالما تراه مهتماً باستخراج حل لمشكلة، أو جواب لفتوى، وكان لا يرضى إلا بالقول الصحيح المرجح والمفتى به في المذهب الحنفي، أما القول المرجوح أو الضعيف فما كان يرضى بالأخذ به أو العمل بموجبه أو الفتوى بمضمونه، حرصاً منه على بقاء الشريعة صافية نقية، وخوفاً منه أن يقع المستفتون بالحرام أو الشبهات, وكان ـ رحمه الله تعالى ـ لا يرضى أن يفتي بغير مذهبه الحنفي، ولا أن يعمل بغيره، إلا في حالات الضرورة، لا انتقاصاً منه للمذاهب الأخرى، بل خوفاً من أن يشتبه عليه الأمر فيقع بالحرام، إذ إنه ليس على اطلاع واسع على الأحكام الجزئية لتلك المذاهب.
وكان لا يلقي درساً من دروسه، سواء في المدرسة الرضائية, الخسروية، أو الإسماعيلية، أو غيرها، إلا بعد أن يطالع البحث في الكتب, ويقف على دقائقه وجزئياته في حينه، ولو كان يتقن الموضوع تماماً, فإذا حضر الدرس شرح الموضوع على أوسع نطاق، مستقصياً جزئياته، مفيضاً في الكلام فيه، لا يترك شاردة ولا واردة تتعلق به أو تدلي إليه بسبب إلا ويتعرض لها، ويبين خفاياها, وكان ـ رحمه الله تعالى ـ يستعين في تقرير البحث بضرب الأمثلة الكثيرة التي تجسد الموضوع وترسخه في أذهان الطلاب، حتى إن أحدهم ما كان يحتاج إلى مراجعة البحث بعد ذلك أبداً، حتى ولا ليلة الامتحان في كثير من الأحيان، مهما بلغ الموضوع من الصعوبة والدقة, وكان يتقبل الاعتراضات عليه، والنقد لما قرره، بصدر رحب، وخلق واسع, ويناقش الناقد، ويفسح المجال أمامه ليدلي بأدلته وبراهينه، كما كان يفسح باب المناقشة والاستفسار في دروسه، ويجيب عليها، ويكرر تقريرها.
وكان ـ رحمه الله تعالى ـ يمتاز بعلو صوته، ووضوح نبراته أتناء التقرير والتدريس، ولو كان عدد الطلاب قليلاً لا يحتاج إلى ذلك, كما كان يجتهد في تقريره للمسألة حتى تراه يتصبب عرقاً في أبرد أيام الشتاء، مما يدل على حرصه الكبير على توضيح البحث وتقريبه إلى أذهان الطلاب بشتى الأساليب ومختلف الطرق، وإن طلابه الكثر في الشهباء وغيرها يعرفون منه ذلك حق المعرفة، حتى إن الكثير منه يذكر له ذلك في معرض المدح والثناء, والإجلال والإكبار.
وكان ـ رحمه الله تعالى ـ إذا استغرق في بحثه انقطع عن كل ما حوله, وصرف أذهان الطلاب جميعاً عن كل شاغلة لهم، بما يستهويهم به في عرضه للبحث، فيغرقون جميعاً معه في جو المسألة وسير الموضوع المعروض, ويمر الوقت، وتمضي الساعات، وهم غارقون في درسهم، مشغولون في موضوعهم، لا يصرفهم عنه إلا كثرة التعب الذي يصيب أعصابهم، فيتفرقون وكلهم شوق إلى الدرس القادم، متهيئون له بأفئدتهم وقلوبهم.
حدثني أحد تلاميذه، وهو الشيخ عبد الوهاب سكر، وهو من شيوخي الذين أخذت عنهم الفقه الحنفي في الكلية الشرعية-الخسروية سابقا- فقال: "عندما كنت طالباً في المدرسة الخسروية، طلبنا من الشيخ أحمد الكردي أن يقرأ لنا درساً إضافيا طيلة شهر رمضان، فوافق على ذلك، وحدد له موعداً بعد صلاة العشاء والتراويح من كل يوم، فكثيراً ما كنا نجلس للدرس عقب صلاة التراويح، فنستغرق في البحث ونغوص في أعماق الموضوع فننسى أنفسنا ولا نذكرها إلا على أصوات المدفع الأول الذي يعلن حلول وقت السحور".