النشأة الأولى والبيئة وبدء الدراسة:
شب –رحمه الله – وترعرع في حلب الشهباء مسقط رأسه, و كانت النجابة تلوح على ناصيته منذ حداثة سنه، فهو لم يبلغ السابعة من عمره حتى قرأ القرآن الكريم وحفظه بإتقان في سنة واحدة, وكان يلازم القراءة والكتابة بسائق نفسه دون إكراهه على ذلك.
وهنا يسرني أن أفسح المجال أمام أخيه لأمه والقائم على تربيته، الأديب الكبير والمؤرخ البحاثة الشيخ كامل الغزي ليتكلم عنه ويصف براعته وذكائه وقوة حافظته واندفاعه للتعلم، فيقول: "كنت وهو في التاسعة من عمره أعطيه الكتب المخطوطة السقيمة الخط، وأكلفه قراءتها، فكان يقرأ فيها بكل سرعة وفصاحة، مع قلة اللحن وغلبة الصواب على ألفاظه, وأول ما ظهر من حدة ذكائه وهو في هذه السن، أنه رسم الخاتم المخمس المنسوب للإمام الغزالي، علمه إياه الشيخ يوسف السرميني الشهير، ولما بلغ الثانية عشرة من عمره، بدأت أصحبه معي إلى خلوتي في المدرسة السيَّافية – إحدى مدارس حلب التي أقيمت في العهد العثماني وكانت إذ ذاك تذخر كغيرها من المدارس العلمية بالعلم والعلماء- فينام عندي، ومن ذلك الوقت شرعت أقرأ له بعض الكتب الصغيرة في النحو والصرف, كألفية النحو ولامية الأفعال لابن مالك, ومتن السلَّم في المنطق, ولست أعد مبالغاً إذا قلت: إنه حفظ ألفية ابن مالك بأقل من عشرين يوماً، فكنت أعجب من سرعة حفظه وقوة ذاكرته, وكنت مع هذا لا يمر عليَّ يوم إلا وأعطيه نبذة من كتب الأدب، فلا يلبث أن يحفظها، فلم يمض إلا أشهر قلائل حتى أصبح يستوعب في حافظته جملة وافرة من أشعار الجاهلية والمخضرمين, ونبذاً كثيرة من مختارات كتب الأدب والأخلاق.
وفي ذات يوم دخلت عليه بغتة، فرأيته مشتغلاً بحفظ متن الكنز في الفقه الحنفي، فقلت له: ما حملك على هذا؟ أجاب بقوله: سمعت أحد الطلبة يقول: من حفظ متن الكنز رزق مائة دينار، فأظهرت له مسرتي من حفظه، وأكدت له صحة ما سمعه، فما مضى غير قليل حتى أتى على حفظ ثلثه، أو أكثر، ثم عدل عنه، لأنه سمع من آخر أن من حفظ متن الكنز مات لعامه" انتهى كلام أخيه.
ولم يزل الشيخ يأوي إلى المدرسة السيَّافية – الواقعة في محلة الفرافرة من أحياء حلب – مع أخيه، ويتزود فيها من العلوم، إلى أن حضر إلى حلب الوزير العثماني محمد باشا الشرواني، عام /1291/ هـ، وصحب معه الشيخ كامل الغزي إلى البلاد الحجازية, فترك له خلوته المذكورة، وعندئذ عكف الشيخ بشير على البحث والتدقيق والسبر منفردا عن أخيه، حيث اشتد عوده، وقوي ساعده، وتفتحت مداركه وملكاته، وأصبح بإمكانه الانفراد للمطالعة والدرس.
ولم يمض على ذلك سنة واحدة حتى عاد أخوه من الحجاز، وجاور في المدرسة الرضائية (العثمانية) حتى عام /1295/ هـ، حيث غادرها وتنازل عن غرفته فيها له, فانتقل الشيخ بشير عندئذ من المدرسة السيَّافية إلى المدرسة الرضائية، التي تعتبر في حينه من أعظم مدارس حلب علماً وعلماء، ومنذ ذلك التاريخ بدأ يشتهر فضله, وأول ما اشتهر من مزاياه حسن الصوت وحسن الأداء في تلاوة القرآن الكريم، فكان الناس يهرعون إلى المدرسة الرضائية يوم الجمعة وقبل صلاتها لسماع تلاوته, ثم طُلب منه أن يؤم الناس في صلاة الصبح في رمضان بحرم الجامع الكبير في حلب، فأجاب الطلب، وصار الناس يهرعون إلى الجامع المذكور من أقصى المدينة وأدناها للائتمام به والاستماع لحسن قراءته, وقد واظب على ذلك –رحمه الله - مدة خمس وعشرين سنة.