صفاته الخَلقية والخُلُقية وعدم اكتراثه بالدنيا:
كان –رحمه الله تعالى– عظيم الهامة, بعيد ما بين المنكبين, واسع الجبين, مشرق الوجه, خفيف العارضين، لا يرى منهما سوى شعيرات قليلة, وكان الصلع يعم رأسه, مائلاً إلى الطول, ممتلئ الثياب, مفتول الساعدين, عظيم الكفين والقدمين، يميل لون وجهه إلى الاصفرار، ولون بشرته إلى البياض الناصع, لو رآه راء امتلأ منه هيبة ووقاراً وإجلال وإكبارا، كما كان حلو الحديث, عذب الفكاهة, حاضر البديهة, كثير الصمت, حسن التفهم, حسن التفهيم, ذا أناة وسكينة في حديثه, وقلما يتحدث بنادرة أدبية يعرفها أحد من أهل مجلسه, كما أنه لم يسمع منه قط حديث معاد.
حدثني أحد تلامذته الذين كانوا يحضرون مجالسه ودروسه، فقال: (جالسته سنين طويلة، فما رأيته أعاد حديثاً قط, ولا سمعته كرر نكتة أدبية أبداً) مما يدل على سعة اطلاعه وتبحره في عالم الأدب، وحضور بديهته، وتوقد ذكائه.
كما كان إلى جانب ذلك كله كريم النفس، يحب العلماء ويجلهم ويحترمهم, ويبغض كل من يتربص بهم الشر، أو يزدري بهم، أو لا يعترف لهم بالفضل) وحدثني آخر من طلابه فقال: (زار أحد المستشرقين الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر، ويدسون على الإسلام أشنع الوصمات، مدينة حلب، ورغب في زيارة المكتبة الخاصة بالمدرسة الرضائية (العثمانية) التي كان الشيخ رحمه الله المدرس الأول فيها, حيث إن مكتبتها ذات قيمة أثرية وعلمية كبيرة، لما تحويه من الكتب المخطوطة والمطبوعة النادرة, ولمَّا دخل المستشرق المدرسة ووراءه ذلك الرتل العظيم ممن هانت عليهم نفوسهم من طلاب العلم والمسؤولين في الحكومة، يظهرون له السرور والترحيب والحفاوة به، أبت نفس الشيخ عليه أن تنساق أو تنخرط في ذلك الجمع الذي لا يزيد المستشرق إلا إمعانا في انحرافه وضلاله, فبقي خالساً على كرسيه في ناحية من المدرسة لم يتزحزح، ولم يظهر أي اكتراث أو ابتهاج, مما أثار غيظ المستشرق وحنقه، ولكن دهاءه منعه من إظهار أي شيء، فتجاهل الأمر, ودخل إلى المكتبة، واطلع على ما فيها من فرائد المخطوطات، ونفائس المطبوعات، وبعد ساعة من الزمن خرج منها، فإذا بالشيخ على حالته الأولى يقرأ في رسالة صغيرة معه، عند ذلك دنا المستشرق بمن معه من مرافقيه إلى كرسي الشيخ، ليسأله: ماذا تقرأ يا سيادة الشيخ؟ متهكماً، فأجاب الشيخ – سب واقع الحال-: رسالة في فن العروض، فقال المستشرق: أولك اطلاع في هذا الفن؟ أجاب الشيخ: قليل، عند ذلك استغلها المستشرق فرصة سانحة يسفه فيها رأي الشيخ، ويبين له فيها جهله، فسأله: هل تستطيع أن تأتيني ببيت من البحر الوافر؟ عند ذلك طار قلب الشيخ فرحاً وسروراً، لأنه سيشفي غيظه من ذلك المتكبر، فنظر إليه بطرفه، فإذا له لحية طويلة، أثارت في نفس الشيخ شاعريته المبدعة، وحافظته الواسعة، فأنشده في الحال بيتاً من البحر الذي طلبه، فقال:
ألا ليت اللحى كانت حشيشاً |
فترعاها خيول المسلمين |
مع العلم بأن الشيخ لم تكن له لحية بطبيعته، وأن اللام هنا للعهد، ويقصد بها الشيخ -رحمه الله تعالى- لحى أولئك المضللين من الناس فقط، لأن اللحية للمسلمين سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، عند ذلك لوى ذلك المتكبر رقبته وانصرف والغضب يملأ نفسه.