المناصب العلمية والوظائف التي تقلب فيها:
بلغ – رحمه الله تعالى- الثالثة والخمسين من عمره وليس له من الوظائف سوى ما مُعيَّنه نحو مئتي قرش في الشهر، مع أنه كان في ذلك الوقت قد اشتهر فضله، وطار في العالم الإسلامي صيته، وقصده طلاب العلم ورواده من الأقطار الإسلامية، يأخذون عنه ما أشكل عليهم حله من المسائل العلمية في فنون شتى، وكان سبب قلة رواتبه عدم تعرضه لشيء من الوظائف، صونا لشرف العلم عن الابتذال، وقناعة منه بما يسره الله له من كفاف العيش، وأول وظيفة حازها هي" أمانة الفتوى بحلب" حيث عين فيها دون طلب منه، بل وبغير رضاه، ثم عين بعد ذلك مدرساً في مدرسة "سعد الله الملطي" في جامع السروي في البياضة – وهي إحدى المناطق القديمة في حلب، تقع في الشمال الشرقي من القلعة، وهي من الأحياء التي كان يقطنها أشراف المدينة ، ثم أصبح مدرساً للمدرسة القرناصية في حي الفرافرة، فكان له في ذلك الأثر البين، حيث تخرج علي يده في هاتين المدرستين عدد جم من العلماء والأدباء والعظماء، الذين كان لهم كبير فضل في نهضة حلب العلمية.
وبعد أن حدث الانقلاب الدستوري العثماني، انتخب رئيساً لجمعية الاتحاد والترقي، ومنذ ذلك العهد خاض الشيخ غمار السياسة، بعدما غاص في أعماق العلم، ولم يمض عليه برهة وجيزة حتى تسلق القمة في فن السياسة والإدارة، وأظهر مهارة وحسن تصرف في هذين الميدانين، مما حدا بأعضاء مجلس المبعوثان إلى انتخابه نائباُ لرئيسه، وفي تلك الفترة عرضت عليه مهمة القيام بفتوى حلب، وألح عليه أولو الحل والعقد بقبولها، فلم يفعل، رعاية لخاطر المفتي الحالي، وحرصاً على قلبه من الانكسار، وبذلك تجلى بأبهى حلل الكمال والنبل الإنساني.
ولما كانت الحرب العالمية الأولى أغلق مجلس المبعوثان –النواب- ورجع الشيخ إلى حلب، فانتخب عضواً في محكمة الاستئناف فيها، ثم عين رئيساً لها، وكانت له اليد الطولى في القضاء بالحق وإنصاف المظلومين، كما كان مبدعاُ ومتفوقاً في استنباط الطرق المؤدية إلى إظهار الواقع.
ومما اشتهر به النزاهة التامة والحياد الكامل، وكان – رحمه الله تعالى - متحلياً بكل ما على القاضي أن يتحلى به، من ابتعاد عن الشبهات، وفرض سطوة القضاء على رؤوس الجبابرة والظالمين، كما كان جريئاً في تنفيذ الأحكام العادلة، وإنزال أقصى العقوبة بمن يستحقها، فكان لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يشعر بأي ضعف أو وهن أمام تنفيذ الحق وإقامة العدل.
وبعد دخول العرب إلى حلب عين مدرساً في المدرسة الرضائية، مع بقائه رئيساً للمحكمة الآنفة الذكر، ثم عين قاضيا للمحكمة الشرعية، ثم لم يمض على ذلك سنتان حتى عينته الحكومة الفرنسية المنتدبة قاضي قضاة دولة حلب، فعين جدي –رحمه الله تعالى - رئيساً للكتاب لديه، ولكن المرض كان قد بدأ به، فتردد إلى محل وظيفته المرة والمرتين، ثم أعاقه المرض عن القيام بها، إلى أن أدركته الوفاة، فألغي المنصب وقتئذ لعدم وجود من يخلفه فيه كما تقدم.