حياته العلمية
بدء الدراسة:
لقد غادر ـ رحمه الله تعالى ـ قرية تل عرن مسقط رأسه إلى حلب الشهباء وهو في الثامنة عشرة من عمره كما تقدم, فدخل المدرسة الرضائية (العثمانية) وهي إذ ذاك من أشهر مدارس الشهباء، تعج بالعلم والعلماء, يُدرَّس فيها الفقه والأصول والتفسير والحديث، إلى جانب العلوم العربية وعلوم الآلات، على أيدي كبار العلماء، أمثال الشيخ بشير الغزي, والشيخ حسين الكردي، والشيخ الكلاَّوي، وغيرهم، ممن شاع صيتهم في الأقطار والأمصار.
بدأ ـ رحمه الله تعالى ـ من حينه الدأب والدرس والاستفادة، وعَرف ذلك منه أساتذته فانقطعوا له، وتعرضوا لإفادته، وانكبوا على تعليمه, فقد كان يمر عليه اليوم كله يقضيه في المطالعة والاستماع للدروس دون ما نصب أو ملل, وقد يسهر الليل كله، فيطلع عليه الفجر وهو في درسه ومطالعته واجتهاده.
حدثني والدي الشيخ محمد المهدي الكردي، فقال: حدثني الشيخ علي المرعشي -من طلاب العلم- وكان مقيماً بجانب المدرسة الرضائية (العثمانية) فقال: (إن من عادتي أن أنزل كل يوم إلى المدرسة قبيل طلوع الفجر، للتهيؤ للصلاة، وكنت كلما نزلت إليها وجدتها مظلمة راكدة، وكل من فيها من الطلاب نائمون، إلا غرفة والدك الشيخ أحمد الكردي، فهي منارة بالمصباح, فإذا اقتربت منها وجدته فيها مستيقظاً يطالع دروسه، وقليلاً ما كنت أراه متكئاً والكتاب على صدره، وقد أخذّته سنة من النوم، وكانت هذه عادتي طيلة حياتي).
لم يكن جدي ـ رحمه الله تعالى ـ ليقتصر على الدراسة في المدرسة الرضائية فحسب، بل كان يتنقل بين المدارس العلمية في حلب، كالمدرسة الشعبانية، والقرناصية، والإسماعيلية، والأحمدية، وغيرها، فيتابع العلم، ويستمع إلى العلماء, ويناظر الطلاب والأقران، حرصاً منه على الفائدة، وتوخياً للصواب. ولم ينقطع ـ رحمه الله تعالى ـ عن الدراسة والبحث في شتى مراحل حياته، وحتى شيخوخته، وقبيل وفاته, بل كان لا يفضل على المطالعة شيئا إطلاقا, وعندما لا يظفر بمطلوبه، ولا بالحل المرضي لمشكلته، تجده قلقاً مضطرباً، وكأنما فقد أعز شيء لديه, يحب العلم للعلم, ويبلغ به السرور منتهاه إذا ظفر بحل لمشكلته أو تفسير محكم لما عرض عليه من فتوى, كما كان حريصا كل الحرص على الفائدة العلمية، ولا تأبى عليه نفسه أن يجد الفائدة عند أقل الناس، بل كانت طريقته: (خذ الحكمة أنى وجدتها، والمعرفة أنى رأيتها، ولو عند أتفه الناس وأقلهم علما ومعرفة).
وكان – رحمه الله تعالى - يحب الكتب العلمية ويقتنيها ويخصها بحظ وافر من دخله، ويفضلها على الطعام والشراب، ويقول: هذه غذاء الأرواح، وأفرح بالكتاب الجديد كما يفرح الولد الصغير باللعبة تقدم إليه، وكثيراً ما جد الطلب في سبيل الحصول عليها فكلفته أضعاف ثمنها إذا كانت نادرة، وطالما أوصى طلابه الموفدين إلى مصر وغيرها بشراء ما جد طبعه من كتب وإرسالها إليه مهما بلغ الثمن والتكلفة, حدثني بذلك أكثر من واحد، منهم الدكتور محمد فوزي فيض الله، والأستاذ عبد الفتاح أبو غده، والأستاذ عبد الوهاب سكر، وكان _ رحمه الله تعالى _ حريصاً على كتبه من أن ينالها التمزيق والتفتت، ويعيب كثيراً على من يعبث بها أو يفتتها أثناء المطالعة, فكُتُبه كلها نظيفة جديدة, بل كان يكره المطالعة في كتاب عبثت به الأيدي اللاعبة، فضلاً عن شرائه, بل كثيراً ما كان يبيع كتاباً قيماً بثمن بخس أو يقدمه هدية لأحد طلاب العلم إذا ما حدث أن مزقت منه ورقة أو نقص منه كراس واحد، وأذكر أنه أهدى نسخة من حاشية ابن عابدين على الدر المختار لأحد طلابه، لأنه وجد فيها تمزيقاً في بعض الأوراق، مع أن ثمنها في حينه يزيد على المائة ليرة سورية، وكان رغم ذلك كله لا يبخل بإعارة كتاب لأحد زملائه أو طلابه، بل كثيراً ما كانت كتبه تضيع وتتبدد بهذه الطريقة.