عناية الإسلام بالأسرة
إن الأسرة في التشريع الإسلامي هي النواة الأولى لبناء المجتمع، وبقدر ما تكون الأسرة قوية متماسكة بقدر ما يكون المجتمع قويا متماسكا، متينا مثمرا متحضرا، ومن هنا جاء اهتمام الإسلام قرآنا وسنة ببناء الأسرة المسلمة، وإقامتها على أدق وأرقى الأسس الاجتماعية، والخُلقية، وحفظ الأنساب، وكرامة الإنسان.
ولما كان عماد الأسرة الزوجان، ومن بعدهما الآباء والأبناء، ثم الإخوة ثم الأعمام ثم الأخوال والأرحام... كان لابد من تنظيم العلاقة بين هؤلاء جميعا على أسس عادلة حكيمة، من نواحيها جميعا: الاجتماعية، والتشريعية، والاقتصادية، والعاطفية، وقد جاء ذلك كله مستوفى في تشريعنا الإسلامي الحنيف، قال تعالى: « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا » 3/ المائدة، ويظهر ذلك جليا في الأمور التالية:
1- أقام الإسلام الزواج بين الزوجين على أساس الرغبة التامة والرضا الكامل من كل منهما للآخر، فلا سلطان لولي، ولا قاض، ولا أمير، ولا غيرهم، على الزوجين في ذلك متى كانا عاقلين بالغين بصيرين بأمورهما، مدركين لمصالحهما، وذلك على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية، من إغفال لرضاهما، وإهدار لرغباتهما، وعلى خلاف ما هو الأمر عليه في بعض مجتمعاتنا الحاضرة، من إجبار الشاب على الزواج ممن لا يرغب فيها ، وإجبار الشابَّة على الزواج ممن لا تطمع في مثله، مما تهدَر معه إنسانية الإنسان وكرامته وحريته، وتضيع في ثناياه سعادته، وتتولد منه المشكلات الأسرية والرزايا التي تهدم الأسر وتشرد الأولاد وتمزِّق أواصر المجتمع، وتقلب الأمة الواحدة إلى أمم متفرقة متناحرة، وهو ما يأباه الإسلام ويُنَفِّر منه، قال سبحانه: «(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92)
2- أقام الإسلام الحياة الزوجية على أسس من المودة والألفة بين الزوجين، والتكريم المتبادل بينهما، والتعاون على رعاية الأسرة، فلا تَجَبُّر من الزوج على زوجته وأولاده ، ولا تمرد من الزوجة على زوجها، ولكن محبة وتعاون، وما أجمل التعبير القرآني الذي قرر هذا المعنى السامي، وهو قوله تعالى: « ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون » 21/ الروم.
3- اهتم الإسلام برعاية الأولاد، والقيام بأودهم، والإنفاق عليهم، وحسن تربيتهم، والاهتمام بعقيدتهم وثقافتهم وحبهم لله تعالى، وتنفيذهم لأحكامه سبحان، فأوجب النفقة على الأب، والحضانة على الأم، وأوجب تعليمهم القرآن الكريم، وأَمْرَهم بالصلاة والصوم وجميع العبادات الإسلامية ، قال صلى الله عليه وسلم: ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: ( كلُّكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته) متفق عليه. وقال جل من قائل: ( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا) 7 / الطلاق، وقال صلى الله عليه وسلم: (وليبدأ أحدكم بمن يعول) رواه أحمد والدارمي،
4- نظَّم الإسلام أمور الأسرة المالية، فبيَّن من تجب عليه النفقة ومن تجب له النفقة، وبيَّن حدودها وطريقة استيفائها، وأنها واجب من الواجبات الدينية والقضائية، وليست صدقة فيها مِنّة، وأنها واجبة للزوجة والوالدين وإن كانوا مخالفين للولد في الدين، وتجب للأولاد ماداموا صغارا فقراء محتاجين للنفقة، وتجب لجميع الإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات ومن وراءهم، ماداموا فقراء عاجزين عن الكسب، وذلك بتنظيم دقيق عادل، مما دفع بعض المستشرقين إلى القول بأن محمدا صلى الله عليه وسلم حل مشكلة الفقر في العالم وهو يشرب فنجانا من القهوة،
وهكذا تستغني الأسرة بأفرادها عن الحاجة إلى من سواهم أو وراءهم، مما يوفر لها الكرامة ودوام الاستمرار في العيش الرغيد.
5- نظَّم الإسلام مشاكل الأسرة، وما قد يثور بين الزوجين من الاختلاف، وما قد يحدث بين الأحماء من غيرة أو ضيق، بروح واقعية موضوعية، وسعى إلى حل كل هذه المشكلات بوضوح رؤية، وسلامة منهج، وعدالة حكم، وقوة بصيرة، وبعد نظر، وحكمة بالغة، ولمَ لا ! فإنه تشريع الله تعالى الحكيم الحميد الذي: « لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء » 5 / آل عمران، فأوجب على الزوج أن يفرد زوجته بمسكن مستقل بها لا يساكنها فيه غير الزوج، كما أوجب عليه بر والديه وتقديم كل ما يستطيع من الطاعة لهما في حدود طاعة الله تعالى، وأوجب على كل من الزوجين الصبر على الآخر واحتماله واستيعاب مشاكله، قال سبحانه وتعالى: « وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا » 19/ النساء، فإذا ما اشتد النزاع واستمر الخلاف وتحوَّل الأمر إلى شقاق، جاء قوله تعالى: « وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا » 35 / سورة النساء، ليكون العلاج الشافي.
6- فإذا ما استمر الخلاف بين الزوجين، واستعصى الوفاق على الحكمين، عمد الإسلام إلى التفريق بين الزوجين، على أسس تضمن لكلٍّ حقوقه قِبَل الآخر، وتضمن للأولاد أنسب مستوى من العيش الطيِّب بعد ما استحال عيشهم في كنف الأسرة وتحت رعاية الوالدين معا، فبيَّن أسس الحضانة، وأسس النفقة والولاية، وغير ذلك من الأحكام، قال تعالى: « وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما » 130 / النساء، وقال جل شأنه: « أسكنوهنَّ من حيث سكنتم من وُجدكم ولا تضارُّوهن لتضيِّقوا عليهن وإن كنَّ أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى » 6 / الطلاق، وقال جل شأنه: « وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا » 20 / النساء.
وبذلك يكون التشريع الإسلامي قد رافق الأسرة في مسيرتها، ورعاها منذ لحظة التفكير في إنشائها إلى لحظة إنهائها، مرورا بأحوالها وشؤونها مدة قيامها، مراعيا في ذلك كله قواعد العدالة والأخلاق والمثل الاجتماعية، وآخذا بعين الاعتبار العواطف الإنسانية، والطاقة البشرية، والنزوات الجسدية، والخلجات النفسية، مقدرا لكل منها قدرها، في إطار من الموضوعية الشاملة، بما يؤمِّن للأسرة أقوى رباط، وأسمى إطار، يلفُّها ويقوِّيها ويشدُّ من أزرها، حتى تقوم بواجبها الاجتماعي والإنساني، في الإنجاب والتربية واستمرار الجنس ، في ظل عبادة الله تعالى وشكره على نعمه. والحمد لله رب العالمين.