التفريق للغيبة والسجن
جاءني سؤال من فتاة وصفت نفسها بالمعذَّبة، قالت فيه: أنا فتاة معذبة، قضى الله تعالى عليَّ بالعذاب والمعاناة من أول شبابي ومقتبل عمري وباكورة زواجي، فقد خطبني شاب من أسرة ثرية، وبعد أن رأيته ورآني ووافق والدي ووالداه على الزواج تزوجنا، وكنَّا مثالا للزوجين السعيدين، ننعم بالمحبة والألفة والمال والثروة، إلا أننا كأننا لم نشكر الله تعالى على هذه النعمة حق شكرها، ولم نقم بواجبنا نحو الله تعالى حق القيام، فكان الجزاء من الله تعالى لنا على ذلك التقصير معاناة وعذابا، فقد تعلق زوجي بالأسفار، وجعل ذلك مهنته وصنعته، وهي مهنة تدر ربحا وفيرا، ولكن فيها معاناة للزوجة ما بعدها معاناة، فإن زوجي يسافر ويطيل السفر الشهر والشهرين والثلاثة، وربما زاد سفره على خمسة أشهر، فإذا عاد من سفره وفرحت به تهيأ لسفر آخر بعد بضعة أيام، وهكذا دواليك، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، ولكنه تعدَّاه إلى السجن، فإن عمل زوجي عمل ممنوع، لأنه يتجر في سلع ممنوعة دوليا، فإذا ما قبض عليه ذات مرة متلبسا بعمله في تلك الممنوعات أودع السجن، السنة والسنتين، فإذا ما خرج منه وفرحت به عاد سيرته الأولى إلى السفر والاتجار بالممنوعات، ثم السجن، وقد أصبح من المعتادين على ذلك، بل من المدمنين عليه - إن صح التعبير -، لأن هذه التجارة تدر ربحا وفيرا في عناء قليل، ومن امتهنها ونَعِمَ بثرائها صعب عليه العزوف عنها إلى غيرها مما لا يدر إلا ربحا محدودا في جهد كبير، وهكذا فإن لي زوجا ولكني لا أراه إلا قليلا، لأنه بين مسافر وسجين، وقد ضقت بحياتي هذه ذرعا، وتمنيت أنني لم أقبل الزواج منه سابقا، وأنني لو قبلت الزواج من شاب فقير، فإنه أفضل من هذا الثري، أراه ويراني كل يوم، وأقاسمه العيش ولو كان قليلا، وأحس بالحياة الزوجية معه وإلى جانبه، ولكن قضاء الله تعالى سبق إلى ما ذكرت لك، فما هو الحل يا فضيلة الشيخ ؟ وهل يحق لي أن أطلب الطلاق من هذا الزوج المعذَّب والمعذِّب في الوقت نفسه ؟
أيها الإخوة والأخوات: إن قصة هذه الشابة السائلة لحرية بأن نقف عندها طويلا، نفندها ونأخذ منها دروسا وعبرا قبل أن نجيب عنها ونبحث فيها ونقترح لها الحلول،
فإن الزواج شركة فيها معاناة ومسؤولية، وليس منحة ونعمة خالية عن كل المنغصات، وسائغة ذلولا كما يظنها بعض الناس، ولهذا فإن على كل من الزوجين الرجل والمرأة أن يبحثا بجدِّية في مرحلة الزواج، كل منهما عن شريك لحياته في هذا المجتمع، يشاركه حياته ومسؤولياته، ويقف إلى جانبه في الملمات والمهمات وحوا لك الظروف، لا أن يبحث عن كيس مال ولوحة جمال يُسَرُّ بها وينفق منها ويحتمي وراءها، فإذا أخطأ الهدف ووقع في المعاناة - كما حصل لهذه الفتاة صاحبة السؤال - جاء مهرولا ينادي هل من منقذ ؟
إنني أولا أنادي الشاب الذي وقعت هذه الفتاة في قفص زوجيَّته، وأقول له: يا أخ الإسلام ، عد إلى رشدك، واستيقظ من نومك، وتنبَّه من غفلتك، فليس العمل الذي تقتات منه عملا مشروعا، ولا الربح التي تجنيه منه ربحا حلالا، ولا الحياة التي تعيشها حياة مباركة سعيدة، لأن السعادة ليست مع الثروة دائما، ولا السعادة مع الربح الوفير في كل الأحوال، ولكن السعادة مع القناعة وراحة البال والإحساس بالمسؤولية قِبَل الغير، فتنكَّب يا أخي المؤمن عن هذا الطريق المنحرف، وفتش عن الربح الحلال وإن قل، وعد إلى زوجتك، وتمتع بها، ومتعها بنفسك، فالحياة قصيرة مهما امتدت، ومنتهية مهما طالت، والموت آت ولاشك مهما بعد نسبيا، والحساب يوم القيامة دقيق مهما تشابكت الأمور، قال تعالى: « أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، إن ربهم بهم يومئذ لخبير » 9-11/ العاديات،
ثم أتوجه إلى الشابة السائلة، فأقول لها: يا أخت الإسلام : لقد أخطأت الطريق، وأسأت الاختيار من سابق، يوم قبلت الزواج من شاب غنيٍّ لغناه فقط، وعليك أن تتحملي جزئيا نتيجة خطئك الأول، وأن تحاولي الإصلاح قدر الإمكان، والصبر قدر المستطاع، والنصح ما وجدت إلى ذلك سبيلا، فإن انتهيت إلى طريق مسدودة، وأحسست بالعجز واليأس من الإصلاح، فإن لك طلب التفريق منه بسبب الغيبة، بالشروط التالية:
1- أن تطول غيبة زوجك في سفره، وقد اختلف الفقهاء في تقدير طول هذه المدة على مذاهب، فقال بعضهم سنة، وقال آخرون ستة أشهر، وذهب آخرون إلى عدم التفريق بسبب الغيبة مهما طالت المدة، وما على زوجة الغائب إلا أن تصبر وتحتسب حتى يعود زوجها إليها أو يصحبها إليه،
2- أن تكون غيبة زوجك غيبة غير مبررة، وتقدير ذلك يرجع إلى القاضي عند الاختلاف، فإن كانت غيبة الزوج لعذر مشروع لم يجز لك طلب التفريق منه من أجل الغيبة، عند بعض الفقهاء، ولم يشترط البعض الآخر عدم العذر للغائب، وأجازوا التفريق للغيبة بعذر وبغير عذر،
3- إذا طلبت من القاضي التفريق بينك وبين زوجك بسبب غيابه عنك طويلا، فإذا كان لزوجك عنوان معروف في غيبته، فإن القاضي يكتب إليه ليعود إليك أو يصحبك إليه قبل الحكم لك بالتفريق منه، ويمهله لذلك مدة مناسبة، فإن عاد أو صحبك إليه فقد تم لك ما تريدين، وإن لم يفعل من ذلك شيئا فرَّق القاضي بينك وبينه بطلقة، وإذا لم يكن له عنوان معروف فرَّق بينكما بناء على طلبك بدون كتابة إليه، بعدما أنظره مدة مناسبة،
4- فإذا كان زوجك سجينا، فإن القاضي يفرق بينك وبينه إذا طلبت ذلك إذا مر على سجنه سنة على الأقل، ولا تفريق قبل سنة في قول بعض الفقهاء، وقال الأكثر ون من الفقهاء: لا تفريق للسجن مطلقا مهما طالت مدته، لئلا يجتمع على السجين مصيبتا السجن وتفريق الزوجة، وما على الزوجة إلا أن تصبر وتحتسب أجرها عند الله تعالى،
أما القوانين العربية للأحوال الشخصية، فإن عامتها يجيز التفريق للسجن بشرط مرور سنة عليه، وربما اشترط بعضها شروطا أخرى أيضا، والله تعالى أجل وأعلم، والحمد لله رب العالمين.