التفريق لعدم الإنفاق
جاءني سؤال من فتاة مؤمنة تقول فيه: تزوجت منذ أربع سنين، وأنجبت طفلين، إلا أن زوجي مقتر عليّ في النفقة رغم ثرائه وغناه، وهو ليس بخيلا، فإنه ينفق المبالغ الكبيرة في اليوم من أجل نفسه وشهواته، وزملائه وأصدقائه، وحفلاته ونزهاته، أما أنا وولدي فيقتِّر علينا، وقد طلبت منه زيادة النفقة مرات ومرات، وكان يعدني ثم يخلف الميعاد معي، وقد ذهبت إلى بيت أهلي غاضبة أكثر من مرة، ورفضت العودة إليه، ولكنه كان يأتي إليَّ في بيت أهلي ويعتذر عن تقصيره ويعدني بزيادة النفقة، وعندما أعود إلى البيت معه يعود سيرته الأولى، ويخلف وعده، حتى يئست من انصلاح حاله واستقامة سلوكه معي، فانتويت طلب الطلاق منه لأرتاح من المعاناة معه، وربما يرزقني الله تعالى بزوج آخر أكون معه أكثر سعادة وسرورا، ولكنه رفض إجابتي إلى طلبي الطلاق منه، وقال لي: لن أطلقك ما حييت، وسوف أقتِّر عليك بالنفقة أكثر وأكثر ما دمتِ قد طلبت الطلاق، فهل لي يا فضيلة الشيخ أن أطلب الطلاق منه لذلك ؟ وما هو السبيل إلى تحقيق طلبي ؟
أيها الإخوة والأخوات: أقول لهذه المرأة المغلوبة على أمرها مع زوجها: إن سؤالك فيه من الغرابة ما فيه، فكيف يكون زوجك كريما مع غيرك وبخيلا معك، مع أن الكرم والبخل صفتان متناقضتان لا تجتمعان غالبا في شخص واحد، وربما كان لبخله معك سبب خاص، وربما كنت أنت محور هذا السبب، فعودي أختي المؤمنة إلى سلوكك أولا وتفحصيه، وتبيني ما فيه من شذوذ أو تقصير، فربما وجدت فيه ثغرة تنفذين من خلالها إلى قلبه ورضاه، فيحصل الانسجام ويتم التوافق ويزول سبب المعاناة، وأغلب الظن أنك ستنجحين إذا ما حاولت مثل هذه المحاولة بصدق وحصافة، فإذا كان العكس ولم تنجحي في الوصول إلى قلبه، ولم تنالي ثقته، ولم تحصلي على النفقة المطلوبة، فإن لك أن ترفعي عليه دعوى نفقة، فإذا أثبتت ملاءته وغناه ؛ فرض القاضي لك ولأولادك منه عليه نفقة كفاية، تتناسب مع حاله وثروته، يدفعها إليك عن طريق السلطة القضائية يوما بيوم، أو شهرا بشهر. .. بحسب نوع دخله إذا ما تعذر تحصيلها منه رضائيا، وبذلك تصلين إلى ما تبتغين، وتستغنين به عن الطلاق الذي فيه فك عرى الأسرة، وحرمان الأولاد من رعاية أحد أبويهم، وفي ذلك من الضرر الشيء الكثير،
هذا هو الطريق الأسلم والأسهل الذي عليه جماهير الفقهاء في مثل هذه المشكلة، فإذا ما تعذر هذا الطريق أو صعب أو لم ينفع ؛ فإن أمامك طريقا آخر، وهو الأخذ من ماله عنوة أو خفية بمقدار ما يكفيك وولدك دون زيادة - إن استطعت - لأن النفقة حقك وحق ولدك الصغار الفقراء، وإن لصاحب الحق مقالا، فإذا تعذر ذلك أيضا، فإن أمامك طريقا ثالثا وهو الاستدانة عليه بأمر القاضي، وبذلك تستدينين عليه ما يكفيك وولدك، ويعود الدائن على الزوج قضاء بمقدار هذا الدين، فإذا رفض الناس إقراضك عليه ؛ أمر القاضي أقرب الناس إليك وإلى ولديك من الميسورين ؛ كالجد والأخ والعم. .. بإقراضك، وجعله عليه واجبا وألزمه به، ثم يرجع هذا المُقرض على زوجك فيما أقرضك إياه بأمر القاضي، وهذه الطرق كلها مما أجمع عليه الفقهاء، وأخذت به عامة القوانين العربية للأحوال الشخصية،
فإذا أبيت إلا طلب الطلاق، فإنه حقك عند جمهور الفقهاء، وقد نصت عليه أكثر القوانين العربية، وخالف بعض الفقهاء وقالوا لا تفريق لعدم الإنفاق، ولكن إلزام بالنفقة قضاء، أو إذن بالاقتراض كما تقدم لا غير، وعلى ذلك فإن لك أن تتقدمي إلى القاضي الشرعي بدعوى طلاق لعدم الإنفاق، فإذا ثبت أن زوجك مليء ويمتنع عن تقديم النفقة المناسبة لثروته وغناه، أمره القاضي بالإنفاق عليك بحسب ثروته، وأمهله مدة مناسبة، فإذا نفَّذَ الحكم القضائي وأنفق بما هو مناسب فبها، وإلا فرَّق القاضي بينك وبينه بحسب طلبك، بطلقة واحدة، وهي طلقة رجعية عند بعض الفقهاء، وبائنة عند البعض الآخر،
هذا هو الطريق القضائي، وإنني لا أنصح أحدا باللجوء إليه إلا بعد استكمال كل أسباب الوفاق والوئام، لأن الحياة الزوجية حياة إنسانية، ولا تكون مريحة وسعيدة إلا إذا قامت على أسس من التفاهم والمحبة، والقضاء كقلع الضرس المريض، لا يلجأ إليه إلا في آخر الحلول،
وأرجو أن تكون هذه العجالة جوابا شافيا للسائلة الكريمة، تضعها في مشكلتها على الطريق الصحيح، وتأخذ بيدها إلى أنسب الحلول، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.