بِرُّ الوالدين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
أيها الإخوة والأخوات: جاءني سؤال من شاب مسلم يقول فيه: أرجو يا فضيلة الشيخ أن تبيِّن لي معنى بر الوالدين، وحدوده، وطريقته، وحكم الذي يقصر في حق والديه أو أحدهما.
أيها الإخوة والأخوات: الوفاء من أهم الشيم وأعلى مكارم الأخلاق، وما من شريعة متحضرة من شرائع الأرض إلا وقد أمرت به، وعلى رأس هذه الشرائع شريعة الإسلام ، وبر الوالدين هو أول درجات الوفاء، وذلك لما للوالدين من حقوق على الأولاد لا يحصيها إلا رب العالمين.
فالوالدان هما سر وجود الإنسان بعد خلق الله سبحانه وتعالى له، وقد جعل الله جل شأنه بر الوالدين فرضا من الفروض، وواجبا من الواجبات، بعد عبادة الله جل وعلا، وقرنه به، فقال سبحانه: « وقضى ربُّك ألا تعبدوا إلا إيَّاه وبالوالدين إحسانا، إمَّا يبلغنَّ عندك الكِبَر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيرا » 22-24 / الإسراء.
وقد جعل الله تعالى عقوق الوالدين من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله تعالى، قال صلى الله تعالى عليه وسلم: ( أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين ألا وقول الزور وشهادة الزور) متفق عليه.
وبرُّ الوالدين أيها الإخوة والأخوات سِرُّ نجاح الإنسان في الدنيا، وسر سعادته ونجاته في الآخرة، فقد روي في الحديث: (أن ثلاثة من النفر ممن قبلنا انطلقوا في سفر، وعندما بلغوا المساء أووا إلى كهف في جبل ليبيتوا فيه ليلهم، وبينما هم كذلك نزلت صخرة كبيرة من أعلى الجبل فسدت باب الغار فلم يستطيعوا الخروج منه، فقالوا: ادعوا الله تعالى بأحب أعمالكم إليه لعله يفرج عنكم بذلك، فدعا الأول بعمل صالح فعله ابتغاء مرضاة الله سبحانه، فانفرجت الصخرة قليلا إلا أنهم لا يستطيعوا الخروج من الغار بذلك، فدعا الثاني بعمل صالح فعله ابتغاء مرضاة الله تعالى، فانفرجت الصخرة قليلا إلا أنهم لا يستطيعون الخروج من الغار بذلك، فدعا الثالث الله تعالى فقال: اللهم إن لي أبوين شيخين، وكنت لا أغبق أحدا قبلهما - والغبوق اللبن يشرب بالعشي - فأتيتهما مرة بغبوقهما فإذا هما قد ناما، فكرهت أن أوقظهما كما كرهت أن أسقي أحدا من أولادي قبلهما، فوقفت عند رأسهما حتى الصباح، فلما أصبحا شربا منه حتى ارتويا، ثم سقيت من الباقي أولادي، اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا وأتموا سفرهم) متفق عليه.
كما روي أن أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حضرته الوفاة، فالتف أصحابه حوله يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ليتذكر فيشهد مثلهم، فأشار إليهم أن لسانه لا يطاوعه على ذلك، فهرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا رسول الله هلك صاحبنا، فقد حضرته الوفاة ولسانه لا يطاوعه على ذكر الشهادتين، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ( هل له والدان ؟) قالوا: له أم عجوز، فقال عليه الصلاة والسلام: ( ائتوني بها، فإن لم تستطع ذهبت أنا إليها) فذهبوا إليها وأخبروها باستدعاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لها، فقالت: فداه أبي وأمي، أنا أذهب إليه، ثم جاءته على عكاز لها، فقال لها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ( كيف حال ابنك ؟) فقالت: إنه صوَّام قوَّام، فقال لها: ( ليس عن هذا أسألك، ولكنني أسألك عن حاله معك) فسكتت، فلما كرر عليها القول قالت: يا رسول الله لقد كان يفضل امرأته عليَّ، فقال لها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ( ألا ترضين عنه ؟) فسكتت، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه: ( اجمعوا لي الحطب وأضرموا فيه النار) فقالت العجوز: ماذا تريد أن تفعل يا رسول الله، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ( أريد أن أحرق فيها ابنك، لأن أحرقه بنار الدنيا أهون من أن يحرقه الله تعالى في نار عذابه يوم القيامة) فقالت: أشهدك يا رسول الله أني قد رضيت عنه، فذهب أصحابه إليه فإذا به يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) رواه الطبراني وأحمد.
أيها الإخوة والأخوات: بر الوالدين ليس نفقة يقدمها الولد لأبويه، وإن كان ذلك من أدنى البر، وليس زيارة يقوم بها الولد لأبويه، وإن كان ذلك جزءا بسيطا من البر، ولكن البر الحق أن يضع الولد كل طاقاته وإمكاناته البدنية والمالية والمعنوية تحت أمرهما، ورهن تصرفهما وإشارتهما، وأن يشعرهما بأنه كله لهما، فلا يعصي لهما أمرا، ولا يرد لهما طلبا، ما دام ذلك في حدود إمكانه وليس فيه معصية لله تعالى ولا اعتداء على حق أحد، فإذا كان فيه معصية لله تعالى، أو غمط لحق أحد من الناس غيرهما، أو كان خارجا عن إمكانه وطاقته، فإن عليه في هذه الحال أن يعتذر لهما بلطف ولين، ويحاول إقناعهما بالعدول عنه أو استبدال غيره به، ولا ينفذ ما فيه غمط الآخرين أو معصية الله تعالى، قال سبحانه: « وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إليَّ » 15/ لقمان.
فإذا كان الابن متزوجا، فإن عليه أن يكون حصيفا لبقا في تعامله مع زوجته ووالديه، فيعطي كلا منهما حقه غير منقوص، وأن يشعر والديه أن حقهما عليه هو الأول، وأن رغبتهما عنده هي الأولى، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (أنه دخل على ابنه مرة في بيته فلم يجده ووجد زوجة ابنه، وعندما التقى ابنه بعد ذلك قال له: طلِّق زوجتك يا بني، فجاء الابن إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يستشيره في ذلك، فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: طَلِّقْهَا) رواه أبو داود وأحمد.
ومن بِرِّ الوالدين صلة أصدقائهما وأقاربهما، وتقديم كل عون لهما في حياة والديه وبعد مماتهما، فإن ذلك يدخل السرور والبهجة إلى نفوسهما في الحياة، ويكون من الوفاء لعهدهما بعد الوفاة،
ومن البر أن يدعو لهما، وأن يعمل الخيرات على روحهما، كالصدقة وقراءة القرآن والأضحية.
فيا أيها الإخوة والأخوات، انتبهوا من رقادكم، واعرفوا قدر آبائكم وأمهاتكم في حياتهما وبعد مماتهما، فإن الجنة تحت أقدامهما، وإن رضا الله تعالى في رضاهما، وبره سبحانه تعالى متبوع ببرهما، فإن اشتطا في الطلب فاحتملوا شططهما، وتذكَّروا أنهما احتملا من شططكم في صغركم أضعاف ما يمكن أن تحتملوا من شططهما في كبرهما.
إلا إنني في الوقت نفسه أتوجه للوالدين، وأهمس في أذنهما همسة، أقول فيها: رفقا بأولادكم، فلا تحمِّلوهم مالا يطيقون أو ما يغلبهم، ولا تطلبوا منهم ما يُعجزهم أو يُحرجهم، ورحم الله تعالى امرأ ساعد ابنه على بره.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــ