الرضاع المُحَرِّم
وردني سؤال من شاب يقول فيه: أنا شاب في العشرين من عمري، ولي ثلاثة إخوة وأختان من أمي وأبي، وقد تطلعت إلى خطبة ابنة خالتي، وهي شابة مثقفة ومن أسرة متدينة، إلا أن عائقا حال دون إقدامي على خطبتها، وهو أنني رضعت في صغري من خالتي أم الفتاة - على حسب ما قالت أمي -، إلا أن أمي بعد ذلك قالت: يا بني، إن الذي رضع من خالته هو أخوك الأصغر منك، وليس أنت، ثم قالت إلا أنني أشك في أنني أرضعت ابنة خالتك التي تريد خطبتها أنت، فتعقدت الأمور أمام عيني، ولم أعد أعلم إذا كانت ابنة خالتي محرَّمة عليَّ بالرضاع المتقدم أم لا، وحرت في أمري، واصطرعت الأفكار في ذهني وتضاربت، فمن جهة إنني أرغب في الزواج من ابنة خالتي لملاءمتها لي من كل الوجوه، ومن جهة أخرى أعزف عنها خشية أن تكون من المحرمات عليَّ رضاعا، فأرجو يا فضيلة الشيخ أن تبيِّن لي الرضاع المحرِّم وشروطه، وهل تكون ابنة خالتي محرمة عليَّ على حسب ما ذكرتُ من السؤال ؟
أيها الإخوة والأخوات: إن طرق التحريم المؤبد في الشريعة الإسلامية ثلاثة، هي: النسب والمصاهرة والرضاع، وقد ثبت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ( يَحْرُمُ من الرضاع ما يَحْرُمُ من النسب) متفق عليه، إلا أن للتحريم بالرضاع شروطا وطرقا اتفق الفقهاء في بعضها واختلفوا في بعضها الآخر، على النحو التالي:
1- الرضاع المحرِّم لدى الفقهاء بالجملة هو: وصول لبن امرأة آدمية حية إلى جوف طفل صغير بأي طريق كان هذا الوصول، سواء عن طريق الفم، أو طريق الأنف، أو طريق الشرج، وسواء كان بالمص من الثدي مباشرة بالرضاع، أو عن طريق الوجور في الفم بملعقة مثلا، أو عن طريق السعوط في الأنف بقطارة مثلا، أو عن طريق حقنة في الشرج، هذا ما عليه أكثر الفقهاء، ولبعض الفقهاء آراء خاصة في ذلك،
2- أما مقدار الرضاع المحرِّم ؛ فقد ذهب الحنفية والمالكية من الفقهاء إلى أن الرضاع محرِّم وإن قلَّ، فلو تناول الطفل قطرة واحدة من المرضع حرم عليها بذلك وصار ابنها رضاعا، هذا إذا جزمنا أو ظننا بأخذه لهذه القطرة الواحدة، أما إذا شككنا في ذلك، فلا يحرم، للقاعدة الفقهية: { اليقين لا يزول بالشك } المادة / 4 / من المجلة،
وذهب الشافعية والحنبلية، إلى أن الرضيع لا يحرم على المرضع إلا إذا رضع منها خمس رضعات كاملات،
وعلى هذا ؛ فإذا رضع الطفل من المرضع مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا لم يحرم بذلك عليها، ولم تصبح أمه من الرضاع عند بعض الفقهاء، وهي أمه رضاعا عند بعضهم الآخر،
3- أما سن الرضاع ؛ فقد اتفق الفقهاء على أن رضاع الكبير من امرأة لا يحرمه عليها ولا يحرمها عليه، وأن الرضاع المحرِّم خاص بالصغار، لقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ( لا يُحَرِّم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشذ العظم)، رواه أحمد وأبو داود، إلا أنهم اختلفوا في السن التي يُحَرِّم الرضاع فيها،
فذهب الشافعية والحنبلية إلى أنها سنتان، فإذا أتم الطفل من عمره سنتين ثم رضع من امرأة فإنه لا يحرم بذلك الرضاع عليها، ولو كان عشر رضعات، أما إذا رضع منها قبل إتمام السنتين، فإنه يحرم بذلك عليها إذا كان الرضاع خمس رضعات، سواء فطم قبل ذلك واستقل عن الرضاع أولا،
وذهب المالكية إلى أن سن الرضاع سنتان وشهران، بشرط أن لا يكون قد فطم واستقل عن الرضاع قبل ذلك، فإن فطم ثم رضع لم يَحْرُم على المرضع ولو كان سنُّه سنة واحدة،
وذهب أبو حنيفة إلى أن سن الرضاع سنتان ونصف، فطم أو لم يفطم،
وذهب زفر بن الهذيل إلى أن سن الرضاع ثلاث سنين،
وعلى ذلك فإذا أرضعت امرأة طفلا أو طفلة بالشروط المتقدمة حرم الرضيع عليها وحرمت هي عليه، كما يحرم الرضيع على سائر أبنائها وبناتها، لأنه أصبح بمثابة ولدها النسبي، للحديث الشريف السابق، ويحرم بذلك أيضا على كل من يحرم على أولادها النسبيين، أما إخوة الراضع وأخواته من النسب فهم غرباء عن المرضع وعن أولادها، فلا يحرمون خلافا للراضع،
وهل يصبح زوج المرضع أبا للراضع أيضا ؟
الجواب نعم، كما تصبح المرضعة أما للرضيع يصبح زوجها - إن كان لها زوج عند الإرضاع - أبا للرضيع رضاعا، وعلى ذلك فإذا كان لهذا الزوج أولاد من غير المرضعة حَرُمُوا على الراضع أيضا، لأنهم إخوته لأبيه رضاعا،
بعد ذلك فإنني أتوجه للسائل الكريم قائلا: مادمت أنت لم ترضع من خالتك فلا يحرم عليك بناتها، ولا يضرُّك أن أخاك رضع منها، هذا ما دام بناتها لم يرضعن من أمك أيضا، فإذا رضعوا منها، أو رضعت واحدة منهن من أمك، فإنه يحرم عليك وعلى أخوتك جميعا الزواج ممن رضعت من أمك، ولا يحرم أخواتها ما لم يرضعن أيضا، هذا إذا حصل الرضاع بيقين أو بغلبة ظن، أما إذا شك في أمر الرضاع أحصل أم لم يحصل، فإنه لا يحرم،
وما دامت أمك كما ذكرت تشك في أنها أرضعت ابنة خالتك ولم تتيقن أو تظن، فلا تَحْرُم عليك ابنة خالتك بذلك، إلا أنني أقول لك: التنزه عن الزواج منها إذا لم تكن هناك حاجة شديدة إلى ذلك أولى، للاحتياط . والله تعالى أعلم .