هدايا الخطوبة
جاءتني رسالة من شابَّة مسلمة، تقول فيها:
أنا فتاة مسلمة في العشرين من عمري، وقد تقدم لخِطبتي شابٌّ مسلم في الثلاثين من العمر، مثقف، ومن عائلة كريمة معروفة بالعلم والفضل والدين، وبعد أن تحرَّى والدي عنه، وعرف عنه ما يدعوه للموافقة على خطوبته لي، استشارني والدي في ذلك، فطلبت منه أن يسهل أمر التقائي به لأراه ويراني، وبعد ذلك أبُتُّ في الموضوع، فوافق أبي على طلبي، واتفق مع الشاب الخاطب على الحضور إلى بيتنا لنلتقي، واستقبله والدي، ثم دعاني إلى الحضور إليه مع وجوده هو معنا، فدخلت، ورأيته ورآني، وكنت متحجبة بالحجاب الإسلامي، لا يرى مني غير وجهي وكفَّيَّ، ثم تحادثنا نصف ساعة، وبعدها وافقت على خطوبته مني، بعد أن عرفت منه إصراره على خطوبتي، وزيادة رغبته فيَّ بعد اللقاء، وقد استمرت خطوبتنا سنتين، وقد زارنا في هذه المدة مرتين أو ثلاث مرات، وقد أحضر معه لي بعض الهدايا الذهبية، والملابس والحلوى، والآن جاء الخاطب إلى أبي معتذرا عن إتمام الخطوبة، ويطلب من والدي الموافقة على فسخها دون إبداء أسباب، ويطلب مني أن أعيد له كل الهدايا التي أحضرها إليَّ في مدة الخطوبة، فهل يستحق ذلك شرعا وقانونا ؟
أيها الإخوة والأخوات، إنني أقول لهذه الفتاة المسلمة: إن ما ذكرتيه من أحوال خطبتك السابقة، ونظرتك إليه، ونظرته إليك، وتحادثكما نصف ساعة، هو الطريق السليم للخطوبة الإسلامية مأمونة العواقب، سواء انتهت الخطوبة بعد ذلك إلى الزواج أو إلى الفسخ، وإن تقديم الهدايا لك في هذه الزيارات القليلة أمر معتاد، ومأذون به، ومستحسن، لما فيه من زيادة المودة والألفة، وتمتين عرى الثقة والمحبة،
وإن فترة الخطوبة هي فترة تبيُّن من كل من الخاطبين للآخر، وتعرُّف أحواله، وكشف صفاته، ومدى ملاءمته للخاطب الآخر، أو عدم ملاءمته له، فإذا ما تبيَّن من خلال ذلك وجود الاتفاق والتلاؤم، كان الإقدام على الزواج بعد ذلك إقداما موفقا ومسددا ومأمونا، وإن ظهر عدم التلاؤم بينهما، كان الافتراق أيضا الطريق المرغوب فيه والمفضل، لما فيه من توقي الخلافات والمشاكل، ثم الشقاق والتعاسة، وأخيرا الطلاق، وإن الافتراق في فترة الخطوبة أهون ألف مرة من الافتراق بعد الزواج، وما دام اللقاء بينكما في فترة الخطوبة لم يتعدَّ المرات القليلة اللازمة للتبيُّن، ومع الحجاب الإسلامي الكامل، فلن يكون لفسخ الخطوبة أثر سيء على حياة وسمعة ومصالح أي من الخطيبين، بجانب ما فيه من المصالح المشار إليها، من دفع سوء العشرة، وبذور الاختلافات والشقاق، وأرجو أن تتصوري معي أيتها الأخت السائلة، ويتصور معنا كل الإخوة والأخوات، مدى خطورة فسخ الخطوبة لو أنك قد تورطت معه في زيارات كثيرة، ولقاءات متعددة، وربما خلوات ونزهات، وغير ذلك مما له آثار خطيرة، على السمعة والشرف والأسرة، مما يتورط به الكثيرات من الفتيات المستهتَرات، تحت اسم التقدم والحضارة، زورا وبهتانا،
إن فسخ الخطوبة حق لكل من الخاطب والمخطوبة، إذا ما تبيَّن له أن الآخر لا يناسبه، بل إن الخِطبة شرعت لذلك، وإن فسخ خطوبتك في هذه المرحلة المسؤول عنها مصلحة كبرى، ونعمة عظمى، دفع الله تعالى بها عنك شرا مستطيرا كان ينتظرك، لولا هذا الفسخ في الوقت المناسب، مما أرجو معه أن تتناسي تماما أمر الاهتمام بالهدايا التي قدَّمها إليك، ويود استردادها والرجوع فيها بعد هذا الفسخ، وأن تنسيه وتخرجيه من دائرة اهتمامك، وأن توجِّهي كل اهتمامك إلى شكر الله تعالى الذي أبعده عنك رغم ما ذكرت من صفاته وأحواله، وإن إعراضه عنك لحري بأن تواجهيه بإعراض مثله، لأنه إن دل على شيء فإنما يدل على أمرين لا ثالث لهما في نظري:
الأول: أنه أحس بعدم التلاؤم معك، إما لدناءة منه عنك، أو لترفع منه عن مستواك، وكلاهما يدعو إلى الفسخ حقا، لأن السعادة مرهونة غالبا بالتوافق والتوازي بين الخطيبين،
والثاني: أن صارفا أجنبيا صرفه عنك، وربما كان اتفاقه مع فتاة أخرى، أو حالة اجتماعية معينة، أو غير ذلك، وكل هذا يقتضي فسخ الخطوبة لصالحك أيضا، لأنه مادام قد انصرف عنك في مرحلة الخطوبة، فإن انصرافه عنك بعد الزواج أكثر توقعا ووقوعا، ولهذا كله، فإن عليك أختي السائلة أن تحمدي الله تعالى على ذلك، وتطلبي منه سبحانه أن يعوِّضك خيرا منه، ويرزقك بالخاطب الذي تستحقينه ويستحقك حقا،
ومع ذلك فإنني أبيِّن لك حكم استرداد هذه الهدايا التي سألت عنها، في الفقه والقانون:
أما الفقهاء فقد اختلفوا في حكم استرداد هذه الهدايا على أقوال:
- فذهب الحنفية إلى وجوب ردها للخاطب مادامت قائمة على حالها، فإن هلكت، أو استُهلكت، أو ضاعت، أو خرجت عن ملك الخطيبة بأي طريق كان، فلا ترد، ولا ترد قيمتها.
- وذهب المالكية إلى عدم ردها ما دام الخاطب هو الذي عدل عن الخطوبة،
- وذهب الشافعية إلى وجوب ردها إذا كانت قائمة ورد قيمتها إن هلكت.
- وذهب الحنبلية إلى أنها لا ترد مطلقا.
أما القانون الكويتي للأحوال الشخصية فقد نص في المادة الخامسة منه على مذهب وسط، فأوجب رد الهدايا للخاطب إذا كان عدوله عن الخطبة لمبرر شرعي، فإن كان لغير مبرر لم يرجع بشيء منها، وذهب القانون السوري إلى ما ذهب إليه الحنفية، ونص على ذلك في المادة الرابعة منه،
وهذا كله في إطار الحكم القضائي، وأما الحكم الدياني التعبدي، فإنه يكره الرجوع بالهدايا مطلقا، والله تعالى أجل وأعلم.