الإرضاع الواجب
جاءني سؤال من شاب يقول فيه: أنا شاب في الخامسة والعشرين من العمر، وقد تزوجت منذ خمس سنوات من فتاة في الثامنة عشرة من العمر، ونحن سعداء بزواجنا، وقد أنجبت لي زوجتي طفلا جميلا، وطلبت مني فور الولادة أن أجلب له حليبا لإرضاعه به رغم توفر الحليب في ثدييها، ولما طلبت منها إرضاعه من ثدييها أبت ذلك وقالت: إن هذا يضر بصحتها ويضر بشكل قوامها، فلم أخالفها في حينه حسما للنزاع، ولبَّيت طلبها، وجلبت للطفل نوعا من الحليب المجفف، إلا أن هذا النوع من الحليب لم يسغه الطفل، ولم ينتفع به، فأتيته بنوع آخر فلم يسغه أيضا، فأخذته إلى الطبيب ليدلني على النوع المناسب له، فوصف لي الطبيب نوعا ثالثا كان هو الأنسب لابني، رغم بعض المعاناة، وشبَّ الولد، وحمدنا الله تعالى على صحته وعافيته، ثم جاء الابن الثاني ففعلت زوجتي به مثل ما فعلت بالولد الأول، اعتذرت عن إرضاعه واضطرتني لجلب حليب مجفف له، ولما جاء الولد الثالث وأبت إرضاعه أيضا ضقت ذرعا بنفسي وبها، وقررت اللجوء إليك وسؤالك عما إذا كان إرضاع الطفل من أمه واجبا عليها شرعا وقانونا أولا، وهل يحق لي إجبارها على إرضاع أطفالها، أم أن ذلك لها على سبيل الاختيار، وذلك حماية لصحة الطفل من جهة، وحماية لجيبي من جهة أخرى، لأن الحليب المجفف يكلفني كثيرا، كلفة يمكن الاستغناء عنها بإرضاعه من أمه في نظري،
أيها الإخوة والأخوات: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضارَّ والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير) 233/ البقرة،
من هذه الآية الكريمة انتهى الفقهاء إلى أنه يجب على الأم أن ترضع أطفالها الصغار من ثدييها حتى يستغنوا عن الرضاع، وإن مدة الرضاع الواجب هي حولان كاملان، إلا أن يستغني الطفل عن الرضاع قبل ذلك ويكتفي بالطعام عن الرضاع، فإن اكتفى عن الرضاع قبل ذلك سقط الوجوب عن الأم بذلك، فإذا لم يستغن بسنتين لظروف خاصة استمر الوجوب عليها حتى يستغني، ثم إن حليب الأم هو أوفق أنواع الحليب للطفل في صغره، من حيث نظافته، ودرجة حرارته، وعقامته، وتغيُّر تركيبه الكيميائي المتناسب تدريجيا مع سن الطفل، ومن حيث استفادة الطفل بالرضاع من أمه المناعة ضد الأمراض، كما يكتسب به منها الأخلاق والقِيَم التي تحملها، هذا ما يقرره الأطباء ويدعون إليه، وهو فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها، وإلا فما معنى أن يدر الحليب للمرأة بمجرد ولادتها ؟
ثم إن في هذا الإرضاع من قبل الأم لطفلها راحة نفسية وشعورا بالأمومة الحالمة التي تتمناها كل أم سويَّة، إلى جانب ما فيه من فوائد صحية للأم المرضعة نفسها، وتقليل تعرضها للمرض، وتأخير الحمل الثاني إلى أمد تستطيع معه استعادة قوتها ونشاطها. ..
إلا أن الفقهاء قدروا أن الإرضاع من قبل الأم لأطفالها قد يلحق بها بعض الضرر في أحوال استثنائية، كما قد يلحق بالولد الراضع نفسه بعض الضرر أيضا، في بعض الأحوال، كما إذا كانت الأم مريضة، أو هزيلة، أو غاضبة، أو حزينة، أو غير ذلك، وهذا لا يعرف إلا منها، ولا يحس به أحد غيرها، فيكون في إلزامها بالرضاع وإيجابه عليها قضاء إعناتا لها، وحرجا بها، والله تعالى يقول: « وما جعل عليكم في الدين من حرج » 77/ الحج.
لهذا كله قرر الفقهاء: أن إرضاع الأم لأطفالها واجب دياني عليها، وليس واجبا في القضاء، فإذا امتنعت عنه لغير سبب أثمت، ولكنها لا تلزم به بسلطان القضاء لما تقدم، ثم إذا امتنعت منه لسبب مشروع، كالمرض، والغضب، والحزن. ..، مثلا، فإنها لا تجبر عليه قضاء، ولا تأثم بتركه ديانة للعذر، فإذا اتفقت الأم مع الأب على إرضاع طفلها بأجر معين، ثم أرضعته، فأبى الأب دفع الأجرة لها لم يجبر عليها ما دامت الزوجية قائمة بينهما، لفساد الإجارة، فإذا طلق الزوج زوجته وانقضت عدتها واتفق معها بعد ذلك على إرضاع الطفل، وجب عليه الوفاء لها بالأجر المتفق عليه ديانة وقضاء، لانقطاع الزوجية وانقطاع نفقة الزوج عنها بذلك، ولقوله تعالى:« أسكنوهنَّ من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضارُّوهن لتضيقوا عليهن وإن كنَّ أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى » 6/ الطلاق،
من هذا الموجز الملخص عن حكم إرضاع الأم لأطفالها أقول للسائل الكريم: عليك أن تحبب الإرضاع إلى زوجتك، وتغريها به، وتبيِّن لها محاسنه وفوائده للطفل ولها، فإن أرضعته راضية فبها، وإلا فلا سبيل لك إلى إلزامها، واتركها إلى ربها ودينها، فإن كان امتناعها بسبب مبرر تخفيه في نفسها فلا إثم عليها، وإلا فهي آثمة وعاصية، وعلى كل حال فإن عليك أن تؤمِّن الحليب للطفل ما دامت الأم ممتنعة عن إرضاعه، على قدر دخلك وإمكاناتك، « لا تكلف نفس إلا وسعها » 233/ البقرة، لأن الإرضاع جزء من النفقة، وهي واجبة عليك لأطفالك، دون الأم، والله تعالى من وراء القصد، وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.