الشروط الجَعلية الخاصة في الزواج
وردني سؤال من فتاة مسلمة، صادفتها في حياتها مشكلة تتعلق بأمر خطوبتها، وهذه المشكلة في الحقيقة ليست خاصة بها تنفرد بها عن بنات جنسها، ولكنها مشكلة عامة تصادف العديد من الفتيات، بل الفتيان أيضا، ونص السؤال كما يلي:
أنا فتاة مسلمة في التاسعة عشرة من عمري، من عائلة عريقة وميسورة ماليا والحمد لله رب العالمين، وقد تقدم لخطوبتي شاب مسلم في الخامسة والعشرين من العمر، وهو مَرْضِيُّ الدين والخلق، إلا أنه يحمل جنسية بلد غير بلدي، وبلده بعيد جدا عن بلدي، فطلبت منه أن يقيم معي بعد الزواج في بلدي وبلد أهلي، فوافق على ذلك، إلا أنني أخشى أن يطلب مني بعد الزواج السفر معه إلى بلده، وينكث في وعده لي، وأنا لا أقبل أبدا أن أغادر بلدي هذا، ولا يقبل أهلي بذلك أيضا، وذلك لأمور اجتماعية كثيرة، منها أن أمي مريضة ومسنَّة، وتحتاج مني إلى رعاية وإشراف دائم، فهل لي أن أشرط عليه في صلب عقد الزواج هذا الشرط المتقدم ؟ ويكون هذا الشرط ملزما له في المستقبل ؟ ولا يستطيع النكث فيه أبدا ؟
أيها الإخوة والأخوات، أود أن يعلم الجميع، أن الزواج شركة العمر والحياة، والأصل فيه الدوام والاستمرار لإنشاء الأسرة ورعاية النسل، ولهذا وجب إقامته على أساس الثقة المتبادلة وإزالة كل عقبة من طريقه، أو شوكة يمكن أن تؤثر في استمراره، أو تعرقل مسيرته، وأن نبنيه على الوضوح والصراحة، ولهذا فقد أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الشباب بحسن الاختيار، وحضهم على اختيار ذات الدين، فقال: ( تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها وحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) متفق عليه، وأمر الشابات وأوليائهن بحسن الاختيار أيضا، وحضَّهم على اختيار الشاب المؤمن الخلوق لبناتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) رواه الترمذي، وطلب من كل منهم أن لا يرتبط بالثاني حتى يتثبت من ملاءمته له، في خُلُقه وسلوكه وجميع صفاته، حتى تتسهل طرق السعادة والوفاق بينهما، فإذا كان بين الخطيبين شكوك في ذلك، فالعدول عن الخِطبة هو المطلوب، والامتناع عن إتمامها هو الواجب، اختصارا للمشاكل، وابتعادا عن أسباب النزاع، وتخففا منها ما أمكن،
من هذا المنطلق، فقد اتجه أكثر الفقهاء إلى أن الشروط الجعلية في عقد الزواج، الزائدة عن مقتضى العقد ممنوعة، سواء كانت شروطا لمصلحة الزوج أو مصلحة الزوجة، لأن هذه الشروط سوف تُكبِّل الحياة الزوجية بقيود لن تعود عليها بالسعادة غالبا، ولن تتحقق من خلالها المصلحة المرجوة منها في الغالب، فقد يقبل الخاطب من خطيبته بأي شرط تشرطه عليه في فترة الخطوبة دون تبصر بعاقبة هذا الشرط وأبعاده ومقدار استعداده هو للوفاء به في المستقبل، طمعا منه في الوصول إليها، وربما كان هذا الشرط منه على زوجته فتقبل به أيضا، رغبة منها في الوصول إليه، دون تبصر منها بعاقبته وما قد يسببه لها من إحراجات ومضايقات، وبعد أن يتم الزواج ويضمن كل من الزوجين أن الثاني أصبح مرتبطا به ومتفرغا له، يبدأ الإحساس بثقل هذا الشرط يظهر، وتبدأ المشاكل والخلافات، وربما أدى الأمر في النهاية إلى الفراق المقيت في بعض الأحوال، ولذا نص أكثر فقهائنا على أن كل شرط يشرطه الزوج على زوجته، أو الزوجة على زوجها يعد لغوا، تنزيها للحياة الزوجية عن بذور المشكلات، إلا أن صحة الزواج لا تتأثر به، واستثنوا من ذلك القليل من الشروط، وعدُّوها صحيحة استحسانا، وهي الشروط التي من مقتضى العقد، كأن يشرط عليها أن تساكنه في منزله مثلا، فإن هذا الشرط صحيح، وهو متحقق للزوج من غير شرط، وكذلك الشرط الملائم لمقتضى العقد، ومثله كل شرط جرى العرف عليه بين الناس، أو ورد به نص من الشارع، مثل أن يشرط عليها أن تؤجل له جزءا من المهر إلى أجل معين، وما سوى ذلك من الشروط ممنوع على الأصل، إلا أن صحة العقد لا تتأثر به كما تقدم.
وذهب الحنبلية من الفقهاء، إلى أن لكل من الزوجين أن يشترط على الثاني ما شاء من الشروط لمصلحته، واستثنوا أنواعا قليلة من الشروط، وقالوا إنها ممنوعة، وهذه الشروط الممنوعة هي كل شرط مناقض لمقتضى العقد، كأن تشرط عليه أن لا يساكنها أبدا، أو مدة معينة، وكذلك كل شرط ترتب عليه إثم أو حرام، كأن تشرط عليه أن يطلق ضرتها، أو أن يترك الصلاة، أو أن يسمح لها بالخروج إلى الشارع بدون حجاب، فإذا كان الشرط كذلك كان لغوا والعقد صحيح،
وعلى ذلك فإن للفتاة أن تشرط على الخاطب أن لا يسافر بها من بلدها أبدا عند الحنبلية، خلافا لجمهور الفقهاء، فإذا شرطت عليه ذلك ؛ فإن التزم بالشرط لها فذاك، وإن أخل به وطلب منها السفر معه إلى بلده ؛ فإن أجابته إلى طلبه راضية فذاك، وإلا فإن لها أن ترفض السفر، وأن تطلب من القاضي فسخ زواجها لهذا الشرط، عند الحنبلية ؛ خلافا للجمهور،
وهنا أعلِّق وأقول: ماذا تستفيد هذه الفتاة من هذا الشرط إن كان الزوج سوف يفارقها عند عزمه على السفر إلى أهله !
ولهذا فإنني أنصح السائلة وأمثالها، أن يمتنعن عن أي شرط من هذا النوع وأمثاله، أخذا بمذهب الجمهور، ولكن إن وثقن بالزوج والتزاماته، ووجدن فيه الكفء للالتزام بوعده، فليقدمن على الزواج منه من غير شرط، وإلا فليبتعدن عنه، دون اكتفاء بالشرط أيضا، والله تعالى الموفق إلى سواء السبيل،