الحلف بالطلاق في البيع والشراء
وردني سؤال من شاب مثقف يقول فيه: لي صديق تاجر متزوج، وله ولدان، وهو كثير الحلف بالطلاق في بيعه وشرائه وتعامله مع الناس، يحلف بالطلاق في اليوم مرات عدة، ليثق الناس به، ويتعاملوا معه، يحلف بالطلاق أنه لم يربح في السلعة الفلانية إلا كذا من الفلوس، ويحلف بالطلاق أن رأسمال السلعة الفلانية عليه هو كذا، ويحلف بالطلاق أن هذه السلعة من أجود الأنواع، ويحلف بالطلاق أن سعر هذه السلعة عنده أقل مما هو عند غيره بكثير، وهكذا دواليك، فقلت له يا أخي الكريم إن هذا القول آثم، وإن الطلاق لم يضعه الشارع لترويج السلعة، وإنما وضعه لإنهاء زوجية ثبت فشلها، فلم يأبه لقولي، واستمر في سلوكه، وزعم أن هذا الطلاق لا يقع لأنه لغو، وأنا أسألك يا فضيلة الشيخ عن صحة هذا القول، وهل يكون هذا الطلاق منه لغوا، ولا يقع عليه منه شيء ؟
أيها الإخوة والأخوات: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أبغض الحلال إلى الله الطلاق) رواه أبو داود وابن ماجه، وفي هذا القول البليغ من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم معان كثيرة، فقد أثبت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حديثه الشريف هذا أن الطلاق حلال، وأثبت أنه بغيض،
أثبت أنه حلال لأن به تنقضي الزوجية الفاشلة، ويتفرق الزوجان، ليتجه كل منهما وجهة أخرى قد يكون بها سعيدا، مصداقا لقوله تعالى: « وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما »130 / النساء،
وأثبت أنه بغيض للتنفير من التسرع فيه والإقدام عليه من غير ضرورة أو حاجة،
والطلاق يقع من الزوج على زوجته بلفظ الطلاق، قصده أو لم يقصده على سواء، وذلك لخطورته وأثره الكبير، والتنفير من اللعب والهذيان فيه، فإن فيه إفساد الأسرة وتفكيك عراها وتهديم أركانها، مما يعود على الزوجين والأولاد بأسوء العواقب، لهذا قال عليه الصلاة والسلام محذرا ومنبها: ( ثلاث جِدُّهن جد وهزلهن جد ، النكاح والطلاق والرجعة) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي، وذلك محل اتفاق الفقهاء مادام الطلاق منجزا ليس معلقا على شرط غير موجود في الحال، فإن علقه على شرط غير موجود في الحال، كأن قال لزوجته: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، أو إن كلمت فلانا فأنت طالق، وما إلى ذلك، فكذلك الحكم عند جمهور الفقهاء ؛ إن خالفت طلقت، وخالف بعض الفقهاء، وقال: إن علَّق طلاقه على شرط في المستقبل ؛ فإن قصد به الطلاق طلقت زوجته بحصوله، وإن قصد به منعها من شيء أو حملها على فعل شيء لم يقع به الطلاق، ويكون كاليمين بالله تعالى، إن برَّ بها فبها، وإن لم يبر بها وجبت عليه الكفارة،
وقد جعل الله تعالى الطلاق بيد الزوج حتى، إذا ما يئس من توافق زوجته معه، واستكمل كل أسباب تقويمها فلم تنفع معها، عمد إلى طلاقها، والأولى به في هذه الحال أن يطلقها طلقة واحدة رجعية في طهر لم يمسها فيه، فإذا طلقها أكثر من ذلك وقع وأثم، وكذلك الزوجة إذا يئست من توافق زوجها معها رغم بذلها كل أسباب الوفاق معه، فإن لها أن تطلب من القاضي تفريقها منه بعد بيان الأسباب المبررة لذلك، والقاضي بعد التثبت من الأسباب وعجزه عن إعادة الوفاق بين الزوجين، يعين حكمين ؛ أحدهما من قِبَل الزوجة والثاني من قبل الزوج، للمساعدة في التوفيق بين الزوجين أو التفريق بينهما، فإذا قررا التفريق أمضاه القاضي وحكم به، هذا ما لم يكن إضرار الزوج بزوجته واضحا جليا فاحشا، فإذا كان كذلك فرق القاضي بينهما بناء على طلب الزوجة فورا من غير تحكيم، هذا في قول بعض الفقهاء، وعليه العمل في كثير من البلدان الإسلامية ، تخليصا للزوجة من إعنات الزوج لها وإضراره بها، أما الفقهاء الآخرون فلا يرون للحكمين والقاضي التفريق في هذه الحال، ولكن بذل الجهد للتوفيق بينهما فقط، فإن أثمرت هذه الجهود فبها، وإلا تركوهما ليقررا المخالعة الرضائية بينهما بأنفسهما دون تدخل من أحد،
وكذلك للقاضي التفريق بينهما دون طلب من أحد إذا أصبحت الحياة الزوجية مُضَيِّعة لحق الله تعالى، كما إذا ارتد أحد الزوجين عن الإسلام - والعياذ بالله تعالى - أو طرأت بين الزوج وزوجته حرمة مصاهرة. ..، فإن القاضي يفرق بينهما في هذه الحال حماية لحق الله تعالى، وإزالة للحرمة بينهما،
وقد شرع الإسلام الطلاق لحل زوجية ثبت فشلها وتعذر استمرارها، ولم يشرعه لترويج السلعة وترويجها، قال صلى الله تعالى عليه وسلم: ( الحَلِفُ منفقة للسلعة ممحقة للبركة)، رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود، وقال تعالى: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم » 224 / البقرة،
فيا أيها الزوج التاجر ؛ راقب الله تعالى في تجارتك، ولا تجعل الحلف بالله تعالى أو بالطلاق سبيلا لترويجها، فيمحق الله تعالى البركة، هذا إذا كنت صادقا في حلفك، أما إذا كنت كاذبا فيه، فإنك سوف تنال غضب الله تعالى، أو تفقد زوجتك، أو تبقى معها زانيا كباقي الزناة، والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، رواه البخاري ومسلم والترمذي، وهو أمر لا ترضى به أنت ولا يرضى به مسلم، والناس عنه غافلون، فتنبه من غفلتك، واستيقظ من رقادك، وأصلح لسانك، وراقب تصرفاتك، واتعظ بقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ( وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)، رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، راجيا لك وللمسلمين جميعا التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.