بيت الطاعة ؟!
جاءني سؤال من سيدة متزوجة تقول فيه:
أنا فتاة متزوجة، ولي خمسة أبناء، وزوجي رجل حدُّ المزاج، سريع الغضب، محدود الدخل جدا، فلا يستطيع أن يؤمن لي ولأولادي منه إلا خشن العيش، والمسكن البسيط الذي هو عبارة عن غرفة واحدة، وأنا صابرة راضية، وأقوم بتربية أولادي والعناية بهم وخدمتهم وإدارة البيت في حدود طاقتي وإمكاني، وعلى قدر معرفتي، إلا أن زوجي لحِدَّة مزاجه وسرعة غضبه، لا يدخل إلى البيت إلا ويملؤه صراخا وضجيجا وتبرُّما، فيشتمني لسبب ولغير سبب، وربما ضربني في بعض الأحيان، أما الأولاد فيا ويلهم إذا ظهر منهم أي شيء من الضجيج عند لعبهم، - وهو أمر متوقع منهم بل هو ضروري من صبية صغار يعيشون في غرفة واحدة -، وإذا ما حاولت تبرير ضجيجهم أو الدفاع عنهم تقوم الدنيا، وينتهي الأمر إلى الشتم والضرب لي وللأولاد، وهكذا حياتنا منذ زمن بعيد ؛ شقاء في شقاء وتعب ومعاناة، وكنت خلال المدة السابقة كلها أصبر وأتحمل، وأقول في نفسي عسى الله تعالى أن يصلحه، ولكن إرادة الله تعالى قضت أن نستمر في المعاناة إلى اليوم على وجه لم أعد أحتمل الاستمرار معه، فتركت البيت وأولادي إلى بيت أهلي، عساني أجد فيه بعض الراحة والإجمام، أو يكون فيه ما ينبه زوجي إلى سوء المنقلب، فيصلح من شأنه وسلوكه، إلا أن الذي حصل أن زوجي جاء إلى بيت أهلي يطلب مني العودة إلى البيت بالقوة والعنف، مهددا ومتوعدا، ومدعيا أن طاعة الزوجة لزوجها واجبة مطلقا، وأنه ليس لها أن تغادر بيته وإن نالها فيه ما نالها، وأن عليها السمع والطاعة للزوج مهما أصابها منه أو قصَّر في حقها، إلى غير تلك الدعاوى، كما هو شأن اللاهين العابثين، فقلت له: لن أعود إليك حتى تَعِدَنِي بحسن المعاملة، وتحسين وضع المسكن قدر الإمكان، فأبى عليَّ ذلك وقال لي: أنا لا أتلقى أوامر من أحد، وتوَعَّدني بأن يقيم عليَّ دعوى بيت الطاعة، ثم انصرف، وأنا خفت من هذه الدعوى، وتساءلت فيما إذا كان يستطيع بواسطة القضاء أن يعيدني إلى بيته جبرا عني مع تلك المعاملة وذلك السلوك السيء منه نحوي، وأسألك سيدي الشيخ عن معنى بيت الطاعة وما يجب عليَّ أن أفعله أمام هذه المشكلة؟
أيها الإخوة والأخوات: الحياة الزوجية فَنٌّ وأخلاق ومُثُل ومسؤولية، وعلى الإنسان رجلا كان أو امرأة أن لا يقدم على الزواج وأن لا يفكر في الإقدام عليه حتى يجد في نفسه الأهلية لذلك كله، قال صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) متفق عليه، وما الباءة هنا في نظري - والله تعالى أعلم - إلا ما قدَّمْت من معاني الزوجية،
فأما أنها فن ؛ فلأنها معاشرة ومزاملة وصداقة وتعاون، ولذلك أساليبه وأحواله وطرقه، وقد بيَّن ذلك علماء الاجتماع والأخلاق ؛ فإن الإنسان المنفرد غير الإنسان المنتظم في جماعة، وكثيرا ما تجد إنسانا منفردا يعجبك، فإذا انضم في جماعة نفروا منه ونفر منهم، لعدم قدرته على التلاؤم والتعاون معهم، ففي الجماعة أخذ وعطاء، وتبادل في الرأي، وتنازل عن بعض الأمور لكسب أمور يتنازل عنها الآخرون، وهكذا، وهذا فنٌّ لا يتقنه كثير من الناس،
وأما أنها أخلاق ومُثُل ؛ فذلك يعني وجوب التضحية والتمتع بالغَيرِيَّة والتسامح والصفح ونسيان الماضي، مع الصدق والاستقامة والأمانة وبذل قصارى الجهد والطاقة، وهي من الواجبات التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم كل الناس، والزوجين بشكل أخص،
وأما أنها مسؤولية ؛ فلأن فيها القدوة للأبناء والنسل، والتربية والنصيحة وكبح جماح الشهوات، والتنازل عن الكثير من الحقوق، والقيام بما يمكن من الواجبات، وأن التقصير في ذلك سبب المشكلات وبذر بذور الخلاف والشقاق، ثم الشقاء والتعاسة، قال صلى الله عليه وسلم: ( استوصوا بالنساء خيرا) متفق عليه،
هذه شروط الزوجية الناجحة، فمن لم ير في نفسه التأهل لها والقدرة على تحقيقها، فإنني أنصحه بالعزوف عن الزواج، وأن يلوذ بالصوم فإنه له وجاء، كما جاء في حديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
وأنا هنا أقول للسيدة السائلة ولزوجها مناشدا إياهما الله تعالى أن يلتزموا في تعاملهما آداب الإسلام وأصوله، فأوصي الزوج بحسن المعاملة وتحسين الأخلاق، والصبر على المكاره، وبذل الجهد في تحسين النفقة على قدر الطاقة، وأوصي الزوجة بالصبر والطاعة ، وأن تقف إلى جانب زوجها في قلة ذات يده، وأن تحسن معاملته وامتصاص حنقه وضيقه ، بحسن خُلُقها ولقائها له وابتسامتها أمامه، وحسن رعايتها لأبنائها منه، فإن الله تعالى مع الصادقين، وإن الله تعالى مع الصابرين،
وأما دعوى بيت الطاعة التي هدد الزوج بها زوجته، فإنها بحسب ما هو شائع من معناها وهم من الأوهام، وخرافة من الخرافات، ولا وجود لها إلا في مجتمع الجاهلين العابثين، فإن ملازمة الزوجة لبيت الزوجية واجب ديني واجتماعي وأخلاقي، مادام الأمر ميسَّرا فيه، وليس فيه إيذاء أو إضرار، ولا يجوز للزوجة مغادرته إلا لسبب شرعي، وإلا كانت ناشزا، والناشز آثمة عند الله تعالى، ولكنها لاتجرُّ إلى بيت زوجها رغما عنها جرَّا، إنما يقال لها: إما أن تعودي إلى بيت الزوجية فتكسبين رضاء الله تعالى ورسوله، وإما أن تسقط نفقتك عن الزوج،
هذا كل ما يمكن للقاضي فعله في هذا المجال، أما جرها إلى بيت الزوجية جبرا عنها إذا لم ترض به فهو ظلم، وهو ما لم يأمر به العقلاء ولا العلماء، وهو إن وقع في بعض الأحيان فهو جنوح عن الحق وتمسك بالظلم والعَنَت، وهو خطأ فاحش لا يجرُّ إلاَّ إلى مضار ومفاسد كثيرة،
وأما الأمور التي يجوز للزوجة أن تغادر من أجلها بيت الزوجية بغير إذن الزوج ولا تعد ناشزا، فهي حالات الضرورة أو الضرر الشديد ؛ في الدين أو الأخلاق أو المال، كمن ألزمها زوجها بترك الصلاة أو الصوم المفروضين، مُجونا ولهوا لغير عذر مبيح لذلك، أو ألزمها بالفاحشة، أو التبرج للأجانب، أو شرب الخمرة، فإن لها في هذه الأحوال أن تغادر بيت الزوجية إلى بيت أهلها، أو أحد من أرحامها إذا لم تجد حلا سوى ذلك، فرارا بدينها، وكذلك إذا ضربها زوجها ضربا مبرحا، أو طردها من البيت، أو منعها النفقة الواجبة لها، فإن لها أن تغادر ببت الزوجية إلى بيت أهلها، ولا تعد ناشزا، دفعا للضرر الشديد، ولا يجوز لها الخروج لغير ذلك وأمثاله، وإلا عدَّت ناشزا كما تقدم، وسقطت نفقتها وأثمت،
وفي الختام أتمنى للزوجين الكريمين وأمثالهما حسن التفهم لما قلت، والاستنارة به في تحسين المعاشرة والألفة، والعودة إلى الحياة المشتركة، وتربية الأولاد على أسس المحبة والمودة، والله تعالى من وراء القصد، وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.