اللعان بين الزوجين
وردني سؤال من امرأة متزوجة تقول فيه: أنا امرأة مسلمة متزوجة، ولي خمسة أولاد، وقد كنت إلى مدة قريبة سعيدة مع زوجي وأولادي، لا ينغص حياتنا منغص، مع أن زوجي كان محدود الدخل، مقلاَّ من المال، فقد رضيت بقضاء الله تعالى وقدره، وتدبَّرت أمري وأمر أولادي بهذا القليل، وحمدنا الله تعالى، إلا أنه منذ سنة تقريبا طرأ على حياتنا أمر غريب، فقد بدأ زوجي يُغيِّر لهجته في الحديث معي، وبدأ يمنعني من أمور ما كان يمنعني سابقا منها، وبدأ يتشكك في الكثير من تصرفاتي بعد أن لم يكن له أي شك فيها، فقد بدأ يمنعني من زيارة الجيران، ويمنعني من زيارة العديد من أقاربي وأر حامي المحارم، كالعم والخال، بل إنه بدأ يمنعني من زيارة والديَّ إلا إذا كان هو معي في الذهاب والإياب، وقد أطعته في أكثر ذلك دون ضجر أو تبرم، واحتملت منه كل هذه المضايقات، ممنية النفس في أن يراجع زوجي نفسه ويعود إلى سيرته الأولى من التفاهم والليونة في المعاملة، إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث حتى الآن، رغم مضيِّ سنة، بل إن الأمر اشتد عن سابق عهده، فقد بدأ يصارحني بشكِّه في عفتي، ويتهمني بالشذوذ والخروج عن اللياقة والأدب، بل الخروج عن حدود الحلال إلى الحرام، ويظن بي ظنونا أنا منها بريئة، وما هي إلا أوهام وهلوسة ووسواس علق برأسه، وعاد عليَّ بأشد الضرر، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، ولكنه تعداه إلى ما هو أخطر منه، فقد ولدت منذ شهرين ولدي الخامس، وبعد الولادة بيومين قال زوجي: إن هذا الولد ليس له، وإنه ولد زنا، ورفض الاعتراف به وتسجيله على اسمه ومنحه النسب الشرعي منه، وهنا قامت قيامتي، واستشاط غضبي، ونفد صبر، فهجرت بيته إلى بيت أهلي، وأرسلت إليه طالبة منه طلاقي، لأن الحياة الزوجية بيني وبينه بعد هذا الاتهام الخطير أصبحت مستحيلة، وإن كرامتي وكرامة أهلي لم تعد تحتمله ولا تحتمل أوهامه وشكوكه،
وقد لجأت إليك يا فضيلة الشيخ لتدلني على الطريق التي يجب عليَّ أن أسلكها للخلاص من زوجي من جهة، ولإثبات حق ابني في النسب منه من جهة ثانية، وذلك رعاية لحق هذا الطفل، ولإثبات براءتي مما اتهمني به،
أيها الإخوة والأخوات: إن هذه المرأة السائلة في مأساة خطيرة حقا، وإن حالها يدعو إلى وقفة ومعالجة حكيمة واعية فعلا، تحفظ حقها وحق ولدها وحق زوجها في وقت واحد، فإنه من الناحية النظرية - على الأقل - يمكن أن تكون هذه المرأة آثمة وزانية، وأن الولد ولد زنا، والزوج صادق في كل ما يقوله، ويمكن أن تكون المرأة صادقة عفيفة، والولد ولد شرعي لأبيه، والزوج كاذب في دعواه، والأمران ممكنان ومحتملان ولا يعلم الحقيقة غير الله تعالى، وعلينا في مثل هذه الحال أن نبيِّن حال كل من الزوجين، ونحكم بالحق الذي يَبِيْن لنا قدر الإمكان، مبتدئين بالنصوص الشرعية، وذلك على الوفق التالي:
الأصل في نسب ولد أي زوجة أن يثبت من الزوج حكما، فكل امرأة بينها وبين رجل عقد زواج صحيح ؛ إذا ولدت ولدا، يكون هذا الولد ولدا لزوجها، ثابت النسب منه حكما، دون حاجة إلى اعتراف منه به، لقوله عليه الصلاة والسلام: ( الولد للفراش وللعاهر الحجر) متفق عليه، أي للزوج، وفي ذلك منتهى التكريم والتطمين للزوجة، ومنتهى الحماية للأطفال، إلا أن الإسلام يقدر أن المرأة قد تشذ عن الطريق وتحمل من الزنا، وفي مثل هذه الحال يكون في إلحاق الولد بالزوج ظلم لا يرضى به الإسلام، وللتوفيق بين هذه الحقوق كلها: حق الزوجة في حفظ كرامتها من الامتهان، وحق الولد في ثبوت نسبه من أبيه، وحق الزوج في نفي الولد عنه إذا لم يكن منه، قرر الفقهاء ما يلي:
1 - الولد للزوج بمجرد الولادة ما لم ينكره ،
2 - إذا أنكر الزوج بنوة الولد منه، فإن كان قد اعترف به قبل ذلك صراحة أو ضمنا، لم يكن لإنكاره هذا أي أثر، لأن نسب الولد قد ثبت منه بالاعتراف به، والنسب إذا ثبت كذلك لم يمكن نفيه أصلا،
3 - فإذا أنكر الزوج بنوة الولد ولم يكن قد اعترف به قبل ذلك صراحة ولا ضمنا، فإن كان إنكاره بعد مضي مدة التهنئة بالولادة، وهي أسبوع واحد، وقيل أسبوعان، وقيل ثلاثة أسابيع، لم يقبل إنكاره له، لأنه بمضي المدة من غير إنكار ثبت نسب الولد منه، فلا يقبل الإلغاء بعد ذلك أبدا،
4 - فإذا أنكر الزوج الولد في مدة التهنئة دون تأخر، وعجز عن إقامة البيِّنة على زنا زوجته، رفع أمره إلى القاضي، والقاضي هنا يستدعيه ويستدعي الزوجة ويلاعن بينهما، واللعان أن يأمر القاضي الزوج بأن يحلف بالله تعالى أربع مرات بأنه صادق في اتهام زوجته بالزنا ونفي هذا الولد عنه، ثم يأمره بأن يقول: إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم يأمر الزوجة بأن تحلف بالله تعالى أربع مرات أن زوجها من الكاذبين في اتهامها بالزنا ونفي نسب الولد عنه، ثم يأمرها أن تقول: إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فإن حصل ذلك فرَّق القاضي بين الزوجين فرقة مؤبدة عند الجمهور، ثم نفي نسب الولد عن الزوج وألحقه بأمه فقط، ويسمى ولد اللعان،
وقد نزل ذلك كله في سورة النور، في قوله تعالى: « والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسةُ أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويدرأ عنا العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسةَ أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم) 6-10/ النور،
هذا بيان موجز عما ورد في سؤال السيدة الفاضلة، أرجو أن يكون فيه الجواب المطلوب، والله تعالى أعلم.