النفقة الواجبة، ومعنى الحياة الزوجية
جاءني سؤال من شاب متزوج، وله زوجة وولدان صغيران، يقول فيه:
إنني شاب في الثلاثين من عمري، وقد تزوجت قبل خمس سنوات، من فتاة من أسرة متوسطة الثراء، وهي تحسن القراءة والكتابة، وقد سعدت بها وسعدت هي بي أيضا - فيما أظن - ولم تَبْدُ بيننا أية مشكلة تعيق سير حياتنا الزوجية، أو تنغِّص علينا عيشتنا، وكانت زوجتي في خلال هذه المدة تقنع مني بما تيسر لي من العيش البسيط، والمسكن المتواضع الذي لا أستطيع تأمين أفضل منه، لأنني من أصحاب الدخل المحدود، ثم رزقنا الله تعالى بطفلين جميلين، كنا بهما سعيدين، وقد بذلنا جهدا مناسبا في حسن تربيتهما والعناية بهما معا، إلا أنه قبل بضعة أشهر، سكن إلى جوارنا أسرة ثرية، ذات أولاد كثيرين، نراهم كل يوم يرفلون بالأثواب الجميلة باهظة الثمن، ويدخلون إلى البيت ومعهم أطايب الطعام والحلوى والفاكهة، مما لا أستطيع أنا تأمين مثله لأولادي، وقد قامت زوجتي بزيارة زوجة الجار يوما إثر سكناهم إلى جوارنا، لتهنئتهم بمسكنهم الجديد، والإعراب عن الترحيب بهم - على عادة الجوار في ذلك - فوجدت عليها الحُليَّ والحلل الجميلة - كما هو حال الكثيرين من أغنياء القوم - فعادت مدهوشة مما رأت، وأعربت لي عن دهشتها من ذلك الثراء، وذلك البذخ الذي رأته، وظهر في عباراتها تشوُّق إلى مثل هذه الحياة، والعيش في مثل ذلك النعيم، فقلت لها: هذا عطاء الله تعالى، يُعِزُّ به من يشاء ويُذِلُّ به من يشاء من عباده، ونحن نحمد الله تعالى على ما أكرمنا به، وهو كثير والحمد لله رب العالمين وإن لم يبلغ الحد الذي تصفين، وانتهى الأمر عند هذا الحد في الظاهر، إلا أنه في الحقيقة لم ينته، وقد سبب لي مشكلة عميقة الجذور منذ تلك الزيارة، فإن زوجتي لم يعد يرضيها ما كانت تعيش به معي من الحياة والنفقة والمسكن، فهي متبرمة بمسكنها المتواضع، وزاهدة بحياتها التي لم تخل من شيء من الخشونة، ومتطلعة إلى حياة البذخ والثراء مما لا أستطيعه ولا أستطيع نصفه، يظهر ذلك في كل يوم، وفي كل ساعة، في حركات وجهها، ولمزات لسانها، وطلباتها المقنَّعة التي لا تنتهي، فهي تارة تطلب ثيابا جديدة للأولاد، ومرة بعض الحُليِّ وبعض الألبسة الفاخرة لها لزياراتها لجاراتها، اقتداء بالجارة الجديدة سببِ المشكلة، ومرة تطلب أن نبيع البيت الذي نسكنه ونستبدل به بيتا أفضل منه، إلى غير ذلك من قائمة الطلبات التي لا تنتهي، وأنا مرة أرد عليها بالحكمة والموعظة الحسنة، ومرة بالوعود الفارغة التي لا أنوي الوفاء بها، لعجزي عن ذلك، ومرة أضيق ذرعا فأرد ردا خشنا، فتقوم الدنيا، ويستشيط الغضب بها، وتحصل المشاجرة، وهكذا دواليك،
هذه مشكلتي سيدي الشيخ، فأرجو أن تُبَيِّن لي ما يجب عليَّ أن أمتع به زوجتي وأولادي شرعا وقانونا ؛ من النفقة، والمسكن، والحلي، والحلل، وأطايب الطعام، ودخلي محدود لا يتسع إلاَّ إلى بعض ذلك،
أيها الإخوة والأخوات: هذه المشكلة مشكلة منتشرة في كثير من الأسر والعوائل، وسببها الجهل بمعنى الحياة الدنيا، والجهل بمعنى الزواج، والجهل بسر السعادة، والجهل بواجبات الجيران:
فالحياة الدنيا كما قرر القرآن الكريم هي متاع الغرور، قال سبحانه وتعالى: « وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور » 185/آل عمران، والغرور معناه الشيء الذي لا واقع له ولا أصل له، وأن التمسك به تمسك بظاهر لا أساس له، وقد أمرنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن نتخفف من الدنيا ما استطعنا، لا أن نتورط فيها ما أمكننا، وقد كان هو نفسه صلى الله تعالى عليه وسلم مثلا أعلى في التخفف منها، فقد روت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: ( كان يمر الشهر والشهران ولا توقد في بيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نار، قيل فما كان طعامكم ؟ قالت: التمر والماء) متفق عليه، وهو كما تعلمون، أكرم من خلقه الله تعالى، وأحبهم إليه، ولو كان في مزيد الطعام والكساء وما إليه مكرمة، لكرَّمه الله تعالى بها،
أما الزواج فمعناه الاشتراك في بناء الأسرة وتربية الجيل، وإعدادهم دعاة ومجاهدين وعلماء عاملين، يبنون الحضارة ويرفعون راية الدين، وليس معناه التلذذ والتنعم، فهو على ذلك مسؤولية وامتحان وابتلاء، وفهمه كذلك هو سر مرضاة الله تعالى، ورسم دخول الجنة، وإذا كان فيه بعض اللذة والمُتعة فإنما ذلك من الله تعالى وسيلة للتشجيع على الإقدام عليه، وخوض غماره، وتحمل مسؤولياته، وتيسير أمر الاستمرار فيه، فلا يجوز بحال أن نجعل الغاية وسيلة والوسيلة غاية، وإلا قلبنا المفاهيم على رأسها، فاختلطت علينا،
وأما سر السعادة في الحياة، فهو الرضا بما قسم الله تعالى، والاستغناء به عما سواه أو ما فوقه، بدون حسرة ولا لوعة، فإن من يملك درهمين ويستغني بهما غنيٌ، ومن يملك الملايين ويتطلع إلى ما سواها فهو فقير متحسر، فالعبرة في الغنى ليس بما عند الإنسان، وما هو متاح له، وإنما العبرة بما لا يحتاج إليه ويشعر بالاستغناء عنه، فالمستغني سعيد وإن قل ما عنده، والطامع شقي مهما كثر ما عنده، والقناعة كنز لا يفنى، وإن في حياة سلفنا الصالح لنا لعبرة وقدوة، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يتصدق بكل ماله ويقول: تركت لعيالي الله ورسوله، فلا يضيقون بذلك ذرعا، وهذا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يتصدق في يوم من أيام صومه طائعا برغيف خبز لا يملك غيره ويصبر على الطوى إلى اليوم الثاني، ولا يجد في نفسه ضيقا ولا ألما ولا إحساسا بالحرمان، بل إنه يحس مع هذا بالسعادة التي تحمله على الصبر على الجوع، وهذا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنَفَسه) رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد،
بعد هذه العرض الموجز أيها الإخوة والأخوات، أتوجه إلى زوجة هذا السائل الكريم، ولمن حالهن مثل حالها، ومطالبهن مثل مطالبها، وأقول: أيتها الأخت المؤمنة: عودي إلى رشدك، وتفكري في تعاليم دينك ونبيك، وتذكري حال الصحابة والتابعين الذين هم أعلام الدنيا وأئمة الدين، والذين هم منارات هدى لكل العالمين، فاجعليهم قدوتك في سلوكك، واحمدي الله تعالى على ما أنت فيه، واعلمي أن ما رزقه الله تعالى لغيرك هو امتحان ومسؤولية، وربما إذا جاءك مثله لا تصبرين عليه، ولا تؤدين حقه، ولا تقومين بواجبه من الشكر، فيكون عليك بلاء وشقاء، وما قصَّة قارون عنا ببعيدة، قال تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (القصص:79)
وأما حقوق الجوار، فكثيرة، بيَّنها لنا النبي صلى الله عليه وسلم، وأوصانا بهم كثيرا ، فقال: (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) متفق عليه، ومن أبسط هذه الحقوق أن يستر عنه نعمته، فإذا دخل إلى بيته بفاكهة فليخفها عن عيون الجيران، أو يهديهم منها، وأن يمنع أولاده من الظهور أمام أولاد الجيران بملابس لا يستطيعون مثلها، ولا طعاما لا يستطيعون مثله - قدر الإمكان - وإلا كان آثما عند الله تعالى، ومذموما في الدنيا، فقولي يا أختي المسلمة من كل قلبك ومشاعرك: الحمد لله على ما رزقني، وادعي الله تعالى بأن يوفقك للشكر، وأن يتم عليك نعمه، وأن يزيدك من فضله، وعودي إلى زوجك راضية مرضية، سعيدة هانئة، وكوني له ردءا على متاعب الحياة ومشاقِّها، واصبري، فإن الله مع الصابرين، واذكري قوله تعالى: « ولنبلونكم بشيء من الخوف الجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون » البقرة 155-157، متمنيا لك ولزوجك ولأولادك كل السعادة،
وأذكِّرك بأنه لا يجب على الزوج لزوجته وأولاده في الفقه والقانون، من السكن والنفقة، إلا على قدر طاقته وإمكاناته، ما دام ذلك يسد الضروري من العيش، وإن مع العسر يسرا، وذلك لقوله تعالى: « وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها) البقرة 233، وقوله سبحانه: « لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا » الطلاق 7 ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين