التفريق للشقاق
جاءني سؤال من أخت مسلمة تقول فيه: أنا امرأة قاربت على الأربعين من العمر ، متزوجة ولي خمسة أبناء، أصغرهم في التاسعة من العمر، وقد قمت بتربيتهم والعناية بهم وتعليمهم على قدر طاقتي وإمكاني، وقد كان زوجي طيلة هذه الفترة منصرفا عنهم وعن البيت وعني، معنيا بشؤونه الخاصة وأصدقائه، يقضي أكثر أوقاته في الديوانيات (منتديات الشباب) بعد انصرافه من عمله الرسمي، فإذا عاد إلى البيت عاد محتقنا نزقا يغضب لأتفه الأمور، ويفتعل الأسباب للمشاجرة والنزاع والخلاف معي ومع الأولاد، واستمر الأمر على تلك الحال طيلة هذه السنين كلها، والآن وقد قاربت على الأربعين وضعف جسمي ونفد صبري، لم أعد أحتمل منه ذلك، ولم يعد بإمكاني الصبر عليه، فهجرت البيت إلى بيت أهلي بعدما عجزت عن استعطافه ونصحه واستمالة قلبه، وإنني عازمة على طلب الطلاق منه، لأفرغ إلى نفسي وأريح أعصابي، فما هو الطريق إلى ذلك ؟ وما هي حقوقي عليه بعد الطلاق ؟ وهل لي الحق بعد الطلاق أن أعيش مع أولادي بعيدا عنه وعن مشاكلــه وخصوماته؟
أيها الإخوة والأخوات: إن الأسرة عماد المجتمع، وهي الخلية الأولى التي تتكون منها الأمة، وبقدر ما تكون هذه الأسرة متماسكة بقدر ما تكون الأمة قوية متحابَّة، ومن هنا نبه الإسلام إلى ضرورة الاهتمام بها وإقامتها على أقوى الروابط، ثم رعايتها مدة قيامها، وصيانتها بأعدل المبادئ التي تضمن الراحة والطمأنينة والحق للزوجين والأولاد، وقد اتبع الإسلام إلى ذلك أفضل الطرق وأنجع الوسائل، وإنني سوف ألخِّص ذلك بما يلي:
1 - أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الجنسين كليهما ؛ المرأة والرجل بحسن الاختيار في فترة الخطوبة، وأن يختار كل منهما الآخر على أساس الدين والكفاءة، وهي الملاءمة والمناسبة في المستوى الاجتماعي العام،
2 - أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كلا الزوجين أن يجعلا الهدف الأول من الزواج المشاركة في بناء المجتمع، وليس اللذَّة والمُتعة، ولا بأس بعد ذلك بجعل اللذة والمتعة هدفا ثانيا بعد الأول،
3 - أمر الشارع الإسلامي كلا الزوجين بعد الزواج بحسن المعاملة ؛ كل منهما للآخر، والصبر عليه، وشدد الأمر في ذلك على الزوج أكثر منه على الزوجة، قال تعالى: « وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا » 19 / النساء، ثم وعد الله تعالى الأكثر صبرا من الزوجين على الآخر بالأجر الأوفى والثواب الأكبر،
4 - أمر الشارع الحكيم الزوجين عامة والزوج بصورة خاصة بالامتناع عن المضارَّة للآخر مهما كان الحال، قال تعالى: « ولا تضارُّوهن لتضيِّقوا عليهن » 6 / الطلاق، وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ( استوصوا بالنساء خيرا) رواه مسلم،
5 - فإذا ما استمر النزاع بين الزوجين وعسر على كل منهما احتماله وعلاجه، أمر الشارع الزوجين بالعودة إلى الأهل والأقارب، بل للحكماء منهم خاصة، ليدخلوا في الإصلاح بينهما، وإزالة الخلاف، وتذليل أسباب النزاع، قال تعالى: « وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا » 35 / النساء،
6 - فإذا عجز الحكمان عن التوفيق وتقريب وجهات النظر بين الزوجين، وإزالة أسباب الخلاف بينهما، كان لابد من الطلاق والفراق، ليذهب كل منهما في وجهة، فيرتاح من الآخر ويرتاح منه الآخر، قال تعالى: « وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما » 130 / النساء، آي أن على الزوج عندما يطلق زوجته أو يتراضى معها على المخالعة أن لا يقصد من ذلك الإضرار بها أو الإيذاء، ولكن الجنوح إلى الراحة وهدوء البال وإنهاء مرحلة الخصام والنزاع والشقاق، وإلا كان آثما في طلاقها، لقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ( لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجه وأحمد ومالك، ثم إذا طلقها فإنه يطلقها طلقة واحدة رجعية فقط في طهر لم يمسها فيه، لئلا تطول عدتها عليها من جهة، وليبقى له ولها معا حق في العودة إلى الحياة الزوجية ثانية، واستئنافها إذا ما ندما أو جدت لهما رغبة في استئنافها مرة ثانية،
أيها الإخوة والأخوات: أقول لكم ثانيا، وللسيدة السائلة وزوجها أولا: على كل من الزوجين أن يتبع التعليمات الشرعية التي قدَّمتها، فإن في اتباعها تقليلا للمشاكل والخلافات الزوجية، بل حسما لها في أغلب الأحوال، فإذا ما تفلت من هذه المشكلات والخلافات بعضها لظروف خاصة واستعصى على الحل - وهو نادر قليل - كان الطلاق هو نهاية المطاف، ولكنني هنا أحذِّر من الإسراع إلى الطلاق قبل أن يصل الخلاف إلى درجة الاستعصاء على الحل نهائيا، لأن في الطلاق إضرارا بالأولاد والأسرة عامة، فلا يجوز اللجوء إليه إلا إذا أصبح الاستمرار في الحياة الزوجية أشد ضررا منه، كما أقول للسيدة السائلة: إذا تم الطلاق بينك وبين زوجك لم يكن لك حضانة لأولادك بعد أن شبوا عن الطوق، وبلغوا سن الاستغناء عن رعاية الأم بالجملة، وسوف يبقون عند أبيهم وتحت رعايته ما دام مؤهلا لذلك، ومن حقك في خلال ذلك أن تَرَيهم بين الفينة والفينة، فإذا كان في ذلك ما يؤذي مشاعرك ويضر بنفسك وينال من أمومتك، فإن عليك قبل أن تطلبي الطلاق أن تحسبي لذلك حسابه، وأن تُحَسِّني علاقتك مع زوجك من الآن، وتحتملي ما يمكن احتماله، وتصبري على بعض الضيق في سبيل بقائك مع أولادك ضمن أسرة واحدة، فإن الله مع الصابرين، وبخاصة فقد مضى على زواجك منه واحتمالك له ردحا من الزمان، وليس عسيرا فيما أقدر أن تستطيعي الاستمرار معه ما بقي من الأيام، كما أتوجه في الوقت ذاته إلى زوج هذه الأخت السائلة ناصحا له بتحسين معاملته لزوجته، وصبره على تقصيرها إن وجد، في سبيل الحصول على مثوبة الله تعالى وأجر الصابرين، وفي سبيل حماية الأولاد الذين سيفقدون بعد الطلاق أمهم، ولا أظن أن أبا يرتاح إذا وجد أولاده في ضيق وحزن على فراق أمهم،
فرفقا أيها الزوجان بالأولاد، ورفقا براحتكم، ورفقا بأمانة الله تعالى التي حملكم إياها في زواجكم، والله تعالى من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين.