أحكام العدَّة
جاءني سؤال من امرأة توفي عنها زوجها، تقول فيه: إنني امرأة في الخمسين من عمري، وقد توفي زوجي قبل بضعة أيام، والناس يأتون إليَّ من كل مكان ليعزوني بزوجي، منهم الرجال ومنهم النساء، ومنهم المحارم وغير المحارم، وأنا أستقبلهم وأتقبل منهم العزاء في زوجي، ويحيط بي أولادي وإخوتي، وقد جاء من قال لي: لا يجوز لك أن تستقبلي أحدا من الرجال الأجانب غير المحارم، بحجاب ولا بغير حجاب، كما لا يجوز لك أن تخرجي من البيت لأي سبب كان، ولا يجوز لك أن تتزيني بأي نوع من الزينة، وذلك طيلة مدة العدة، فأرجو يا فضيلة الشيخ أن تخبرني عن مدى صحة ما سمعت، وهل العدة واجبة عليّ فعلا ؟ وما هو معناها ومدتها ؟ وما هي أحكام العدة ؟
أيها الإخوة والأخوات: العدة واجبة على كل زوجة إثر انقضاء الزوجية، لأي سبب كان الانقضاء، سواء كان بالطلاق، أو بالموت أو بالفسخ. ..، إذا كان ذلك بعد الدخول بها أو الخلوة، ولا تجب عليها العدة إذا انقضت الزوجية قبل الدخول والخلوة،
والعدة تبدأ من تاريخ الفرقة حكما، فإذا كان سببها الطلاق بدأت من تاريخ الطلاق، علمت به الزوجة أو لم تعلم، وإن كان سببها الوفاة بدأت من تاريخ الوفاة، علمت الزوجة بها أو لم تعلم، فإذا كان سببها تفريق القاضي بين الزوجين للشقاق أو الضرر أو الغيبة أو الفقد أو الإعسار بالنفقة أو غير ذلك، كان بدء العدة من تاريخ النطق بالحكم،
ولا صحة لما يروِّجه بعض العامة من أن للزوجة تأخير بدء عدتها بعد انعقاد سبب وجوبها إلى أسبوع، أو شهر، بعد الطلاق أو الموت أو التفريق. ..، لأن العدة تبدأ من تاريخ الفرقة حكما لحق الله تعالى، سواء التزمت بها الزوجة أو لم تلتزم، ولا يحق لأحد تأجيلها عن ذلك،
ومدة العدة تختلف باختلاف حال الزوجة، ونوع الفرقة، كما يلي:
فإذا كانت الزوجة حاملا عند الفرقة اعتدت بوضع حملها، سواء كان سبب العدة الطلاق أو الفسخ أو الوفاة أو التفريق. ..، لقوله تعالى: « وأولاك الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن » 4/ الطلاق،
وإذا كانت الزوجة عند الفرقة غير حامل ؛ فإذا كان سبب العدة الوفاة، كانت عدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، ما دام عقد زواجها صحيحا، لقوله تعالى: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربع أشهر وعشرا » 234/ البقرة،
وإذا كان سبب العدة طلاقا أو تفريقا أو فسخا. .. ولم تكن حاملا، كانت عدتها ثلاث حيضات، لمن هن في سن الحيض، لقوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » 228/ البقرة، فإذا كانت الزوجة صغيرة دون سن الحيض، أو كانت كبيرة يائسة انقطع حيضها، كانت عدتها ثلاثة أشهر، لقوله تعالى: « واللائي يئسن من المحيض من نسائكن إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن » 4/ الطلاق،
أما المرأة المطلقة قبل الدخول والخلوة، فلا عدة عليها، لقوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها » 49 الأحزاب،
أما أحكام العدة، فهي أربعة:
1- المكث في بيت الزوجية وعدم الخروج منه إلا لضرورة، هذا ما دام بيت الزوجية ميسَّرا للإقامة فيه، فإذا لم تكن الإقامة فيه ممكنة ؛ كأن تهدم، أو منعها من المقام فيه مانع، فإن لها أن تغادره إلى أقرب منزل تستطيع المقام فيه، فيكون هذا المنزل في حقها بديلا عن بيت الزوجية، فتقيم فيه مدة العدة ولا تغادره إلا لضرورة أو حاجة ماسَّة، كالتطبب مثلا، فإن دعت إلى الخروج منه مؤقتا ضرورة أو حاجة، فإن لها أن تخرج منه للضرورة أو الحاجة على قدرها، ثم تعود إليه فور انقضائها،
2 - ترك الزينة، وهو ما يسميه الفقهاء الحداد أو الإحداد، ومعناه ترك التحلي بالذهب وما إليه من أصناف الحلي، وترك لبس الألبسة الزاهية والمزخرفة التي اعتاد الناس التزيُّن بها ولبسها لأفراحهم، وعدم وضع الأصباغ على الوجه، وما إلى ذلك من أنواع الزينة المعتادة في العرف، وهذا في حق المعتدة من وفاة باتفاق الفقهاء، أو طلاق بائن أو فسخ عند كثير من الفقهاء، أما المعتدة من طلاق رجعي، فلا يلزمها الحداد،
3- الامتناع عن الزواج، فإذا تزوجت خلال العدة كان زواجها باطلا كأنه لم يكن،
4- الامتناع عن مقابلة الأجانب من الرجال لغير ضرورة، وذلك كله مدة العدة، فإذا انقضت مدتها انتهت هذه الأحكام وعادت المعتدة كغيرها من النساء، فيحل لها ما كان حلالا لها قبل العدة ومنعت منه في أثنائها،
هذا ويمتنع على أي من الناس خطبة المرأة المعتدة حتى تنتهي عدتها، فإن خطبها فيها أحد أثم وأثمت هي إن وافقت على هذه الخطوبة، إلا أن للخُطَّاب التعريض بخطبة المتوفى عنها زوجها دون غيرها من المعتدات، تلويحا وتلميحا من غير تصريح، قال تعالى: « ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به من خِطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرَّا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم » 235/ البقرة،
والعدَّة واجبة على الزوجة إثر الفراق كما تقدم، فإن التزمت أحكامها بَرَّت وأُجِرت، وإن خالفتها أثمت،
وحكمة تشريع العدة أمور، تختلف باختلاف نوع العدة، وهي في الجملة ما يلي:
1- استبراء الرحم وتيقن عدم وجود حمل فيه، أو وضع هذا الحمل إن كان موجودا، وذلك حفظا للأنساب التي يهتم الإسلام بحفظها كثيرا، ويعده أصلا لكرامة الإنسان،
2- تهدئة النفوس والعواطف مما يكون قد لحقها من آثار الزوجية المنقضية، كالحزن والأسى والضيق وما إليه، حتى تستطيع المرأة استئناف حياتها العادية بعدها بنفسية سليمة هادئة وواعية،
3- المحافظة على سلامة العلاقات الاجتماعية والأخلاق بين الناس، وحفظ المودة للزوج الذي انتهت العلاقة معه، هذا إذا كانت العلاقة معه هادئة يؤسف عليها، أما إذا كانت العلاقة في أصلها طائشة يفرح للتخلص منها فكذلك، تهدئة للنفوس وحفظا للسمعة بين الناس، فإنه لا يليق بالمرأة مطلقا أن تتزين بعد طلاقها أو موت زوجها، وإن المجتمع لا يحتمل ذلك أبدا ولا يسيغه، حتى لو كانت الزوجية الأولى طائشة عابثة وفاشلة،
4- حفظ سمعة المرأة من أن تلوكها الألسنة إذا ما خرجت من بيتها دون رقابة عليها ثم ظهر أنها حامل، وربما كان حملها من زوجها قبل الفراق، فإن الناس سوف يلوكون عرضها وينالون من سمعتها، وكذلك إذا تزوجت إثر فراقها لزوجها الأول، فإن الناس سوف يتهمونها بأبشع التهم،
لهذا كله فإن الإسلام فرض على المرأة العدة تلك المدة لما تقدم من المعاني والحكم، وتفرد القرآن بالنص عليها وبيان مدتها لأهميتها، وأشير هنا إلى أن مبدأ العدة هذا مبدأ إنساني عالمي، فما من شريعة من شرائع الأرض إلا وأخذت به والتزمته، كالنصرانية، واليهودية، وإن اختلفت الشرائع فيما بينها في المدة وبعض الأحكام،
ولهذا فإنني أوصي السائلة الكريمة ومن حالها مثل حالها من النساء، أن يلتزمن هذا الحكم الشرعي، ولا يخرجن عليه، إرضاء لله تعالى ووفاء بحقه سبحانه، وضمانا لحسن سير العلاقات الاجتماعية بين الناس، والله تعالى من وراء القصد، وهو أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.