النفقة على الوالدين والأقارب
وردني سؤال من امرأة مسنَّة عجوز تقول فيه: أنا امرأة عجوز كبيرة في السن، متزوجة من رجل مسن فقير دخله قليل لا يكفينا، ولذلك فإننا نحس بالعوز والحاجة وينقصنا الكثير من أمور النفقة، حتى الضروريات أحيانا، ولي أولاد أغنياء من غير هذا الزوج، كما أن لزوجي أولادا أغنياء من زوجة سابقة، فهل نستحق النفقة على أولادنا أنا وهو ؟ ومن يكون الأولى بالنفقة علينا أولادي أو أولاده ؟ وما هو مقدار هذه النفقة ؟ وما هو الطريق الشرعي والقانوني للحصول عليها يا فضيلة الشيخ ؟
أيها الإخوة والأخوات: يتميز التشريع الإسلامي عن سائر تشريعات الأرض بأنه ضَمِن للناس كافة تكاليف الحياة والمعيشة، يحصلون عليها بطريق كريم لا مذلة فيه ولا مِنَّة، فوضع لذلك مبدأ رئيسا، ثم استثنى من هذا المبدأ بعض الحالات الخاصة، تحقيقا للعدالة بين الناس واليسر في المعيشة،
فأما المبدأ الرئيس لذلك فهو: أن نفقة كل إنسان واجبة في ماله، إن كان له مال، وإلا فإنها تجب في كسبه، أي يؤمر بالعمل والاكتساب ليغني نفسه، ولا تجب نفقته على أحد، يستوي في ذلك الصغير والكبير،
فإذا لم يكن للإنسان مال ؛ بأن كان فقيرا، ولم يكن له كسب، بأن كان عاجزا عن التكسب، لمرض أو زمانة أو سجن أو غير ذلك، وجبت نفقته على أقاربه القادرين، بترتيب خاص فرضه الشارع الإسلامي، وبيَّنه الفقهاء، فإن لم يكن له أقارب قادرون على الإنفاق عليه، وجبت نفقته في بيت مال المسلمين، وهو: { الخزانة العامة }، وبذلك يكون الإسلام قد ضمن لكل إنسان حياة سعيدة ميسرة، ونفقة كافية لسد متطلباته الحياتية، بعزة وكرامة،
إلا أنه يستثنى من ذلك المبدأ العام حالات، وهي:
1- الزوجة، فإن نفقتها تجب على زوجها بعقد الزواج، سواء كانت غنية أو فقيرة، قادرة على الكسب أو عاجزة عنه، وسواء كان الزوج غنيا أو فقيرا، لقوله تعالى: « وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن » 233/ البقرة، وقوله تعالى: « لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله » 7/ الطلاق،
2- الأب، فإن كان الأب غنيا وجبت نفقته في ماله، ولا نفقة له على أحد، وإن كان فقيرا وجبت نفقته على أولاده الأغنياء، ولا يؤمر بالعمل عند أكثر الفقهاء، وذهب بعضهم إلى أنه لا نفقة له على أولاده ما لم يكن فقيرا وعاجزا عن الكسب،
3- الأم، فإن كان لها زوج فنفقتها على زوجها، لا يشاركه فيها أحد ما دام غنيا، فإن كان زوجها فقيرا قادرا على الكسب أمر زوجها بالإنفاق عليها أيضا، فإن كان فقيرا عاجزا عن الكسب ؛ فإن كان له أولاد قادرون على النفقة عليه وجب على أولاده الإنفاق عليه وعلى زوجته، ما دام محتاجا إلى هذه الزوجة، وإن لم يكن للزوج أولاد قادرون على النفقة وجبت نفقة الزوجة على أولادها هي الأغنياء إن كانت فقيرة، وإلا أنفقت من مال نفسها، وكذلك إذا لم يكن للأم زوج، فإن نفقتها تكون على أولادها القادرين على النفقة ما دامت فقيرة، فإن لم يكن لها أولاد فعلى أقاربها الأغنياء، فإن لم يكن فعلى بيت مال المسلمين، ولا تؤمر المرأة بالعمل أبدا ولو كانت قادرة عليه،
4- الأولاد الصغار، فإن كان للأولاد الصغار مال فنفقتهم تجب في مالهم، ولا نفقة لهم على أحد، لا الأب ولا غيره، وإن كانوا فقراء لا مال لهم ؛ فإن نفقتهم تجب على أبيهم لا يشاركه فيها أحد، فإن كان الأب غنيا وجبت في ماله، وإن كان فقيرا وجبت في كسبه، فيؤمر بالعمل والإنفاق عليهم، فإن كان الأب عاجزا عن العمل لمرض أو غيره انتقلت نفقتهم إلى من بعد الأب من الأقرباء،
5- المرأة، فالمرأة مطلقا أما كانت أو أختا أو عمة. .. إن كانت غنيَّة فنفقتها في مالها، وإن كانت فقيرة وجبت نفقتها على أقربائها، ولا تؤمر بالعمل تكريما لها وإبعادا لها عن مواطن الفتنة، تستثنى من ذلك الزوجة، - كما تقدم - فإن نفقتها على زوجها مطلقا ولو كانت غنية،
6- طالب العلم، فإن كان طالب العلم غنيا وجبت نفقته في ماله، وإن كان فقيرا وجبت نفقته على أقربائه مهما بلغ من السن، ولا يؤمر بالعمل، وذلك تشريفا للعلم، وتوفيرا لوقت العلماء وجهدهم ليصرفوه في سبيل تطوير العلم الذي به تبنى الأمم، وسواء في ذلك طالب العلم الشرعي وغيره، مادامت الأمَّة محتاجة إليه، وكان هو جادا فيه،
7- الأخرَق، وهو الرجل الذي لا يعرف مهنة يستطيع التكسب بها مع سلامة جسمه وقُوَّته، مثل الأولاد المدللين وأولاد الأثرياء غالبا، الذين لم يدرَّبوا على الأعمال والمهن في الوقت المناسب لسنِّهم، فإن كان هذا الأخرق غنيا وجبت نفقته في ماله، وإن كان فقيرا وجبت نفقته على أقربائه، لأنه عاجز عن الكسب حكما،
8- حالات البطالة، فإذا كان في المجتمع كساد وبطالة وجبت نفقة الفقراء على أقاربهم الأغنياء مطلقا، لانعدام الكسب منهم حكما، ما دامت البطالة مستمرة،
هذا هو ملخص حال من تجب له النفقة على غيره، أما حال من تجب عليه نفقة ذلك الغير، فقد اختلف الفقهاء فيها على مذاهب، مجملها أنه لا يشارك الأب في نفقة أولاده الصغار الفقراء عليه أحد، فإذا لم يكن للصغير المحتاج للنفقة أب، أو كان المحتاج كبيرا، وجبت نفقته على ورثته ؛ كل منهم على حسب نصيبه في الإرث، فمن افتقر وعجز عن الكسب وكان له أم وأخ شقيق غنيَّان، فنفقته ثلثها على أمه وثلثاها على أخيه على حسب إرثهما منه فيما لو مات عنهم، هذا في مذهب بعض الفقهاء، وهو أشهرها الآن، وعليه العمل في أكثر القوانين العربية، وللفقهاء الآخرين مذاهب أخري يَضيق المجال الآن عن تفصيلها، وهي مبسوطة في كتبهم،
هذا ولا تجب النفقة للغير إلا على الأغنياء من الأقرباء، والغني هنا من يجد من المال ما يكفي لنفقته ونفقة غيره، فإذا لم يكن له من المال إلا ما يكفيه هو وحده، كان ماله لنفقته هو، ولا نفقة لأحد عليه، فإذا زاد ماله عن حاجته هو ؛ وجب عليه نفقة زوجته، فإن زاد ماله عن ذلك، وجبت عليه نفقة أولاده الصغار، فإن زاد وجبت عليه نفقة والديه، ثم من وراءهم من الأقرباء، ولا يؤمر فقير بالكسب للإنفاق على غيره، إلا على زوجته ووالديه وأولاده الصغار، أما غيرهم ؛ فإن كان غنيا أنفق عليهم، وإن كان فقيرا سقطت نفقتهم عنه، ولا يؤمر بالكسب من أجلهم،
بهذا نكون قد قدمنا ملخصا عن أحكام النفقة، ومنه ننتهي إلى الإجابة عن سؤال السائلة، فنقول لها:
مادام دخل زوجك لا يكفيكما، وهو عاجز عن زيادته لكبر سنه، فإن ما نقص من نفقتكما هو واجب على أولاد زوجك، مادام زوجك بحاجة إليك، فإذا لم يعد بحاجة إليك أو طلَّقك، فإن نفقتك تجب على أولادك، ونفقته هو تبقى واجبة على أولاده، ولا يجب على أولادك الإنفاق على زوجك هذا أبدا، إلا أن يدفعوها مختارين، فيشكرون ويؤجرون.
وأما طريق تحصيل هذه النفقة، فهو التراضي إذا أمكن، فإن تعذر التراضي وامتنع الأولاد عن الإنفاق، وجب رفع الأمر إلى القاضي، والقاضي بعد ثبوت غنى الأولاد - في حق الأقارب غير الأبوين والأولاد الصغار كما تقدم - يُلزمهم بالنفقة قضاء، ويأخذها من مالهم جبرا عنهم، والله تعالى أعز وأعلم .