وللرجال عليهن درجة
جاءني سؤال من أخت مسلمة حائرة بين ثقتها بإسلامها وحبها له وتفانيها في التزام أحكامه، وبين ضعف فهمها لبعض تعاليمه، تقول فيه:
أنا فتاة مؤمنة مسلمة ملتزمة بالحجاب الإسلامي، ومواظبة على الصلاة والصوم وعبادة الله تعالى، ومقتنعة من كل قلبي بأن الإسلام أفضل الأديان وأعدلها، لا يخالجني في ذلك شك، وقد رزقني الله تعالى بزوج مسلم عابد لله تعالى، وإنني أحمد الله تعالى على ذلك، ولكن زوجي مع تقواه نَزِقٌ حدُّ المزاج سريع الغضب، فإذا ما بدر مني ما يَعُدُّه تقصيرا في حقه غضب وشمخ بأنفه وأسمعني أشد الألفاظ المقذعة، وكل ذلك مما أحتمله وأصبر عليه، إلا أن الذي يثيرني وينفذ صبري في بعض الأحيان قوله لي: أنا رب البيت، وصاحب الكلمة فيه وحدي، وعليك أن تسمعي وتطيعي فقط، أما تسمعين قوله تعالى: « وللرجال عليهن درجة » 228 / البقرة، فأسكت ائتمارا بأمر الله تعالى، وأرضى بحكمه، ولكنني أجد في نفسي ضيقا وحنقا من ذلك الشموخ والتطرف من قبل زوجي،
فأرجو يا سيدي أن تبين لي معنى هذه الدرجة التي وردت في الآية الكريمة السابقة ، وهل تعني فعلا أن يتفرد الرجل بالرأي وحده دون المرأة في كل شيئ، وتعني أن يستهين الرجل بزوجته ويتكبَّر عليها ويتحكَّم فيها، وأعدك بأن أستمع إليك وأرضى بحكم الله تعالى وأمره.
أقول للسيدة الفاضلة صاحبة هذه المشكلة: إن كتاب الله تعالى أُنزل بلسان عربي مبين، يعرفه كل عربي عارف بلغة العرب، وليس وقفا على واحد من الناس دون غيره ، يصرفه عن معناه، ويَحرِفه عن مرماه، ويُفسِّره على هواه،
هذه الآية الكريمة لها صدر يوضِّح معناها، ويبيِّن مرماها، وهو قوله تعالى: « ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة » 228/ البقرة، وهي صريحة كل الصراحة بَيِّنَة كل البيان في أن ما للنساء على الرجال من الحقوق يعدل ما للرجال على النساء منها تماما دون مفاضلة، وإن كلمة بالمعروف جاءت لتهدئة الخواطر وإثارة روح التسامح بين الجنسين، وأما قوله تعالى: «وللرجال عليهن درجة»، فإن المراد به درجة القوامة والقيادة والريادة للأسرة، بالحكمة والموعظة الحسنة، والدليل والبرهان، وبذل الجهد لإسعاد الأسرة، وإدخال البسمة والفرحة إلى قلوب أفرادها، والسير بها في شاطئ الأمان، وإنها لمسؤولية أكثر منها منحة، وليس فيها أي إخلال بمبدأ العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين الرجال والنساء، وهي درجة يقابلها درجة مثلها للمرأة، فإن كانت قيادة الأسرة للزوج فإن للزوجة مقابلها الإعفاء من النفقة على أولادها وأسرتها، بل إعفاؤها من النفقة على نفسها أيضا، مهما بلغت من الثراء وبلغ زوجها من الفقر، ثم إن قيادة الأسرة لا تعني تفرُّد الزوج بالرأي وتحكُّمه بالزوجة، وإنما تعني نظره في مصالحها، واهتمامه بشؤونها وتدبير أمورها، بروح من الإحساس بالمسؤولية الكبرى نحو التعرف على حاجاتهم وعواطفهم وتطلعاتهم، والاستنارة بمشورتهم صغارا وكبارا، وإذا كان هذا الأمر مطلوبا من النبي صلى الله عليه وسلم في إدارته للدولة والمجتمع، في قوله جل من قائل: « وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله » 159/ آل عمران، فهو مطلوب من رب كل أسرة في إدارته للأسرة من باب أولى، أما استمع هذا الزوج الجاهل إلى قوله صلى الله عليه وسلم في إكرام النساء: ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، رواه الترمذي وابن ماجه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (آمروا النساء في بناتهن) رواه أبو داود،
ثم إنني أتوجه إلى هذا الزوج فأقول: يا أخا الإسلام : لا تتمثل بالقرآن بعد اليوم إلا بعد أن تفهم معناه ومرماه وسياقه وسباقه، ولا تتخذ منه سندا لتجبرك وتكبرك وتعاليك على عباد الله تعالى، ولا تجعل منه غطاء لأخطائك وتجاوزاتك، واتخذه منار هدى ترجع إليه في حل مشكلاتك، تتخلق بأخلاقه وتستنير بمبادئه وتصحح سلوكك على منهاجه، أما قرأت فيه قوله تعالى: « ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن » 125/ النحل، وقوله تعالى: « ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم » 34 / فصلت،
إن الرئاسة في الأسرة وقيادتها ضرورة اجتماعية إنسانية لابد منها لسير الأسرة واستمرارها، وليس هذا مقصورا على الأسرة وحدها، ولكنه عام في كل جماعة وفئة وأمة ودولة، هل تجد دولة بدون رئيس ؟ أو أمة بدون قائد ؟ أو جماعة بدون مُقَدَّم عليها ؟ يُسَيِّر أمورها، ويرعى شؤونها، ويشد من أزرها، تُرى أتكون الرئاسة هذه منحة تُخل بمبدأ العدالة والمساواة ؟ أم تكون طريقا للشموخ والتعالي على عباد الله تعالى ؟ أم التفرد والظلم للرعية، وهو ما يلجأ إليه أصحاب النفوس الضعيفة الجاهلة بمعنى الرئاسة والقيادة ؟ إن الرئاسة مِحنة ومسؤولية ومعاناة ومشقة وتضحية، تقوم بها الشخصيات الكبيرة، وتقدم عليها النفوس المطمئنة المتعالية على النزوات والمصالح الخاصة، تتخذ منها طريقا للبناء وجمع الشمل وإقامة الحضارة والارتقاء بالأمة، وإنها لكذلك، فكن كذلك يا أخي الزوج المؤمن، حتى تكون القائد الصالح، والمربي المصلح، والزوج الناجح، كن أكثر أفراد الأسرة تواضعا وتفهما لمشاكل الأسرة ومتاعبها وهمومها، احملها في قلبك ليل نهار، محاولا حلَّها وتأمين السعادة لأفرادها، ولك بمقابل ذلك من الله تعالى المثوبة والرضوان، وجنات عرضها السماوات والأرض، وفي الدنيا الثناء وراحة البال والسعادة الأسرية، استمع معي إلى قوله تعالى يخاطب نبيه الكريم: « فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظَّا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين » 15 / آل عمران.
أختي المؤمنة صاحبة السؤال أو المشكلة ؛ أقول لك أخيرا، ومن ورائك لكل أخ مؤمن وأخت مؤمنة، وأدعوكم جميعا لتحافظوا على حبكم لله تعالى وإيمانكم بسداد منهجه، وأدعوك أخي الزوج المؤمن وأدعو مِن ورائك كلَّ الرجال والأزواج، إلى تفهم كتاب الله تعالى بروح المسؤولية، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بروح ملؤها الثقة بنجاعتها وكفايتها لمسايرة أمور الحياة المعاصرة، مذكِّرا بقوله تعالى: « ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم » 34 / فصلت، والحمد لله رب العالمين.