معنى المهر ومقداره
جاءني سؤال من شاب واع لأمور الحياة، ومدرك لمشكلاتها، وقادر على خوض غمارها، يقول فيه:
إنني شاب نيَّفت على العشرين من العمر، وقطعت في الدراسة شوطا مناسبا، فقد حصلت على الشهادة الثانوية، ولم أستطع متابعة دراستي في الجامعة لأسباب اجتماعية واقتصادية ؛ فقد توفي والدي منذ سنتين، وترك لي أسرة من زوجة هي والدتي، وستة من الأبناء والبنات، هم إخوتي وأخواتي، وكلهم أصغر مني في السن، ولم يترك لنا ما يذكر من المال، وكان عليَّ أن أقوم وحدي بإعالة هذه الأسرة كلها، فتفرغت للعمل من أجل ذلك، واعتزلت الدراسة بعد الحصول على الشهادة الثانوية، ودخلي المحدود يكاد يسد حاجة الأسرة اليومية لا غير، وإنني أتطلع إلى الزواج وبناء أسرة وإنجاب أطفال، وذلك كله يحتاج إلى المهر والمسكن ونفقة الزوجة وأثاث البيت، وقد استطعت بفضل الله تعالى تأمين مسكن من غرفتين عزلتهما من دار أسرتي الواسعة، وبنيت لهما مرافق خاصة بهما مما جعلهما مسكنا منفردا مناسبا لأمثالي، كما استطعت تأمين مبلغ بسيط من المال كنت اقتطعته من دخلي الشهري على حساب متطلباتي الشخصية من أجل تأمين المهر، إلا أن هذا المبلغ لا يكفي للمهر الذي اعتاد الناس اليوم طلبه لبناتهم، ولو أنني انتظرت عشر سنين فلن أستطيع تأمين المهر المعتاد اليوم بين الناس، ثم إن هذا المهر الذي يأخذه الأولياء لبناتهم اليوم يأخذون بعضه ويصرفونه في مصالحهم الشخصية، ويشترون بالباقي بعض الحلي لبناتهم، ولا ينفقون منه شيئا على بيت الزوجية الذي على الزوج وحده أن يوفره بعد دفع المهر، ولهذا كتبت إليك يا فضيلة الشيخ، حتى تبيِّن لي ولأمثالي معنى المهر في الفقه الإسلامي، ومقداره وطرق التصرف فيه، لعلي أجد في ذلك ما يساعدني على حل مشكلتي،
أيها الإخوة: إنني سوف أقدم لكم في سطور قليلة ملخصا عن معنى المهر في الشريعة الإسلامية، وحكمة تشريعه، ومقداره، والحقوق المتعلقة به،
فالمهر واجب للزوجة على زوجها بالعقد حكما، ذُكر فيه المهر أو لم يُذكر، وهو هديَّة يكرم الزوج بها زوجته عند بنائه بها، واشتراكِهِ معها في بناء الأسرة، وليس ثمنا يدفعه الزوج لامتلاك الزوجة به، ذلك أن الحر لا يقوم بالمال مهما بلغ، ولو جاز تقويمه به لما كفى الزوجة مهرا مال الدنيا كله، لأن الإنسان أكرم ما في هذا الوجود، ولا يعدله شيء من المال أبدا مهما كثر، قال تعالى: « ولقد كرمنا بني آدم » 7/ الإسراء، وقد سمى القرآن الكريم المهر نِحلة، وهي الهدية، قال تعالى: « وآتوا النساء صدُقاتهن نِحلة » 4/ النساء، وقد دعا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وشجع وأغرى أولياء أمور الفتيات على الاكتفاء من المهر بالقليل قدر الإمكان، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: ( إن مِنْ يُمْن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها وتيسير رحمها) رواه أحمد، وقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تعرض نفسها عليه ليتزوج منها، فقال لها: ( أتريدين أن أزوجك ممن أراه ؟ قالت: نعم، فنظر إلى رجل وقال له هل تتزوجها ؟ فقال نعم، فقال ما معك من المهر ؟ فقال: ما معي منه شيء، فقال له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: التمس ولو خاتما من حديد) متفق عليه، وقد تزوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم زوجات عدة، وأمهر كل واحدة منهن اثنتي عشرة أوقية من الفضة ونصف أوقية، رواه مسلم، كما زوج ابنته السيدة فاطمة من علي رضي الله تعالى عنه فأمهرها درعه، رواه أبو داود، وفي تلك الأحاديث الشريفة درس لنا جميعا، نستنبط منه أمرين:
الأول: لزوم التيسير في المهر، وعدم إعنات الشباب بطلب مالا يطيقون منه ،
الثاني: حض الشباب حضا قويا على بذل ما يطيقون من المال في سبيل ذلك، وعدم الضن بما هو متيسر لهم منه، لأن في المهر تكريم رفيقة العمر، وشريكة الحياة، مما يتألف قلبها ويشعرها بمزيد من الكرامة والمكانة في بيت زوجها، فيزداد ارتباطها به، وبالتالي حرصها عليه وعلى صاحبه، وهو الزوج،
وقد نص كثير من الفقهاء على أن المهر لا حد لأقله، وكل ما جاز التزامه شرعا جاز عده مهرا، مهما قل، وذهب الحنفية والمالكية، إلى أن أقل المهر خمسة دراهم، أو عشرة دراهم من الفضة، على خلاف بينهما في ذلك، وهو على كل حال مبلغ زهيد لا يتجاوز الدينار الواحد، أما أكثر المهر، فقد اتفق الفقهاء على أنه لا حد له، وأن أمره متروك إلى ظروف حال الزوجين وبيئتهما ومستواهما المالي والاجتماعي، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه هَمَّ مرة بتحديد المهور في المدينة المنورة بعد أن تغالي الناس فيها، وصعد المنبر لذلك، فاستوقفته امرأة وقالت له: أّنَّا لك هذا يا ابن الخطاب، فقد أعطانا الله وأرضانا، قال سبحانه: « وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا » 20/ النساء، فقال عمر للناس على الفور: أصابت المرأة وأخطأ عمر،
ثم إن المهر حق للمرأة وحدها، وهو مِلكها تتصرف فيه كما تشاء، ما دامت عاقلة بالغة رشيدة، لا يقيدها في ذلك شيء، ولا حق فيه لوالديها أو غيرهم، إلا أن تعطيهم منه شيئا بطيب نفس ودون إكراه، فإن أخذا شيئا منه دون إذنها أو رضاها كان حراما عند جماهير الفقهاء، كما لاحق في المهر للزوج أيضا بعد أن يدفعه إليها، فلا يُلزِم الزوجة بتجهيز المنزل به، إلا أن تفعل ذلك بطيب خاطر منها ورضا دون إكراه أيضا،
وقد ابتدع الناس عبر تاريخهم طريقة في المهر، تحفظ للزوجة كرامتها، وتوفر للشباب التيسير عليهم في دفع المهر، وهي المهر المؤجل، حيث يتم تأجيل جزء من المهر المسمى في العقد إلى زمن متأخر عن الزواج، إلى سنة أو سنتين أو أكثر من ذلك، أو إلى الفراق بالطلاق أو الموت، كما يمكن تأجيل المهر كله، فيكون دينا على الزوج لزوجته، فإذا حل الأجل وكان الزوج ميسورا دفعه إليها، وإن كان معسرا فنظرة إلى ميسرة، وقد أقرت عامة القوانين العربية والإسلامية هذا الحل، ونصت على جوازه،
وفي الختام أتوجه بالنداء إلى شبابنا أن يبذلوا قصارى جهدهم لتوفير المهر ومتطلبات الزواج، ولا يقصِّروا أو يبخلوا في ذلك، كما أتوجه بالنداء أيضا وبالقدر نفسه إلى أولياء أمور الفتيات، أن يتساهلوا في أمر المهر، ولا يطلبوا ما يُحرج الشباب ويَخرج عن طاقتهم، وأن يَقبلوا بتأجيل بعض المهر إلى زمن لاحق أو إلى الفراق، حلا لهذه المشكلة المتنامية في مجتمعاتنا، وتشجيعا للشباب على الزواج، مع حفظ كرامة الزوجة ومكانتها، والله تعالى من وراء القصد، وهو يهدي السبيل، والله تعالى أعلم.