نظر كل من الخطيبين إلى الآخر
جاءني كتاب من فتاة مسلمة تقول فيه: إنني فتاة في التاسعة عشرة من العمر، وقد أنهيت دراستي الثانوية، وتقدم لخطوبتي شابٌّ في الخامسة والعشرين من العمر، ويريد أبي أن يزوجني منه دون أن أراه أو يراني، ودون أن أعرف شيئا عن صفاته وأحواله، وأخشى إذا ما وافقت على الزواج منه أن لا أرى فيه فتى أحلامي، ولا مطمح آمالي، ولا زوج المستقبل الذي أتطلع إليه، من حيث شكله، ومن حيث مِزاجه، ومن حيث ثقافته، ومن حيث طبائعه وأحواله كلها، وقبل ذلك كله دينه، كما إنني أخشى أن لا أكون الفتاة التي تناسبه، فإنني فتاة سمراء، وربما كان هو يطمع في فتاة شقراء، ثم إنني فتاة فيها بدانة، وأخشى أن يكون هو يطمع في فتاة هيفاء، إلى آخر ما هنالك من الصفات فيه وفيَّ، وقد ساورني في ذلك الكثير من الشكوك، حتى أصبح التفكير في ذلك همي اليومي، وشغلي الشاغل الذي أخذ عليَّ كل وقتي وجهدي، وإنني أخشى إن رفضته أن أكون قد فوَّت على نفسي فرصة قد لا يسنح لي مثلها بعد ذلك، وإن قبلت به أن أقع في المخاطر التي أتخوف منها، فما هو العمل الذي يأمرني وينصحني به الإسلام في هذه الحال ؟
أقول لهذه الفتاة المسلمة: أيتها الأخت الكريمة، إنني أحمد الله تعالى إليك مرتين ؛ المرة الأولى لأنك بادرت إلى الكتابة إليَّ وسؤالي عن الموضوع الذي شغلك وأهمك قبل أن تبادري أو تتورطي في أي تصرف قد تندمين عليه، في أمر هو من أخطر أمور الحياة، وهو أمر الزواج، وهو إن دل على شيء، فإنما يدل منك على وعي وحصافة، وثقة بالله تعالى وبالإسلام، نظاما ومنهاجا للحياة، وهو الدين الشامل الذي أكمله الله تعالى لعباده، وجعله الوسيلة لسعادتهم وهنائهم في كل أمورهم، يرجعون إليه في الملمات والمهمات من الأمور، يستنطقونه الحل المناسب لمشاكلهم وأحوالهم، قال تعالى: « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » 43 / النحل، والمرة الثانية لأنك كتبت إليَّ، ليَعلم كثير من الفتيات بهذا الجواب، ويسمعن بهذا الخطاب، لعلهن يجدن فيه الحل الشافي لمشاكلهن المشتركة معك، فإن حالك أيتها الأخت الكريمة حال آلاف الفتيات أمثالك، وإن الجواب على سؤالك هذا هو جواب على كل أسئلتهن المشتركة معك،
وفي الجواب لهذه الفتاة أقول: إن عقد الزواج من أخطر العقود التي يعقدها الإنسان في حياته، وأهمها وأحوجها إلى التروي والتبيُّن، وإذا كانت العقود كلها تحتاج من عاقديها إلى رضا قائم على معرفة تامة بدقائقها وأحوالها، وأبعادها وأحكامها، فإن عقد الزواج أحوجها إلى ذلك كله بكل تأكيد، وما شَرَع الله تعالى لعقد مقدمة غير عقد الزواج، وهي الخِطبة، وما الخِطبة إلا مرحلة تَبَيُّن وتدبر من كل من الخاطبين لأحوال الخاطب الآخر، ودراسة مزاجه، وشكله، وماله، ومركزه الاجتماعي، ومهنته، وقبل ذلك كله دينه وخلقه، وليس ذلك مقصورا على الرجل وحده، ولكنه حدٌّ مشترك بين المرأة والرجل على سواء، فإذا ما تمت معرفة كل من الخاطبين للآخر على وجه مناسب، انتقل إلى دراسة أخرى عنه مجانبة للدراسة الأولى، وهي معرفة مدى ملاءمته له، وتوافقه معه، وانسجام صفاته مع صفاته، وأحواله مع أحواله، فقد يكون الزوجان كلاهما من الصادقين ولا يتم بينهما انسجام، وقد يكونان كلاهما على مرتبة عالية من الجمال والمال والحسب والدين ولا يتم بينهما اتفاق، وذلك لعدم تطابق كل منهما مع الآخر في مضمون تلك الصفات، وهو ما يسميه الفقهاء بالكفاءة، ولهذا كان لابد من توافر صفات الفضيلة في كل أولا، ثم ملائمة ذلك لما عند الثاني، وتطابقه مع صفاته أو تقاربهما في ذلك على الأقل. وذلك كله يعرف بالسؤال من الأهل والجيران، والتحرِّي من الأصدقاء والخِلاَّن، وهو سؤال مأذون به، ولا يعد من التجسس المحرم بحال من الأحوال، لأنه يهدف إلى مصلحة غالبة لا تتأتى إلا به، ثم إن على من يُسأل عن أحد من أجل الزواج أن يَصْدق السائل القول فيما يسأله عنه، من غير حَرَج أو مجاملة، فيقول له كل ما يعرفه عنه بأمانة وموضوعية دون تستُّر، ولا يعد ذلك من الغِيبة المحرَّمة، للحاجة إليه، فيقول له ما يعرفه عن كَرَمه وبُخْله، وصِدقه وكَذبه، وحِدَّة طبعه أو برودته، ومحافظته على الصلاة أو تساهله فيها، إلى غير ذلك، إلا أن عليه أن ينتقي الألفاظ المهذبة التي يستعملها، والكنايات دون التصريحات، والتلميحات دون التعبيرات المباشرة، لكي لا يَلحق بالخاطب المسؤول عنه ضرر فوق الحد الضروري المحتاج إليه لكشف حاله، وبيان صفاته، وكل كتمان لأي من ذلك هو خيانة لله ورسوله، وتوريط للخاطب السائل في علاقة قد لا تحمد عقباها، ولا يَعرف خطورة ذلك إلا الله تعالى.
إلا أنني أقرر سلفا أن هذا السؤال وذلك التحري، مع كشفه لأكثر أحوال الخاطب أو المخطوبة ؛ من سلامة النسب، وكريم الأخلاق، ومحاسن الصفات، لا يمكن أن يغني عن النظرة الذاتية بالعين، من كل من الخاطبين للآخر، في الشكل والمضمون، وقديما قال الشاعر: / فما راءٍ كمن سمع /، ومن هنا أباح الشارع الحكيم - بل حضَّ وشجَّع - على نظر كل من الخاطبين إلى الخاطب الآخر، حتى يعرف شكله، فيقبله أو يرفضه، ويتبيَّن بعينيه ما فيه من عيوب، فيقبلها أو يقرر أنه لا يحتملها، لأن الإنسان مهما بلغ من الجمال، قد لا يخلو من عيوب يقبلها الآخرون منه أو يرفضونها، كالطول الزائد، أو القصر الزائد، أو البياض الزائد، أو السمرة الزائدة، أو النحافة المفرطة، أو البدانة الزائدة، أو غير ذلك من الصفات الأخرى، بالإضافة إلى صفات الأخلاق، والمزاج، وجاذبية الحديث. ..، وهذا كله لا يعرف إلا بالنظرة، والكلمة، والمحادثة الهادئة، قال صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة وقد خطب فتاة: ( انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا) رواه مسلم،
إلا أن ذلك كله إذا ما فتح على مصراعيه كان له أخطار وأضرار، تفوق ما فيه من مصالح ومنافع، مما لا يرضى به الإسلام ، ولا أحد من العقلاء، فقد يحصل بنتيجة ذلك تعلُّق من كل من الخاطبين بالآخر، دون أن يوجد بينهما توافق ولا تلاؤم حقيقي، فيُقبِل أحدهما على الآخر برعونة يصعب في كثير من الأحيان على الأهل الحيلولة معها دونهما، فتكون النتيجة شقاء وبلاء، وربما كان أحد الخاطبين مخادعا وغشاشا، فيظهر الرضا بالآخر والانسجام معه حتى يوقعه في التعلق به، ثم يمارس معه طرق الابتزاز والتلاعب بالعواطف، مما يجر الكثير من العقد النفسية، والأزمات الاجتماعية، وربما تورَّط أحدهما مع الآخر بعد هذه النظرة بعلاقات آثمة، يكون ثمنها شرَفه وحياته، وربما شرف أسرته كلها أيضا، ودفعا لهذه الأضرار كلها، وتوفيرا للمصلحة التي ترجى من هذه النظرة، فقد وضع الإسلام لهذه النظرة حدودا تحفظها من المغالاة والشطط، وتوفر كل ما فيها من المصلحة، وهي:
أولا) أن يكون نظر كل من الخطيبين للآخر بعد استكمال دراسته له، بالسؤال من الأهل والجيران والأصدقاء، وبعد أن يقع في نفسه من خلال ذلك أنه يناسبه ويلائمه.
ثانيا) أن يستنصح - قبل النظرة - الأهل والأقارب فيه، وبخاصة الوالدين، وأن يطلب منهما مشاركته في التحرِّي والتبيُّن، عن مدى ملاءمته له، وأشدد في هذا كثيرا في حق الفتاة أكثر من الفتى، وإن كان الأمر فيهما على سواء من حيث أصل المسألة.
ثالثا) أن يتواعد الخطيبان على نظر كل منهما للآخر في جلسة هادئة، تضم مع الخطيبين بعضا من محارم الخطيبة الرجال، كأبيها أو أخيها. .. دون غيرهم، لأن في غيابهم عن الجلسة وتفرد الخطيبين بها خلوة محرمة آثمة، لها ذيول خطيرة كثيرة، وفي حضور غير المحارم مع الخطيبين اجتماع بالأجنبيات أو الأجانب من غير ضرورة، وهو ممنوع شرعا.
رابعا) أن تظهر الفتاة لخطيبها في أثواب فضفاضة تستر عامة بدنها، سوى الوجه والكفين، وهذا هو قول جمهور الفقهاء، وأجاز البعض النظر إلى الرأس، والأول هو رأي الأكثرين، وهو الأحوط، وتورط البعض بالإذن بما هو أكثر من ذلك، وهو شذوذ لا يعول عليه، ولا يعمل به،
خامسا) أن يحاول كل من الخطيبين التحدث مع الآخر، وفتح حوار معه، وعلى محارم الفتاة أن يسهِّلوا هذه المهمة بلباقة، بإدارة الحديث بين الخطيبين، حول ما يهم كلا منهما من الآخر، فيتعرف كل منهما على أفكار الآخر، وطريقة حديثه، وسرعة بديهته، ولطفه. .. إلى غير ذلك من الصفات، التي تظهر في مثل هذه الحال ،
سادسا) ألاَّ تطول هذه الجلسة، لئلا تصبح محرجة ومملة لأحد من الموجودين، فإذا خجل الخطيبان ولم يستطيعا التبيُّن بشكل مناسب، فلا بأس بأن تكرر هذه الجلسة ثانية، ثم ثالثة، ولا يزاد على ذلك، لأن النظرة الرابعة أو الخامسة سوف تكون للتلذذ والتمتع، وليس للتبيُّن، والتمتع بالأجنبية حرام، وله ذيول ضارة،
وإنني لا أرى أن تكون هذه الجلسة أو الجلسات إلا بعد سؤال كل منهما عن الآخر، والركون إليه - كما تقدم - لأن النظرة قد ينتج عنها تعلُّق، وربما لا يكون بينهما انسجام وتلاؤم، فيقع المحظور.
هذه أيتها الأخت السائلة هي النصائح التي أستطيع أن أقدمها إليك، وإلى كل فتيات شعبنا وأمتنا وأوليائهن، وأرجو أن يكون فيها ما يوضح المراد، ويكشف عن المطلوب، ويوصل إلى المبتغى، وكلي رجاء أن توفقي أختي السائلة إلى سواء السبيل، وأن توفق كل فتاة مؤمنة في خطوبتها بالالتزام بآداب الإسلام وتعاليمه، فإن في ذلك الخير الوفير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.