الحضانة
جاءتني رسالة من شابَّة مسلمة تقول فيها: إنني امرأة متزوجة، ولي ثلاثة أولاد، وقد ساءت العلاقة بيني وبين زوجي أخيرا، وانتهى الأمر بنا إلى الطلاق، وذهبت إلى بيت أهلي، وأخذت معي أولادي الثلاثة، وقد مضى على طلاقي سنتان، والآن يطلب زوجي الذي طلقني مني الأولاد، ليقوم هو بحضانتهم، فتمسكت بهم، ورفضت تسليمهم إليه، بل رفضت السماح له برؤيتهم أيضا، ونويت إقامة الدعوى عليه بطلب نفقتهم وأجرة حضانتهم، ثم إنه جاءني خاطب جديد، وقد وافقت عليه، وربما تزوجنا خلال سنة، فهل يبقى لي الحق بحضانة أولادي بعد زواجي، مع أن زوجي الجديد موافق على ضم أولادي إليَّ في بيته بعد زواجنا، وهل لي الحق في أخذ نفقتهم وأجرة حضانتهم من أبيهم ؟
أيها الإخوة والأخوات: حضانة الأولاد ماداموا صغارا محتاجين إلى الرعاية الذاتية هي من حق أمهم، لا ينازعها فيها أحد ما دامت مهيأة لها وقادرة عليها، لا الأب ولا غيره، أما نفقتهم فهي واجبة على أبيهم ما داموا فقراء صغارا، ثم إن كانت أمهم زوجة لأبيهم ضمهم الأب معا في بيته، وأنفق عليهم جميعا، وإن طلق الأب زوجته حضنتهم في بيتها أو بيت أهلها الذي تقيم فيه معهم، ولها الحق في هذه الحال بمطالبة أبيهم بنفقتهم، أما أجرة الحضانة وهي أجرة الرعاية والحماية لهم والإشراف على تربيتهم، فإنها على أبيهم أيضا، لأنها جزء من النفقة، وتستحقها الأم منه بعد الطلاق وانقضاء العدة، أما إذا كانت زوجة أو معتدة مستحقة لنفقة العدة عليه فلاحق لها في أجرة الحضانة،
هذا كله ما دامت الزوجة أو المعتدة أو المطلقة أو الأرملة مؤهلة لحضانة الأولاد، وذلك بأن تكون قادرة على رعاية الأولاد، وأمينة عليهم، ومتفرغة لهم، فإذا كانت مريضة عاجزة عن ذلك فلا حضانة لها عليهم، رعاية لمصلحتهم، وكذلك إذا تزوجت بعد بينونتها وانقضاء عدتها من زوجها الذي طلقها، فإن حضانتها تسقط بذلك الزواج عن أولادها من مطلقها، إلا أن يكون زوجها الجديد رحما مَحْرَما من الأولاد، كما إذا كان عمهم، فإذا كان كذلك لم تسقط حضانتها لهم، وضموا إليها في بيت العم إذا قبل بذلك، وإلا سقطت حضانتها لهم،
ثم إذا تزوجت أم الأولاد أو مرضت، انتقل حق الحضانة بعدها إلى أمها، جدة الأولاد، مادامت قادرة ومهيأة لحضانتهم وغير متزوجة بأجنبي عن الأولاد، فيكون لها أجرة الحضانة ونفقة الأولاد كالأم، فإذا لم تكن مهيأة للحضانة أو كانت متزوجة بأجنبي عن الصغار، سقطت حضانتها وانتقلت إلى جدتهم أم أبيهم، مادامت صالحة للحضانة بالشروط السابقة، فإذا عجزت أو كانت غير مهيأة انتقلت الحضانة إلى من بعدها في الدرجة، واختلف الفقهاء فيمن تكون له الحضانة بعد الجدتين على أقوال ومذاهب، وأكثر الفقهاء على أنه يأتي بعد الجدتين أخت الأولاد: الشقيقة الكبيرة البالغة، وبعدها أختهم لأمهم، وبعدها أختهم لأبيهم، وبعدها بنت الأخت الشقيقة، ثم بنت الأخت لأم، ثم بينت الأخت لأب، ثم الخالة الشقيقة، ثم الخالة لأم، ثم الخالة لأب، ثم بنت الأخ الشقيق، ثم بنت الأخ لأم، ثم بنت الأخ لأب، ثم العمة الشقيقة، ثم العمة لأم، ثم العمة لأب، ثم خالة الأم الشقيقة، ثم خالة الأم لأم، ثم خالة الأم لأب، ثم خالة الأب الشقيقة، ثم خالة الأب لأم، ثم خالة الأب لأب، ثم عمة الأم الشقيقة، ثم عمة الأم لأم، ثم عمة الأم لأب، ثم عمة الأب الشقيقة، ثم عمة الأب لأم، ثم عمة الأب لأب.
فإذا لم يكن أحد من تلك الحاضنات مهيئا للحضانة ومستوفيا لشروطها، انتقلت الحضانة للذكور من العصبات على ترتيب الإرث، فتكون للأب، ثم للجد العصبي، ثم للأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، حتى تنتهي إلى أبناء العم وأبنا عم العم وإن بعدوا، ويستثنى من ذلك حالة ما إذا كان المحضون فتاة، فإنها لا توضع في حضانة غير المحرم عنها أبدا، فإذا لم يوجد أحد من هؤلاء جميعا مؤهلا للحضانة، ترك الأمر للقاضي في وضع الأولاد عند من يرعاهم ويحسن إليهم، ولو كان من الغرباء، في قول كثير من الفقهاء، وذهب أبو حنيفة إلى أن المحضون ينتقل بعد العصبات إلى ذوي الأرحام من الرجال، كالأخ لأم وأبنائه، ثم العم لأم وأبنائه، ثم الخال لأم وأبنائه، وهكذا. .
ومن هذا الاستعراض المجمل لتسلسل الحاضنات نستشعر مدى اهتمام الفقه الإسلامي برعاية الأطفال وحمايتهم والعناية بهم، حيث يرعاهم تحت عناية أقرب الناس إليهم وأحناهم عليهم: الأم، ثم الجدات، ومَنْ وراءهن، وإنهم لا ينتقلون إلى حاضنة بعدى مع توفر حاضنة أقرب منها إليهم، وجعل من شروط استحقاق الحاضنة للحضانة أن تكون قادرة على رعايتهم، وراضية بضمهم إليها، فإذا لم تكن مهيأة لرعايتهم، أو غير راضية بحضانتهم رغم قدرتها وتهيئها لذلك، لم تجبر على حضانتهم، وذلك رعاية لحريتها من جهة، ولحماية كرامة الأطفال وعزتهم من جهة ثانية، حيث ينقلون إلى حاضنة بعدها ترضى بذلك.
ثم إن الحاضنة إذا كانت متزوجة بغير ذي رحم محرم من الأولاد سقطت حضانتها عند أكثر الفقهاء، ولو رضي زوجها بحضانتهم وضمهم إليها في بيته، وذلك دفعا لضرر متوقع عليهم، ودفعا لحرج قد يتعرض له الزوج أو الحاضنة من جراء ذلك، فيكون الأفضل للجميع نقلهم إلى حاضنة بعدها مهيأة لذلك.
أما رؤية الأب لأولاده في مدة الحضانة ؛ فهي حق شرعي وقانوني له، وفاء لحقه وحق الأولاد في أن يشملهم بعنايته ورعايته، ولا تستطيع الحاضنة أمّاً كانت أو غيرها منعه من ذلك، أما مكان رؤيتهم له وزمانها فهذا أمر يجب أن يتفق عليه بين الأب والحاضنة، فإذا ما تعذر الاتفاق عليه بينهما حسمه القاضي بحكم قضائي، يعين فيه الزمان والمكان بحسب ما يراه من المصلحة، وأغلب القضاة اليوم يحكمون برؤية المحضون من قبل أبيه كل أسبوع مرة، وأفضل المواضع للرؤية هو بيت الأب أو بيت الحاضنة أو بيت قريبٍ لهما، فإن تعذر ذلك جعلت الرؤية في مخفر الشرطة، وهو وإن كان فيه بعض الإحراج، إلا أنه المكان الوحيد عند رفض الحاضنة تمكين الأب من الدخول إلى بيتها لرؤية الصغار، أو إرسالهم إليه ليراهم في بيته، ولهذا فإنني أناشد الحاضنات والآباء أن لا يختلفوا كثيرا على مكان الرؤية هذا، لئلا يؤدي الأمر إلى تحديد مكان الرؤية في مخفر الشرطة، لما فيه من الإحراج والضرر، وأن يقدموا مصلحة الأولاد على خلافاتهم وعنادهم.
هذا بيان مجمل لتسلسل الحاضنات، وحق الأب في رؤية أولاده في مدة الحضانة، أرجو أن يكون فيه من الوضوح ما يكفي للإجابة عن السؤال المطلوب، وهنا أنتهز الفرصة لأنبه الأزواج والزوجات إلى خطورة التسرع في الطلاق أو طلبه، والتريث في ذلك مائة مرة ومرة قبل الإقدام عليه، لئلا يصل الأمر إلى ما هو موضوع هذا السؤال، والله تعالى من وراء القصد، وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.