المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الزواج في التشريع الإسلامي شُرِع لغايات إنسانية واجتماعية عالية، ففيه السكن النفسي، والالتئام الأسري، والمشاركة في بناء المجتمع، باستمرار النسل وحسن تربيته وتنشئته، قال تعالى: (وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)21/الروم، وقال سبحانه: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) 187/ البقرة.
ولاستدامة هذه المودة وحسن العشرة بين الزوجين أوصى الإسلام كلا من الرجل وأولياء المرأة بحسن الاختيار، فقال صلى الله عليه وسلم للرجال: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) رواه البخاري . وقال لأولياء النساء: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) رواه الترمذي .
كما أوصي الزوجين بأن ينظر كل منهما للآخر قبل الزواج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة عندما أراد الزواج: (انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا) رواه الخمسة إلا أبو داود .
وأوصى كلا من الزوجين بحسن معاملة الآخر، وجعل ذلك طريقا له إلى الجنة، فقال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) 19/ النساء . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتْ الْجَنَّةَ) رواه الترمذي . وقال أيضا: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلاقًا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ) رواه الترمذي.
فإذا عجز الزوجان عن التوافق فيما بينهما لأسباب خارجة عنهما، بسبب الأهل، أو الجيران أو غيرهم، أو بسبب تغير مزاجهما أو مزاج أحدهما، أو بسبب مرض ألم بهما، أو بسبب تقصيرهما في حسن اختيار بعضهما أصلا، أو غير ذلك، أو أصابهما أو أصاب أحدهما ملل أو كره للآخر لأي سبب كان، فإن واجب كل منهما احتمال الآخر والصبر عليه ما أمكن، وذلك الصبر هو من أقرب القربات إلى الله تعالى، قال سبحانه: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) 19/ النساء، وقال جل من قائل: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) 155-157/ البقرة،
فإذا استفحل الخلاف وسدت أبواب الاتفاق، وجب العود إلى الأهل من ذوي الخبرة والأمانة للتدخل والتوفيق، قال سبحانه: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) 35/ النساء .فإذا كان الخلاف أوسع مما يستطيع الحكمان التغلب عليه، ندبناهما للمخالعة الرضائية، ليستأنف بعدها كل منهما حياته الزوجية مع آخر، ربما كان الأوفق له والأقرب إلى قلبه ومزاجه، وذلك دون صخب ولا إيذاء، بل مع الإكرام والإحسان من كل منهما للآخر، قال تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) 20/ النساء . وقال سبحانه: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) 130/ النساء، فإذا تعذر الاتفاق على المخالعة، كان للزوج -إذا كان هو المتضرر- أن ينفرد بالطلاق، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الطَّلاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ) رواه ابن ماجه.
وللزوجة - إذا كانت هي المتضررة- أن تطلب من القاضي التفريق بينها وبين زوجها للضرر، فإذا ثبت للقاضي ذلك فرق بينهما بناء على طلبها بحكم قضائي، وحكم لها بكامل مهرها ونفقة عدتها، وبحضانتها لأولادها الصغار ما دامت صالحة ومستعدة لذلك .
إلا أنه ليس لأحد من الزوجين أن يطلق أو يطلب التفريق أو يسعى إليه قبل اتخاذ كافة الوسائل السابقة، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : (أَبْغَضُ الْحَلالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الطَّلاقُ) رواه أبو داود وابن ماجه.
ولحَل الزوجية عند تفاقم الخلاف واستعصاء الاتفاق طرق متعددة، بعضها بيد الزوج وحده، وبعضها بيد الزوجة ينوب القاضي عنها فيها، وبعضها بيد القاضي بصفته ممثلا لحق الله تعالى(الحق العام)، وبعضها باتفاق الزوجين، وهو ما يسمى بالمخالعة، ولكل طريق من هذه الطرق شروطه وأحواله وآثاره وأحكامه.
هذا كله عندما تكون الأسرة قامت على أسسها الشرعية المستوفية للشروط والأركان، ولم يطرأ عليها ما يمنع استمراها من الناحية الشرعية.
أما إذا قامت الأسرة على أسس ضعيفة فيها نقص أو خلل، أو طرأ عليها ما يمنع استمراها لحق الشرع، فلحلها طرق أخرى غير الطلاق، منها الفسخ، ومنها الإبطال، ومنها المتاركة، ولكل أحكامه وآثاره.
وسوف نبحث في هذا الكتاب في الطلاق وأحكامه، ثم نعقب عليه بالفسخ والإبطال والمتاركة، ونبين الفارق بين هذه المصطلحات المتعددة، من حيث الشروط والآثار.
وسوف نستوفي إن شاء الله تعالى مذاهب الفقهاء المعتبرين في كل حكم من الأحكام التي سوف نبحث فيها، ونذكر إلى جانب ذلك ما أخذت به بعض القوانين العربية للأحوال الشخصية، وبخاصة القوانين السورية والكويتية.
والله تعالى من وراء القصد، وهو أجل وأعلم.
الجمعة 2 ربيع الأول 1427هـ و 31/3/2006م
أ.د.أحمـد الحجي الكردي