التفريق للغيبة والفقد والحبس:
الغائب هو من غادر مكانه لسفر ولم يعد إليه وحياته معلومة، فإذا جهلت حياته فهو المفقود، أما المحبوس فهو: من قبض عليه وأودع السجن بسبب تهمة أو جناية أو غير ذلك.
وقد اختلف الفقهاء في زوجة الغائب والمفقود والمحبوس إذا طلبت التفريق لذلك، هل تجاب إلى طلبها؟ على أقوال بيانها فيما يلي:
أ - التفريق للغيبة:
اختلف الفقهاء في جواز التفريق للغيبة على أقوال، مبناها اختلافهم في حكم استدامة الوطء، أهو حق للزوجة مثل ما هو حق للزوج؟
فذهب الحنفية، والشافعية، والحنبلية في قول القاضي، إلى أن دوام الوطء قضاء حق للرجل فقط، وليس للزوجة فيه حق، فإذا ما ترك الزوج وطء زوجته مدةً لم يكن ظالماً لها أمام القاضي، سواء أكان في ذلك حاضراً أم غائبا، طالت غيبته أم لا، لأن حقها في الوطء قضاء ينقضي بالمرة الواحدة، فإذا استوفتها لم يعد لها في الوطء حق في القضاء، وعلى هذا فإذا غاب الزوج عن زوجته مدةً ما مهما طالت، وترك لها ما تنفق منه على نفسها، لم يكن لها حق طلب التفريق لذلك، إلا أن الحنبلية في قولهم هذا قيدوا عدم وجوب الوطء بعدم قصد الإضرار بالزوجة، فإذا قصد بذلك الإضرار بها عوقب وعزر، لاختلال شرط سقوط الوجوب.
وذهب الحنبلية في قولهم الثاني وهو الأظهر، إلى أن استدامة الوطء واجب للزوجة على زوجها قضاءً، ما لم يكن بالزوج عذر مانع من ذلك، كمرض أو غيره، وعلى هذا فإذا غاب الزوج عن زوجته مدةً بغير عذر، كان لها طلب التفريق منه، فإذا كان تركه بعذر لم يكن لها ذلك[1].
أما المالكية، فقد ذهبوا إلى أن استدامة الوطء حق للزوجة مطلقاً، وعلى ذلك فإن الرجل إذا غاب عن زوجته مدةً، كان لها طلب التفريق منه، سواء أكان سفره هذا لعذر أم لغير عذر، لأن حقها في الوطء واجب مطلقاً عندهم.
شروط التفريق للغيبة عند من يقول بها:
يشترط في الغيبة ليثبت التفريق بها للزوجة شروط، هي:
أ - أن تكون غيبةً طويلةً، وقد اختلف الفقهاء في مدتها:
فذهب الحنبلية إلى أن الزوج إذا غاب عن زوجته مدة ستة أشهر فأكثر كان لها طلب التفريق عليه إذا تحققت الشروط الأخرى، وذلك استدلالاً بما روى أبو حفص بإسناده عن زيد بن أسلم رضي الله عنه، قال: [2]إن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بينما كان يحرس المدينة مر بامرأة في بيتها وهي تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه وطال على أن لا حبيب ألاعبه
ووالله لولا خشية الله وحـده لحُرك من هذا السرير جوانبـه
فسأل عمر رضي الله عنه عنه فقيل له: هذه فلانة، زوجها غائب في سبيل الله تعالى، فأرسل إلى امرأة تكون معها، وبعث إلى زوجها فأقفله، ثم دخل على حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها فقال: يا بنية كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: سبحان الله أمثلك يسأل مثلي عن هذا؟ فقال: لولا أني أريد النظر للمسلمين ما سألتك، قالت: خمسة أشهر، ستة أشهر، فوقَّت للناس في مغازيهم ستة أشهر، يسيرون شهراً، ويقيمون أربعة أشهر، ويسيرون شهراً راجعين[3].
وذهب المالكية في المعتمد عندهم، إلى أنها سنة فأكثر، وفي قول للغرياني وابن عرفة أن السنتين والثلاث ليست بطول، بل لا بد من الزيادة عليها، وهذا مبني منهم على الاجتهاد والنظر.
ب - أن تخشى الزوجة على نفسها الضرر بسبب هذه الغيبة، والضرر هنا هو خشية الوقوع في الزنا كما نص عليه المالكية، وليس اشتهاء الجماع فقط، والحنبلية وإن أطلقوا الضرر هنا إلا أنهم يريدون به خشية الزنا كالمالكية.
إلا أن هذا الضرر يثبت بقول الزوجة وحدها، لأنه لا يعرف إلا منها، إلا أن يكذبها ظاهر الحال.
ج - أن تكون الغيبة لغير عذر، فإن كانت لعذر، كالحج والتجارة وطلب العلم، لم يكن لها طلب التفريق عند الحنبلية.
أما المالكية فلا يشترطون ذلك كما تقدم، ولهذا يكون لها حق طلب التفريق عندهم إذا طالت غيبته لعذر أو غير عذر على سواء.
د - أن يكتب القاضي إليه بالرجوع إليها أو نقلها إليه أو تطليقها ويمهله مدةً مناسبةً، إذا كان له عنوان معروف، فإن عاد إليها، أو نقلها إليه أو طلقها فبها، وإن أبدى عذراً لغيابه لم يفرق عليه عند الحنابلة دون المالكية، وإن أبى ذلك كله، أو لم يردَّ بشيء وقد انقضت المدة المضروبة، أو لم يكن له عنوان معروف، أو كان عنوانه لا تصل الرسائل إليه، طلق القاضي عليه بطلبها.
نوع الفرقة للغيبة، وطريق وقوعها:
اتفق الفقهاء القائلون بالتفريق للغيبة على أنه لا بد فيها من قضاء القاضي، لأنها فصل مجتهد فيه، فلا تنفذ بغير قضاء.
ونص الحنبلية على أن الفرقة للغيبة فسخ، ونص المالكية على أنها طلاق، وهل هي طلاق بائن؟ لم نر من المالكية من صرح في ذلك بشيء، إلا أن إطلاقاتهم تفيد أنها طلاق بائن، فقد جاء في رسالة ابن أبي زيد القيرواني قوله: إن كل طلاق يوقعه الحاكم طلاق بائن إلا طلاق المولي وطلاق المعسر بالنفقة، ثم إنه طلاق للضرر –وهو بائن عندهم كما تقدم– إلا أن الدسوقي أورد الفرقة للغيبة في ضمن الكلام عن الفرقة للإيلاء، وهي طلاق رجعي، فاحتمل أن تكون مثلها طلاقاً رجعياً، إلا أن الاحتمال الأول هو الأرجح.
ب - التفريق للفقد:
إذا غاب الزوج عن زوجته غيبةً منقطعةً خفيت فيها أخباره، وجهلت فيها حياته، فهل لزوجته حق طلب التفريق عليه؟ الفقهاء في ذلك على مذاهب تقدم بيانها في الغائب، ذلك أن المفقود غائب وزيادة، فيكون لزوجة المفقود ما لزوجة الغائب من أمر التفريق عليه.
فإذا لم تطلب زوجته المفارقة، فهل تكون على زوجيته عمرها كله؟
في هذا الموضوع أحوال وشروط، اتفق الفقهاء في بعضها، واختلفوا في بعضها الآخر على أقوال، بيانها فيما يلي:
أ - إذا كان ظاهر غيبة الزوج السلامة، كما إذا غاب في تجارة أو طلب علم ولم يعد، وخفيت أخباره وانقطعت، فقد ذهب أبو حنيفة، والشافعي في الجديد، وأحمد إلى أنه حي في الحكم، ولا تنحل زوجيته حتى يثبت موته بالبينة الشرعية أو بموت أقرانه، وهو مذهب ابن شبرمة، وابن أبي ليلى.
وذهب الشافعي في القديم إلى أن الزوجة تتربص في هذه الحال أربع سنين من غيبته، ثم يحكم بوفاته، فتعتد بأربعة أشهر وعشر، وتحل بعدها للأزواج.
ب - وإن كان ظاهر غيبته الهلاك، كمن فقد بين أهله ليلاً أو نهاراً، أو خرج إلى الصلاة ولم يعد، أو فقد في ساحة القتال، فقد ذهب أحمد في الظاهر من مذهبه، والشافعي في القديم، إلى أن زوجته تتربص أربع سنين، ثم يحكم بوفاته، فتعتد بأربعة أشهر وعشر، ثم تحل للأزواج، وهو قول عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس رضي الله عنهم، وغيرهم. وذهب الحنفية، والشافعي في الجديد، إلى أنها لا تتزوج حتى يتبين موته بالبينة أو بموت الأقران، مهما طالت غيبته، كمن غاب وظاهر غيبته السلامة على سواء.
وللمالكية تقسيم خاص في زوجة المفقود، هو أن المفقود إما أن يفقد في حالة حرب أو حالة سلم، وقد يكون فقده في دار الإسلام، أو دار الشرك، وقد يفقد في قتال بين طائفتين من المسلمين، أو طائفة مسلمة وأخرى كافرة، ولكل من هذه الحالات حكم خاص بها عندهم، بحسب ما يلي:
أ - فإذا فقد في حالة السلم في دار الإسلام، فإن زوجته تؤجل أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة، ثم تحل للأزواج، هذا إن دامت نفقتها من ماله، وإلا طلق عليه لعدم النفقة.
ب - وإذا فقد في دار الشرك، كالأسير لا يعلم له خبر، فإن زوجته تبقى مدة التعمير أي موت أقرانه، حيث يغلب على الظن عندها موته، ثم تعتد عدة الوفاة، ثم تحل للأزواج، وقدروا ذلك ببلوغه السبعين من العمر، وقيل: الثمانين، وقيل غير ذلك، وهذا إن دامت نفقتها، وإلا طلقت عليه.
ج - فإن فقد في حالة حرب بين طائفتين من المسلمين، فإنها تعتد عقب انفصال الصفين وخفاء حاله، وتحل بعدها للأزواج.
د - وإن كانت الحرب بين طائفة مؤمنة وأخرى كافرة، فإنه يكشف عن أمره، ويسأل عنه، فإن خفى حاله أجلت زوجته سنةً، ثم اعتدت للوفاة، ثم حلت للأزواج.
نوع الفرقة للفقد، وطريق وقوعها:
إذا لم يُرفع المفقود للقاضي من قبل زوجته أو أحد ورثته أو المستحقين في تركته، فهو حي في حق زوجته العمر كله بالاتفاق.
فإذا رفع إلى القاضي وقضى بموته، بحسب ما تقدم من الشروط والأحوال والاختلاف، انقضت الزوجية حكماً من تاريخ الحكم بالوفاة، وبانت زوجته منه، واعتدت للوفاة جبراً، وهي بينونة وفاة، لا بينونة طلاق أو فسخ.
هذا ولا بد لحلول هذه الفرقة من قضاء القاضي بموته، وإلا فهي زوجته العمر كله، وقد نص المالكية على أنه يحل محل القاضي في الحكم بالوفاة هنا عند الحاجة الوالي، وجماعة المسلمين[4].
فإذا ظهر المفقود حياً بعد الحكم بوفاته، فإن كانت زوجته لم تتزوج غيره بعد عدتها فهي له، وإن تزوجت غيره، فإن كان الزواج غير صحيح، أو كان الزوج الجديد يعلم بحياة الأول، فكذلك، وإن كان الزواج صحيحاً، ولا يعلم الزوج الثاني بحياة الأول، فهي للثاني إن دخل بها، عند الجمهور، وإلا فهي للأول أيضاً.
ج - التفريق للحبس:
إذا حُبس الزوج مدةً عن زوجته، فهل لزوجته طلب التفريق كالغائب؟
الجمهور على عدم جواز التفريق على المحبوس مطلقاً، مهما طالت مدة حبسه، سواء أكان سبب حبسه أو مكانه معروفين أم لا، أما عند الحنفية والشافعية فلأنه غائب معلوم الحياة، وهم لا يقولون بالتفريق عليه كما تقدم، وأما عند الحنبلية فلأن غيابه لعذر.
وذهب المالكية إلى جواز التفريق على المحبوس إذا طلبت زوجته ذلك وادعت الضرر، وذلك بعد سنة من حبسه، لأن الحبس غياب، وهم يقولون بالتفريق للغيبة مع عدم العذر، كما يقولون بها مع العذر على سواء كما تقدم.
وقد نص قانون الأحوال الشخصية السوري على التفريق للغيبة والفقد والحبس في المادة /109/ منه كما يلي:
1 – إذا غاب الزوج بلا عذر مقبول أو حكم بعقوبة السجن أكثر من ثلاث سنوات جاز لزوجته بعد سنة من الغياب أو السجن أن تطلب إلى القاضي النفريق ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه.
2 – هذا التفريق طلاق رجعي، فإذا رجع الغائب أو أطلق السجين والمرأة في العدة حق له مراجعتها.
كما نص القانون الكويتي للأحوال الشخصية على ذلك أيضا في المواد /136-138/ كما يلي:
المادة /136/:
إذا غاب الزوج سنة فأكثر بلا عذر مقبول جاز لزوجته أن تطلب تطليقها إذا تضررت من غيبته ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه.
المادة /137/:
آ- إن أمكن إعلان الغائب ضرب له القاضي أجلا وأعذر إليه بأنه يطلقها عليه إن لم يحضر للإقامة معها أو ينقلها إليه، أو يطلقها، فإذا انقضى الأجل ولم يفعل ولم يبد عذرا مقبولا فرق القاضي بتطليقة بائنة.
ب - وإن لم يمكن إعلان الغائب فرق القاضي بلا إعذار ولا أجل.
المادة /138/:
آ - إذا حبس الزوج تنفيذا لحكم نهائي بعقوبة مقيدة للحرية مدة ثلاث سنين فأكثر، جاز لزوجته أن تطلب التطليق عليه بائنا بعد مضي سنة من حبسه، ولوكان له مال تستطيع الإنفاق منه.