الإنابة في الطلاق:
الطلاق تصرف شرعي قولي، وهو حق الرجل كما تقدم، فيملكه ويملك الإنابة فيه كسائر التصرفات القولية الأخرى التي يملكها، كالبيع والإجارة ... فإذا قال رجل لآخر: وكلتك بطلاق زوجتي فلانة، فطلقها عنه، جاز، ولو قال لزوجته نفسها: وكلتك بطلاق نفسك، فطلقت نفسها، جاز أيضاً، ولا تكون في هذا أقل من الأجنبي.
وللإنابة هذه حالان رئيسان، هما الوكالة والرسالة، فأما الرسالة فهي مثل قول الزوج لأجنبي: اذهب إلى زوجتي فلانة وقل لها: إن زوجك يقول لك اختاري نفسك إن شئت، والرسول هنا ناقل للكلام لا منشئ له، بخلاف الوكيل، فلا ينبني على قوله حكم، والحكم ينبني على قول الزوج، وكأنه قاله للزوجة بنفسه، وأما الوكالة فهي إنابة الزوج غيره زوجة كان أو غيرها بالطلاق، والإنابة هذه عند الحنفية على نوعين، تفويض وتوكيل، فالتفويض تمليك الطلاق للمفوَّض به، والتوكيل إنابة الوكيل بإجراء الطلاق من غير تمليك، ولكل من التفويض والتوكيل أحوال وأحكام عندهم يختلف بعضها عن الآخر[1].
وذهب المالكية إلى أن الإنابة هذه على ثلاثة أنواع، توكيل وتخيير وتمليك، فالتوكيل هو جعل الزوج الطلاق لغيره مطلقا، زوجة كان أوغيرها، والتخيير هو جعل الزوج لغيره إنشاء الطلاق ثلاثا، والتمليك هو جعل الزوج لغيره حق إنشاء الطلاق راجحا في الثلاث.
أما الشافعية والحنبلية فلم يلتزموا ما تقدم من المصطلحات، وإن كانوا يستعملون كلمة تفويض وكلمة توكيل في معنيين متما يزين هنا، لهذا فإنني سوف أبين الأحكام وفقا لمصطلحات كل من الحنفية والمالكية، ثم أبين مذهب الشافعية والحنبلية، كما يلي:
أولاً: مذهب الحنفية:
التفويض عند الحنفية يكون بإنابة الزوج زوجته في طلاق نفسها مطلقا، وقد ذكر الحنفية للتفويض ثلاثة ألفاظ، هي: طلقي نفسك، واختاري نفسك، وأمرك بيدك، فالألى يقع الطلاق بها صريحا بدون نية، واللفظان الآخران من ألفاظ الكناية، فلا يقع بهما الطلاق بغير نية.
كما يكون التفويض عندهم بإنابة الزوج أجنبياً عنه بطلاق زوجته إذا علقه على مشيئته، بأن قال له: طلق زوجتي إن شئت، فإن لم يقل له: إن شئت، كان توكيلاً لا تفويضاً.
هذا، وبين التفويض والتوكيل عند الحنفية فروق في الأحكام من حيثيات متعددة، أهمها :
أ - من حيث الرجوع فيه، فليس للزوج الرجوع في التفويض، لأنه تعليق على مشيئة، والتعليق يمين لا رجوع فيها، فإذا قال له: طلق زوجتي إن شئت، أو قال لزوجته: اختاري نفسك ناوياً طلاقها، لم يكن له أن يعزلها، أما الوكيل فله عزله مطلقاً ما دام لم يطلق.
ب - من حيث التحديد في المجلس: فللوكيل أن يطلق عن موكله في المجلس وغيره، ما لم يحده الموكل بالمجلس أو زمان ومكان معينين، فإن حده بذلك تحدد به، أما التفويض فمحدود بالمجلس، فإذا انقضى المجلس لغا التفويض، ما لم يبين له مدةً، أو يعلقه على مشيئته، فإن بين مدةً تحدد بالمدة المبيَّنة، كأن قال لها: طلقي نفسك خلال شهر، أو يوم، أو ساعة، أو طلقي نفسك متى شئت، فإن قال ذلك تحدد بما ذكر، لا بالمجلس.
ج - من حيث نوع الطلاق الواقع به، فقد ذهب الحنفية إلى أن التفويض إذا كان بلفظ صريح كقوله لها: طلقي نفسك فطلَّقت، وقع به الطلاق رجعياً، وإن قال لها: اختاري نفسك، فقالت: اخترت نفسي، وقع به بائناً، هذا إذا نويا الطلاق، وإلا لم يقع به شيء لأنه كناية.
د - من حيث تأثره بجنون الزوج، فإذا فوَّض الزوج زوجته أو غيرها بالطلاق، ثم جُن، فالتفويض على حاله، وإن وكله بالطلاق فجن بطل التوكيل، لأن التفويض تمليك، وهو لا يبطل بالجنون، على خلاف التوكيل، فهو إنابة محضة، وهي تبطل بالجنون.
هـ – من حيث اشتراط أهلية النائب، فإن التفويض يصح لعاقل ومجنون وصغير، على خلاف التوكيل، فإنه يشترط له أهلية الوكيل، وعلى هذا فلو فوَّض زوجته الصغيرة بطلاق نفسها فطلَّقت، وقع الطلاق، ولو وكل أخاه الصغير بطلاقها، فطلقها لم يصح، فلو فوَّضها بالطلاق، وهي عاقلة، ثم جنت فطلقت نفسها، لم يصح عند الحنفية استحساناً.
و – من حيث عدد الطلقات الواقعة به، فإن عين في التفويض أو التوكيل عددا تحدد حق المناب بذلك العدد، فإن طلَّق به أو بأقل منه نفذ، وإن طلَّق بأكثر منه لم ينفذ إلا بمقداره، فإن عمم ولم يحدد، فإن نوى عددا وكان اللفظ يحتمله ملك المُناب العدد المنوي، وإن لم ينو ، أو كان اللفظ لا يحتمله، لم يقع به أكثر من واحدة.
ثانياً: مذهب المالكية:
النيابة في الطلاق عند المالكية أربعة أنواع: توكيل وتخيير وتمليك ورسالة. فالتوكيل عندهم هو: جعل الزوج الطلاق لغيره -زوجةً كان أو غيرها- مع بقاء الحق للزوج في منع الوكيل -بعزله- من إيقاع الطلاق، كقوله لها: أمرك بيدك توكيلاً.
والتخيير عندهم هو: جعل الطلاق الثلاث حقاً للغير وملكاً له نصاً، كقوله لها: اختاريني أو اختاري نفسك.
والتمليك هو: جعل الطلاق حقاً للغير وملكاً له راجحاً في الثلاث، كقوله لها: أمرك بيدك.
وبين هذه الثلاثة اتفاق واختلاف على ما يلي:
أ - فمن حيث جواز الرجوع فيه، في التوكيل للزوج حق عزل وكيله بالطلاق مطلقاً، سواء أكان الوكيل هو الزوجة أم غيرها، إلا أن يتعلق به حق للزوجة زائد عن التوكيل، كقوله لزوجته: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك، أو أمر الداخلة عليك بيدك، فإنه لا يملك عزلها في هذه الحال، لتعلق حقها به، وهو دفع الضرر عنها، ولولا ذلك لأمكنه عزلها، فإن فوضه بالطلاق تخييراً أو تمليكاً لم يكن له عزل المفوض حتى يطلق أو يرد التفويض.
ب - ومن حيث تحديده بمدة، فإن حدد الزوج النيابة بأنواعها بالمجلس تحدد به مطلقاً، وإن حددها بزمان معين بعد المجلس لم تقتصر على المجلس، ولكن إن مارس النائب حقه في الطلاق خلال الزمن المحدد طلقت، وإلا فهو على حقه ما دام الزمان باقياً، إلا أن يعلم القاضي بذلك، فإن علم به، فإنه يحضره ويأمره بالاختيار، فإن اختار الطلاق طلقت، وإلا أسقط القاضي حقه في ذلك، ولا يمهله ولو رضي الزوج بالإمهال، وذلك حمايةً لحق الله تعالى، فإن أطلق ولم يحدده بالمجلس ولا بزمن آخر، فللمالكية روايتان:
الأولى: يتحدد بالمجلس كالحنفية.
والثانية: لا يتحدد به.
ج - من حيث عدد الطلقات، إن كان التفويض تخيراً مطلقاً -وقد دخل بزوجته- فللمفوَّضة إيقاع ما شاءت من الطلاق، واحدةً واثنتين وثلاثاً، وإن كان لم يدخل بها، أو كان التفويض تمليكاً، فله منعها من أكثر من واحدة، بشروط ستة، إن توفرت لم يقع بقولها أكثر من واحدة، وإن اختلت وقع ما ذكرت.
وهذه الشروط هي:
أ - أن ينوي ما هو أقل من الثلاث، فإن نوى واحدةً لم تملك بذلك أكثر منها، فإذا نوى اثنين ملكتهما ولم تملك الثلاث.
ب - أن يبادر للإنكار عليها فور إيقاعها الثلاث، وإلا سقط حقه ووقع ثلاث.
ج - أن يحلف أنه لم ينو بذلك أكثر من العدد الذي يدعيه، واحدةً أو اثنتين، فإن نكل قضي عليه بما أوقعت، ولا ترد اليمين عليها.
د - عدم الدخول بالزوجة إن كان التفويض تخييراً، وإلا وقع الثلاث عليها إن أوقعها مطلقاً.
هـ- أن لا يكرر التفويض، فإن كرره بأن قال لها: أمرك بيدك، أمرك بيدك، أمرك بيدك، لم يقبل اعتراضه على طلاقها الثلاث، إلا أن ينوي بالتكرار التأكيد، فيقبل اعتراضه.
و- أن لا يكون التفويض مشروطاً عليه في العقد، فإن شرط في العقد ملكت الثلاث مطلقاً، فإن خيرها ودخل بها فطلقت نفسها واحدةً فقط، لم تقع، وسقط تخييرها، لأنها خرجت بذلك عما فوضها، وقد انقضى حقها بإظهار مخالفتها، فسقط خيارها في قول، وفي قول آخر لم يسقط بذلك خيارها[2].
ثالثاً: مذهب الشافعية والحنبلية:
أجاز الشافعية والحنبلية للزوج إنابة زوجته بالطلاق، كما تقدم، كما أجازوا له إنابة غيرها به أيضاً، فإن أناب الغير كان توكيلاً، فيجري عليه من الشروط والأحكام ما يجري على التوكيل، من جواز التقييد والرجوع فيه، وإن أناب الزوجة بالطلاق فهو تمليك على الأرجح عند الشافعية، وهو المذهب الجديد، وقيل توكيل كالأجنبي، وهو مذهب الحنبلية.
إلا أن التمليك عندهم يقبل الرجوع فيه، كالتوكيل، خلافا للحنفية والمالكية، ويشترط لصحته قبولها به، في قول، وفي قول آخر لا، كالتوكيل.
هذا ويتحدد التفويض بالمجلس عند الشافعية، ما لم يكن تفويضا لها بالطلاق على مال، فإنه توكيل لا يتحدد بالمجلس في قول للشافعية، وفي قول آخر تمليك فيتحدد به، وعند الحنبلية لا يتحدد بالمجلس بل يثبت على التراخي.
ثم إنه إن حدد عددا للطلاق تحددت إنابته به، وإن لم يحدد تحدد العدد بنية الزوج إن كان له نية، وإلا تحدد بواحدة في الأصح عند الشافعية، وفي قول ثان ملك النائب ثلاثا[3].
وهو مذهب الحنبلية، إذا كان اللفظ يحتمله، وإلا ملك واحدة فقط[4].
واستثنى الحنبلية من ذلك لفظ التخيير، وقالوا يثبت به حقها في الطلاق على الفور فقط، كالجمهور، فإن قال لها: اختاري نفسك، فإن اختارت فورا طلقت، وإلا سقط حقها في الاختيار، هذا ما لم يحدد لها مدة، فإن حدد لها مدة تحدد خيارها بها، ثم إنها لا تملك بهذا اللفظ أكثر من تطليقة واحدة رجعية، إلا أن يحدد أكثر من ذلك.