أنواع الطلاق
للطلاق أنواع مختلفة تختلف بحسب الزاوية التي ينظر إليه منها:
فهو من حيث الصيغة المستعملة فيه على نوعين: صريح وكنائي.
ومن حيث الأثر الناتج عنه على نوعين: رجعي وبائن، والبائن على نوعين: بائن بينونة صغرى، وبائن بينونة كبرى.
ومن حيث صفته على نوعين: سنِّي وبدعي.
ومن حيث وقت وقوع الأثر الناتج عنه على ثلاثة أنواع: منجَّز، ومعلَّق على شرط، ومضاف إلى المستقبل.
وتفصيل ذلك كما يلي:
أولاً: الصريح والكنائي[1]:
اتفق الفقهاء على أن الصريح في الطلاق هو: ما لم يستعمل إلا فيه غالباً، لغةً أو عرفاً، وعرفوه بأنه: ما ثبت حكمه الشرعي بلا نية، وليس بين التعريفين تناف، بل تكامل، فالأول تعريفه بحسب اللفظ المستعمل فيه، والثاني بحسب الأثر الناتج عنه،
كما اتفقوا على أن الكنائي في الطلاق هو: ما لم يوضع اللفظ له، واحتمله وغيره، فإذا لم يحتمله أصلاً، لم يكن كنايةً، وكان لغواً لم يقع به شيء[2].
واتفقوا على أن الصريح يقع به الطلاق بغير نية، وكذلك بالنية المناقضة قضاءً فقط، وعلى ذلك فلو أطلق اللفظ الصريح، وقال: لم أنو به شيئاً، وقع به الطلاق، ولو قال: نويت غير الطلاق لم يصدق قضاءً، وصُدق ديانةً، هذا ما لم يحف باللفظ من قرائن الحال أو بساط الحال ما يدل على صدق نيته في إرادة غير الطلاق، فإن وجدت قرينة تدل على عدم قصده الطلاق صُدق قضاءً أيضاً، ولم يقع به عليها طلاق، وذلك كما إذا أكره على الطلاق فطلَّق صريحاً غير ناو به الطلاق، فإنه لا يقع ديانةً ولا قضاءً لقرينة الإكراه[3].
وهذا لدى الجمهور، وخالف الحنفية، وقالوا بوقوع الطلاق من المكرَه كما تقدم.
أما الكنائي، فلا يقع به الطلاق إلا مع النية، ذلك أن اللفظ يحتمل الطلاق وغيره، فلا يصرف إلى الطلاق إلا بالنيَّة، وأما وقوعه بالنية فلأن اللفظ يحتمله، فيصرف إليه بها.
وقد ألحق المالكية الكنايات الظاهرة بالصريح، فأوقعوا الطلاق بها بغير نية، وهي الكنايات التي تستعمل في الطلاق كثيراً وإن لم توضع له في الأصل، وهي لفظ: الفراق والسراح.
والحنبلية مع المالكية هنا في قول القاضي، إلا أن مفهوم كلام الخرقي أنه لا يقع به الطلاق من غير نية مطلقاً[4].
وهل يحل محل النية قرائن الحال في وقوع الطلاق بالكناية من غير نية؟
ذهب الحنفية والحنبلية في رواية إلى أن قرائن الحال كالنية في وقوع الطلاق باللفظ الكنائي، كما لو قال لزوجته في حالة غضب: الحقي بأهلك، فإنه طلاق ولو لم ينوه، وكذلك إذا كان في حالة مساءلة الطلاق.
وذهب المالكية، والشافعية، والحنبلية في رواية أخرى إلى عدم الاعتداد بقرائن الحال هنا، فلا يقع الطلاق باللفظ الكنائي عندهم، إلا إذا نواه مطلقاً[5].
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الألفاظ الصريحة في الطلاق محصورة في مادة "طلق" وما اشتق منها لغةً وعرفاً، مثل: طلقتك، وأنت طالق، ومطلَّقة، فلو قال لها: أنت مُطْلَقَةٌ بالتخفيف كان كنايةً، فلا يقع الطلاق به إلا بالنية.
وقد تقدمت الإشارة إلى أن المالكية أنزلوا الكنايات المشهورة منزلة الصريح في وقوع الطلاق بها من غير نية، وإن لم يعدوها من الصريح[6].
وذهب الشافعية في المشهور، والحنبلية[7]، إلى أن الصريح ألفاظ ثلاثة، هي: الطلاق والفراق والسراح، وما اشتق منها لغةً وعرفاً، مثل: طلقتك، وأنت طالق، ومطلَّقة، فلو قال أنت مطلقة بالتخفيف كان كنايةً، لعدم اشتهاره في الطلاق.
وأما الكنائي فما وراء الصريح من الألفاظ مما يحتمل الطلاق، كلفظ: اعتدي، واستبرئي رحمك، والحقي بأهلك، وأنت خليَّة، وأنت مُطْلَقَة بغير تشديد، ونحو ذلك، وهو ما لا حصر له.
وهل يقع الطلاق باللفظ المصحَّف؟
نص الحنفية على وقوع الطلاق باللفظ المصحف، ثم إن كان اللفظ صريحاً وقع الطلاق به بغير نية، كلفظ: طلاغ، وتلاغ، وطلاك، وتلاك ... بلا فرق بين أن يكون المطلِّق عالماً أو جاهلاً، إلا أن يقول المطلّق: تعمدت التصحيف هذا للتخويف به، ويحف به من قرائن الحال ما يصدقه، كالإشهاد على ذلك قبل الطلاق، فإنه لا يقع به شيء على المفتى به، وإلا وقع الطلاق.
وهل ينحصر الصريح باللغة العربية فقط؟
لم يحصر الفقهاء الصريح في الطلاق بالعربية، بل أطلقوه فيها وفي غيرها، وذكروا ألفاظاً بالفارسية والتركية يقع بها الطلاق صريحاً بغير نية، مثل: "سان بوش" بالتركية "وبهشتم" بالفارسية، وقد جرى في هذه الألفاظ بعض اختلاف بينهم، أهي من الصريح أم من الكنائي؟ والحقيقة أن مرد ذلك إلى من يعلم بهذه اللغات والأعراف.
ما يقع بالصريح والكنائي من الطلاق:
ذهب جمهور الفقهاء[8] إلى أن طلاق الزوج يكون رجعياً دائماً ولا يكون بائناً إلا في أحوال ثلاث، وهي:
أ - الطلاق قبل الدخول، ويكون بائناً لعدم وجوب العدة.
ب - الطلاق على مال، ويكون بائناً ضرورة وجوب المال به على الزوجة، ذلك أنها لم تبذله له إلا لبينونتها.
ج - الطلاق الثلاث، وذلك ضرورة وقوع البينونة الكبرى به، بنص الآية الكريمة: {فَإِن طَلقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِن بَعْدُ حَتىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} رواه بان حبان وغيره.
هذا إلى جانب أحوال يكون الطلاق في بعضها بائناً إذا كان بحكم القاضي، كالتفريق للغيبة، والتفريق للإيلاء، والتفريق للعيب، والتفريق للشقاق والضرر، والتفريق للإعسار بالنفقة.
وسوف يأتي بيان ذلك.
وذهب الحنفية إلى أن الكنائي يقع الطلاق به بائناً مطلقاً، إلا ألفاظاً قليلةً قدر وجود لفظ الطلاق الصريح فيها، فيكون رجعياً، مثل: اعتدي، واستبرئي رحمك، وأنت واحدةً. والتقدير: طلقتك فاعتدي، وطلقتك فاستبرئي رحمك، وأنت طالق طلقةً واحدةً.
أما الصريح فيقع به الطلاق رجعياً بشروط، وهي:
الأول: يكون بعد الدخول، فإذا كان قبل الدخول وقع به الطلاق بائناً مطلقاً، سواء أكان بلفظ صريح أم بلفظ كنائي.
الثاني: أن لا يكون مقروناً بعوض، فإن قرن بعوض -طلاق على مال- كان بائناً.
الثالث: أن لا يكون مقروناً بعدد الثلاث لفظاً أو إشارةً أو كتابةً، وأن لا يكون الثالث بعد طلقتين سابقتين عليه، رجعيتين أو بائنتين، لأن الطلاق الثالث لا يكون إلا بائناً بينونةً كبرى.
الرابع: أن لا يكون موصوفاً بصفة تنبئ عن البينونة، أو تدل عليها من غير حرف العطف، كقوله لها: أنت طالق بائناً، بخلاف: أنت طالق وبائن، فإنه يقع بالأولى طلقة رجعية، وبالثانية طلقة بائنة، وكذلك أنت طالق طلقةً تملكين بها نفسك، فإنه بائن.
الخامس: أن لا يكون مشبهاً بعدد أو صفة تدل على البينونة، كأن يقول لها: أنت طالق مثل هذه، ويشير بأصابعه الثلاثة، فإنها تبين منه بثلاث طلقات.
فإذا تخلف شرط من هذه الشروط، وقع به الطلاق بائناً[9].
ثانياً: الرجعي والبائن:
الطلاق الرجعي هو: رفع قيد النكاح إثر انقضاء العدة، والبائن هو رفع قيد النكاح في الحال، أو الرجعي ما يجوز معه للزوج رد زوجته في عدتها من غير استئناف عقد، والبائن هو: رفع قيد النكاح في الحال.
هذا، والطلاق البائن على قسمين: بائن بينونة صغرى، وبائن بينونة كبرى.
فأما البائن بينونة صغرى، فيكون بالطلقة البائنة الواحدة، وبالطلقتين البائنتين، فإذا كان الطلاق ثلاثاً، كانت البينونة به كبرى مطلقاً، سواء كان أصل كل من الثلاث بائناً أم رجعياً، بالاتفاق.
وعلى هذا فإذا طلق الزوج زوجته رجعياً، حل له العود إليها في العدة بالرجعة، دون عقد جديد، فإذا مضت العدة عاد إليها بعقد جديد فقط.
فإذا طلق زوجته طلقةً بائنةً واحدةً أو اثنتين، جاز له العود إليها في العدة وبعدها، ولكن ليس بالرجعة، وإنما بعقد جديد، خلافا للطلاق الرجعي.
فإذا طلقها ثلاثاً كانت البينونة كبرى، ولم يحل له العود إليها حتى تنقضي عدتها وتتزوج من غيره، ويدخل بها، ثم تبين منه بموت أو فرقة، وتنقضي عدتها، فإن حصل ذلك حل له العود إليها بعقد جديد، وذلك لقوله سبحانه: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (البقرة:230).
هذا وقد تقدم حالات وقوع الطلاق رجعيا وبائنا واختلاف الفقهاء فيه عند الكلام على الصريح والبائن.
البينونة الكبرى والصغرى:
البينونة عند إطلاقها تنصرف للصغرى، ولا تكون كبرى إلا إذا كانت ثلاثاً بالاتفاق.
إلا أن طرق وقوع الثلاث اختلف الفقهاء في بعضها، واتفقوا في بعضها الآخر، حسب الآتي:
اتفق الفقهاء على أن الزوج إذا طلق زوجته مرةً واحدةً رجعيةً أو بائنةً، ثم عاد إليها بعقد أو رجعة، ثم طلقها مرةً أخرى رجعياً أو بائناً، ثم عاد إليها بعقد أو رجعة، ثم طلقها للمرة الثالثة، كان ثلاثاً، وبانت منه بذلك بينونةً كبرى، وذلك لقوله سبحانه: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة:229)، وقوله سبحانه: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (البقرة:230) .
كما اتفقوا على أنه إذا طلقها مرةً واحدةً، ثم طلقها ثانيةً بعد انقضاء عدتها، أن الثانية لا تقع عليها، لعدم كونها محلاً للطلاق، لانقضاء الزوجية بالكلية، والطلاق خاص بالزوجات، وكذلك إذا طلقها ثالثةً بعد ذلك، فإنها لا تقع عليها، وفي هذه الحال تكون البينونة صغرى، ويحل له العود إليها بعقد جديد.
وكذلك المطلقة قبل الدخول بها إذا طلقها بعد ذلك عند الحنفية والشافيعة في الجديد، لأنه لا عدة عليها.
وذهب المالكية والحنبلية إلى وقوع الثانية والثالثة عليها -كالمدخول بها- إذا عطفهن على بعضهن بالواو، فقال: أنت طالق وطالق وطالق، وهو مدلول قول الشافعي القديم، لأن العطف بالواو يقتضي المغايرة، فتكون الأولى غير الثانية، وهن كالكلمة الواحدة[10].
فإذا طلق المدخول بها طلقة واحدة، ثم طلقها ثانيا في عدتها، فإن كانت الأولى رجعية، فقد ذهب الجماهير إلى وقوع الثانية، فإذا طلقها ثالثا في العدة وكانت الثانية رجعية أيضا وقعت الثالثة، وبانت منه بينونة كبرى، هذا ما لم ينو بالثانية والثالية تأكيد الأولى، فإن نوى تأكيد الأولى صدق ديانة، ولم يصدق قضاء، وأمضي عليه الثلاث، ما لم تحف به قرائن أحوال ترجح صحة نيته، فإن حفت به قرائن حال ترجح صحة نيته صدق ديانة وقضاء، كما إذا طلق زوجته فسئل: ماذا فعلت، فقال: طلقتها، أو قلت هي طالق، نص على ذلك الحنفية[11].
ونص الشافعية على قريب من ذلك، قال في مغني المحتاج: وإن قال أنت طالق أنت طالق أنت طالق، وتخلل فصل، فثلاث، سواء أقصد التأكيد أم لا، لأنه خلاف الظاهر، لكن إذا قال قصدت التأكيد، فإنه يدين، فإن تكرر لفظ الخبر فقط، كأنت طالق طالق طالق، فكذا عند الجمهور، خلافا للقاضي في قوله يقع واحدة… وإن لم يتخلل فصل، فإن قصد تأكيدا أي قصد تأكيد الأولى بالأخيرتين فواحدة… أو قصد استئنافا فثلاث…، وكذا إذا أطلق، بأن لم يقصد تأكيدا ولا استئنافا، يقع ثلاثا في الأظهر[12].
والحنبلية في هذا مع الشافعية[13].
والمالكية مذهبهم لا يخرج عن ذلك، قال الدردير: وإن كرره ثلاثاً بلا عطف لزمه ثلاث في المدخول بها كغيرها، أي غير المدخول بها يلزمه الثلاث إن نسقه ولو حكماً، كفصله بسعال، إلا لنية تأكيد فيهما -أي في المدخول بها وغيرها- فيصدق بيمين في القضاء، وبغيرها في الفتوى، بخلاف العطف، فلا تنفعه نية التأكيد مطلقاً، كما تقدم، لأن العطف ينافي التأكيد[14].
فإذا طلقها بائناً واحدةً، أو اثنتين معاً، ثم طلقها ثانيةً وثالثةً في عدتها، لم تقع الثانية أو الثالثة عند الشافعية والمالكية والحنبلية، لخروجها عن الزوجية بالأولى، فلم تعد محلاً للطلاق بعد ذلك[15].
وذهب الحنفية إلى أن الأولى أو الثانية إذا كانتا بلفظ صريح، لحقتها الثانية والثالثة، بلفظ صريح كانت أو كنائي، فإذا كانت الأولى أو الثانية بائناً لحقتها الثانية والثالثة إذا كانت بلفظ صريح فقط، فإذا كانت بائناً لم تلحقها إذا أمكن جعلها إخباراً عنها، لاحتمال ذلك، كقوله لها: أنت بائن بائن فإن لم يمكن جعلها إخباراً عنها لحقتها أيضاً، كقوله لها: أنت بائن ثم قوله: أنت بائن بأخرى، فإنها تلحقها لتعذر جعلها إخباراً عنها.
قال صاحب الدر المختار: الصريح يلحق الصريح، ويلحق البائن بشرط العدة، والبائن يلحق الصريح، والصريح ما لا يحتاج إلى نية بائنا كان الواقع به أو رجعيا، فتح، فمنه الطلاق الثلاث، فيلحقها، وكذا الطلاق على مال، فيلحق الرجعي، ويجب المال والبائن، ولا يلزم المال كما في الخلاصة، فالمعتبر فيه اللفظ لا المعنى، على المشهور، ولا يلحق البائن البائن إذا أمكن جعله إخبارا عن الأول، كأنت بائن بائن، أو أبنتك بتطليقة، فلا يقع لأنه إخبار، فلا ضرورة في جعله إنشاء، بخلاف أبنتك بأخرى، أو أنت طالق بائن، أو قال نويت البينونة الكبرى، لتعذر حمله على الإخبار فيجعل إنشاء[16].
فإذا طلقها وذكر أنه ثلاث لفظاً، وقع ثلاث عند جمهور الفقهاء، وكذلك إذا قال: اثنتين، فإنه يقع عليه اثنتان، كأن يقول لها: أنت طالق ثلاثاً، أو أنت طالق اثنتين[17].
فإذا قال لها: أنت طالق وأشار بأصابعه الثلاث، فقد ذهب الحنفية والشافعية إلى أنه إن قال لها: "هكذا" مع الإشارة وقع الثلاث، وإن قال: مثل هذه، مع الإشارة بالثلاث وقع ثلاث إن نواها، وإلا وقعت واحدة، فإن لم يقل شيئاً مع الإشارة بالأصابع وقعت واحدة ولغت الإشارة.
فإن كتب لها ثلاثاً بدل الإشارة بالأصابع، فمثل الإشارة.
فإن قال لها: أنت طالق أكبر الطلاق أو أغلظه ... فإن نوى به ثلاثاً، فثلاث لاحتمال اللفظ ذلك، وإلا وقع به واحدة بائنة[18].
إلا أن الشافعية نصوا على أنه لو قال لها: أنت طالق، ونوى عدداً، وقع ما نواه، فإن قال: أنت طالق واحدةً، ونوى عدداً، وقع ما نواه أيضا في قول، والثاني وقوع واحدةً به، على الراجح، لأن الملفوظ يناقض المنوي، واللفظ أقوى، فالعمل به أولى.
وقيل: يقع المنوي عملاً بالنية[19].
والحنبلية مع الحنفية والشافعية فيما تقدم، إلا أنه روي عن الإمام أحمد قوله: وإذا قال لها: أنت بريَّة، أو أنت بائن، أو حبلك على غاربك، أو الحقي بأهلك، فهو عندي ثلاث، ولكن أكره أن أفتي به، سواء دخل بها أم لم يدخل[20].
أما الحنفية والشافعية فيوقعون بذلك ثلاثاً إن نواها، لاحتمال اللفظ لها، فإذا لم ينو الثلاث لم يقع به ثلاث.
والمالكية مع الجمهور في كل ما تقدم، إلا أنهم في المسألة الأخيرة يقولون: يقع ثلاث مطلقاً، إلا في الخلع أو قبل الدخول، فيكون واحدةً[21].
فإذا قال لها: أنت طالق واحدةً، ونوى به ثلاثاً، وقع واحدة، وبطلت النية، لعدم احتمال اللفظ لها، إلا قول عند بعض الشافعية يقع به ثلاث، فإن قال لها أنت طالق ثلاثا ونوى به واحدة، وقع عليها ثلاث عند الجميع، لصراحة اللفظ، فلا تعمل النية بخلافه، فإن قال لها: أنت طالق ونوى به ثلاثاً، وقع به واحدة عند الحنفية، وهو إحدى روايتين عند الحنابلة، وفي الرواية الثانية يقع ثلاث، وهو قول مالك والشافعي[22].
ثالثاً: السني والبدعي:
قسم الفقهاء الطلاق من حيث وصفه الشرعي إلى سني وبدعي، يريدون بالسني: ما وافق السنة في طريقة إيقاعه، وبالبدعي: ما خالف السنة في ذلك، ولا يعنون بالسني أنه سنة، لما تقدم من النصوص المنفرة من الطلاق، وأنه أبغض الحلال إلى الله تعالى.
وقد اختلف الفقهاء في بعض شروط وأحوال كل من السني والبدعي، واتفقوا في بعضها الآخر، كما يلي:
قسم الحنفية الطلاق إلى سني وبدعي، وقسموا السني إلى قسمين: حسن وأحسن.
فالأحسن عندهم: أن يوقع المطلِّق على زوجته طلقةً واحدةً رجعيةً في طهر لم يطأها فيه، ولا في حيض أو نفاس قبله، ولم يطأها غيره فيه بشبهة أيضاً، فإن زنت في حيضها ثم طهرت، فطلقها لم يكن بدعياً.
وأما الحسن: فأن يطلقها واحدةً رجعيةً في طهر لم يطأها فيه، ولا في حيض أو نفاس قبله، ثم يطلقها طلقتين أخريين في طهرين آخرين دون وطء، هذا إن كانت من أهل الحيض، وإلا طلقها ثلاث طلقات في ثلاثة أشهر، كمن بلغت بالسن ولم تر الحيض.
وهذا في المدخول أو المختلى بها، أما غير المدخول أو المختلى بها، فالحسن: أن يطلقها واحدةً فقط، ولا يهم أن يكون ذلك في حيض أو غيره، ولا يضر أن طلاقها يكون بائناً، لأنه لا يكون إلا كذلك.
وما سوى ذلك فبدعي عندهم، كأن يطلقها مرتين أو ثلاثاً في طهر واحد معاً، أو متفرقات، أو يطلقها في الحيض أو النفاس، أو يطلقها في طهر مسها فيه، أو في طهر مسها في الحيض قبله.
فإن طلقها في الحيض، ثم طلقها في الطهر الذي بعده، كان الثاني بدعياً أيضاً، لأنهما بمثابة طهر واحد، وعليه أن ينتظر حيضها الثاني، فإذا طهرت منه طلقها إن شاء، ويكون سنياً عند ذلك، ولو طلقها في الحيض، ثم ارتجعت، ثم طلقها في الطهر الذي بعده، كان بدعياً في الأرجح، وهو ظاهر المذهب، وقال القدوري: يكون سنياً.
وهذا كله ما لم تكن حاملاً، أو صغيرةً دون سن الحيض، أو آيسةً، فإن كانت كذلك كان طلاقها سنياً، سواء مسها أم لم يمسها، لأنها في طهر مستمر، ولكن لا يزيد على واحدة، فإن زاد كان بدعياً.
واستثنى الحنفية من البدعي عامةً: الخلع، والطلاق على مال، والتفريق للعلة، فإنه لا يكون بدعياً ولو كان في الحيض، لما فيه من الضرورة، وكذلك تخييرها في الحيض، سواء اختارت نفسها في الحيض أم بعده، وكذلك اختيارها نفسها في الحيض، سواء أخيرها في الحيض أم قبله، فإنه لا يكون بدعياً، لأنه ليس من فعله المحض[23].
وقسم جمهور الفقهاء الطلاق من حيث وصفه الشرعي إلى سني وبدعي، ولم يذكروا للسني تقسيماً، فهو عندهم قسم واحد خلافاً للحنفية، إلا أن بعض الشافعية قسموا الطلاق إلى سني وبدعي، وما ليس سنياً ولا بدعياً، وهو المرجح عندهم، وهو الذي ليس سنياً ولا بدعياً هو ما استثناه الحنفية من البدعي كما تقدم .
والسني عند الجمهور: هو ما يشمل الحسن والأحسن عند الحنفية معاً، والبدعي عندهم: ما يقابل البدعي عند الحنفية، إلا أنهم خالفوهم في أمور، أهمها: أن الطلاق الثلاث في ثلاث حيضات سني عند الحنفية، وهو بدعي عند الجمهور، وكذلك الطلاق ثلاثاً في طهر واحد لم يصبها فيه، فإنه سني عند الشافعية أيضاً، وهو رواية عند الحنبلية، اختارها الخرقي.
وذهب المالكية إلى أنه محرم كما عند الحنفية، وهو رواية ثانية عند الحنبلية[24].
هذا، والمدار على معرفة السني والبدعي من الطلاق القرآن والسنة، أما القرآن فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً) (الطلاق:1) ، وقد فسر ابن مسعود رضي الله عنه ذلك بأن يطلقها في طهر لا جماع فيه، ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما[25].
وأما السنة فما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء) رواه مسلم.
وما رواه النسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (طلاق السنة تطليقة وهي طاهر في غير جماع، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، ثم تعتد بعد ذلك بحيضة).
والمعنى العام في السني والبدعي، أن السني يمنع الندم، ويقصِّر العدة على المرأة، فيقل تضررها من الطلاق.
حكم الطلاق البدعي من حيث وقوعه ووجوب العدة بعده:
اتفق جمهور الفقهاء على وقوع الطلاق البدعي، مع اتفاقهم على وقوع الإثم فيه على المطلق، لمخالفته أوامر السنة المتقدمة.
فإذا طلق زوجته في الحيض وجب عليه مراجعتها، رفعاً للإثم، لدى الحنفية في الأصح عندهم، وقال القدوري من الحنفية: إن الرجعة مستحبة لا واجبة.
وذهب الشافعي إلى أن مراجعة من طلقها بدعياً سنة.
وعبر الحنبلية عن ذلك بالاستحباب.
وذهب المالكية إلى تقسيم البدعي إلى: حرام ومكروه، فالحرام: ما وقع في الحيض أو النفاس من الطلاق مطلقاً، والمكروه: ما وقع في غير الحيض والنفاس، كما لو أوقعه في طهرها الذي جامعها فيه، وعلى هذا يجبر المطلق في الحيض والنفاس على الرجعة رفعاً للحرمة، ولا يجبر غيره على الرجعة وإن كان بدعياً[26].
وهذا كله ما دامت الرجعة ممكنةً، بأن كان الطلاق رجعياً، فإذا كان بائناً بينونةً صغرى أو كبرى، تعذر الرجوع واستقر الإثم.
دليل ذلك ما تقدم من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما باسترجاع زوجته ما دام ذلك ممكناً، فإذا لم يكن ممكناً للبينونة امتنع الرجوع، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا سئل عن الرجل يطلق امرأته وهي حائض يقول: (أما أنت طلقت امرأتك مرة أو مرتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت الله فيما أمرك به من طلاق امرأتك) رواه مسلم.
رابعاً: الطلاق المنجَّز والمُضاف والمعلَّق:
الأصل في الطلاق التنجيز، إلا أنه يقبل التعليق والإضافة باتفاق الفقهاء، وله تفصيلات وأحكام كما يلي:
أ - الطلاق المنجَّز:
تعريفه: هو الطلاق الخالي في صيغته عن التعليق والإضافة، كقوله: أنت طالق، أو اذهبي إلى بيت أهلك، ينوي طلاقها.
حكمه: إنه ينعقد سبباً للفرقة في الحال، ويعقبه أثره بدون تراخ، ما دام مستوفياً لشروطه، فإذا قال لها: أنت طالق، طلقت للحال وبدأت عدتها، هذا مع ملاحظة الفارق بين البائن والرجعي، كما تقدم.
ب - الطلاق المضاف:
تعريفه: هو الطلاق الذي قرنت صيغته بوقت بقصد وقوع الطلاق عند حلول ذلك الوقت، كقوله: أنت طالق أول الشهر القادم، أو آخر النهار، أو أنت طالق أمس.
حكمه: ذهب الجمهور إلى أن الطلاق المضاف إلى المستقبل ينعقد سبباً للفرقة في الحال، ولكن لا يقع به الطلاق إلا عند حلول أجله المضاف إليه بعد استيفائه لشروطه الأخرى، فإذا قال لها: أنت طالق آخر هذا الشهر، لم تطلق حتى ينقضي الشهر، ولو قال: في أوله طلقت أوله، ولو قال: في شهر كذا، طلقت في أوله عند الأكثر، وخالف البعض وقالوا يقع في آخره.
فإذا أضاف الطلاق إلى زمن سابق، فإن قصد وقوعه للحال مستنداً إلى ذلك الزمن السابق، وقع للحال كالمنجز مقتصراً على وقت إيقاعه، وقيل: يلغو، وإن قصد الإخبار عن نفسه، وأنه طلقها في ذلك الزمن السابق، صدق في ذلك بيمينه إن كان التصديق ممكناً، فإن كان مستحيلاً، كأن يقول لها: أنت طالق منذ خمسين سنةً، وعمرها أقل من ذلك، كان لغواً[27]. هذا مذهب الحنفية.
وذهب المالكية إلى أنه إن أضاف طلاقها إلى زمن مستقبل، كأن قال لها: أنت طالق بعد سنة، أو أنت طالق يوم موتي، طلقت للحال منجزاً، وكذلك إذا أضافه إلى زمن ماض قاصداً به الإنشاء، كقوله: أنت طالق أمس، فإنها، تطلق للحال، فإن قصد به الإخبار دين عند المفتي[28].
ونص الحنبلية على أنه إن قال: أنت طالق أمس ولا نية له، فظاهر كلام أحمد أن الطلاق لا يقع، وقال القاضي في بعض كتبه: يقع الطلاق، وإن قصد الإخبار صدِّق، ووقع الطلاق[29].
ومذهب الشافعية كالحنفية، إلا أنهم خالفوهم فيما لو أضافه إلى زمن سابق محال ولم يكن له نية، فإنه يقع عندهم، كما لو قال لها: أنت طالق قبل أن تُخلقي، فإنه يقع للحال إذا لم يكن له نية[30].
ج: الطلاق المعلق على شرط:
تعريفه: التعليق على شرط هنا هو ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى، سواء أكان ذلك المضمون من قبل المطلق أو المطلقة أو غيرهما، أو لم يكن من فعل أحد.
فإن كان من فعل المطلق أو المطلقة أو غيرهما سمي يميناً لدى الجمهور مجازاً، وذلك لما فيه من معنى القَسَم، وهو: تقوية عزم الحالف أو عزم غيره على فعل شيء أو تركه، كما إذا قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت دار فلان، أو: أنت طالق إن ذهبت أنا إلى فلان، أو: أنت طالق إن زارك فلان ... فإن كان الطلاق معلقاً لا على فعل أحد، كما إذا قال لها: أنت طالق إن طلعت الشمس مثلاً، كان تعليقاً، ولم يسم يميناً، لانتفاء معنى اليمين فيه، وإن كان في الحكم مثل اليمين، وهنالك من الفقهاء من أطلق عليه اليمين أيضاً[31].
وأدوات الربط والتعليق هي: إن، وإذا، وإذْمَا، وكل، وكلما، ومتى، ومتى ما، ونحو ذلك، وكلها تفيد التعليق بدون تكرار، إلا كلما، فإنها تفيد التعليق مع التكرار[32].
وقد يكون التعليق بدون أداة، كما إذا قال لها: عليَّ الطلاق سأفعل كذا، فهو بمثابة قوله: عليَّ الطلاق إن لم أفعل كذا، وهو التعليق المعنوي، وقد جاء به العرف.
حكمه:
اتفق جمهور الفقهاء على صحة اليمين بالطلاق، أو تعليق الطلاق على شرط مطلقاً، إذا استوفى شروط التعليق الآتية:
فإذا حصل الشرط المعلق عليه وقع الطلاق، دون اشتراط الفور، إلا أن ينويه، وإذا لم يحصل لم يقع، سواء في ذلك أن يكون الشرط المعلق عليه من فعل الحالف، أو المحلوف عليها، أو غيرهما، أو لم يكن من فعل أحد، هذا إذا حصل الفعل المعلق عليه طائعاً ذاكراً التعليق، فإن حصل منه الفعل المعلق عليه ناسياً أو مكرهاً، وقع الطلاق به أيضاً عند الجمهور.
وعند الشافعية فيه قولان، أظهرهما: أنها لم تطلق[33].
ثم ما دام لم يحصل المعلق عليه لم يمنع من قربان زوجته عند الجمهور، وقال مالك: يضرب له أجل المُولي.
وذهب المالكية[34] إلى أنه إن علق طلاقه بأمر في زمن ماض ممتنع عقلاً أو عادةً أو شرعاً حنث للحال، وإن علقه بأمر ماض واجب فعله عقلاً أو شرعاً أو عادةً فلا حنث عليه.
وإن علقه بأمر في زمن مستقبل، فإن كان محقق الوجود أو مظنون الوجود عقلاً أو عادةً أو شرعاً لوجوبه نجز للحال، كما إذا قال: هي طالق إن لم أمس السماء، أو هي طالق إن قمتِ، أو إن صليتِ.
وإن كان المعلق عليه مستحيلاً، أو نادراً، أو مستبعداً عقلاً أو عادةً أو شرعاً لحرمته، لم يحنث، كما لو قال: أنت طالق لو جمعت بين الضدين، أو إن لمست السماء، أو إن زنيت.
شروط صحة التعليق:
يشترط لوقوع الطلاق المعلق على شرط ما يلي:
أ - أن يكون الشرط المعلق عليه معدوماً عند الطلاق وعلى خطر الوجود في المستقبل، فإذا كان الشرط موجوداً عند التعليق، كما إذا قال لها: أنت طالق إن كان أبوك معنا الآن، وهو معهما، فإنه طلاق صحيح منجز يقع للحال، وليس معلقاً، أما أنه على خطر الوجود، فمعناه: أن يكون الشرط المعلق عليه ممكن الحصول في المستقبل، فإذا كان مستحيل الحصول لغا التعليق، ولم يقع به شيء، لا في الحال ولا في المستقبل، كما إذا قال لها: إن عاد أبوك حياً -وهو ميت- في الحياة الدنيا فأنت طالق، فإنه لغو.
وهذا مذهب الحنفية.
وذهب المالكية إلى وقوعه منجزاً.
وللحنبلية فيه قولان[35]:
ب - أن يكون التعليق متصلاً بالكلام، فإذا فصل عنه بسكوت، أو بكلام أجنبي، أو كلام غير مفيد، لغا التعليق، ووقع الطلاق منجزاً، كما لو قال لها: أنت طالق، وسكت برهةً، ثم قال: إن دخلت دار فلان، أو قال لها: أنت طالق، ثم قال لها: أعطني ماءً، ثم قال: إن لم تدخلي دار فلان.
إلا أنه يغتفر الفاصل الضروري، كما إذا قال لها: أنت طالق، ثم تنفس لضرورة، ثم قال: إن دخلت دار فلان، فإنه معلَّق، ولا يقع إلا بدخولها الدار المحلوف عليها، وكذلك: إساغة اللقمة، أو كلمة مفيدة، كأن يقول لها: أنت طالق بائناً إن دخلت دار فلان، فإنه معلق ويقع به بائناً عند الدخول، فإن قال لها: أنت طالق رجعياً إن دخلت دار فلان، لغا التعليق، ووقع الرجعي منجزاً، لأن كلمة "رجعياً" لم تفد شيئاً، فكانت قاطعاً للتعليق، بخلاف كلمة "بائن" فإنها أفادت، فلم تكن قاطعاً، وهذا المثال وفق مذهب الحنفية الذين يوقعون بكلمة "بائن" طلاقاً بائناً[36].
ج - أن لا يقصد به المجازاة، فإذا قصد به المجازاة، وقع منجزاً ولم يتعلق بالشرط، كما إذا قالت له: يا خسيس، فقال لها: إن كنت كذلك فأنت طالق، يريد معاقبتها، لا تعليق الطلاق على تحقق الخساسة فيه، فإنه يقع الطلاق هنا منجزاً، سواء أكان خسيساً أم لا، فإن أراد التعليق لا المجازاة تعلق الطلاق، ويديَّن.
د - أن يذكر المشروط في التعليق، وهو المعلق عليه، فلو لم يذكر شيئاً، كما إذا قال لها: أنت طالق إن، فإنه لغو في الراجح لدى الحنفية، وهو قول أبي يوسف، وقال محمد بن الحسن: تطلق للحال.
هـ – وجود رابط، وهو أداة من أدوات الشرط، وقد تقدمت، إلا أن يفهم الشرط من المعنى، فإنه يتعلق بدون رابط، كما إذا قال لها: عليَّ الطلاق سأذهب إلى فلان، فإنه تعليق صحيح مع عدم الرابط.
و - قيام الزوجية بين الحالف والمحلوف عليها عند التعليق، حقيقةً أو حكماً، بأن تكون زوجته أو معتدته من رجعي أو بائن، فإذا لم تكن زوجته عند التعليق، ولا معتدته، لغا التعليق ولم يقع عليها به شيء، كما إذا قال لأجنبية عنه: أنت طالق إن دخلت دار فلان، فإنه لغو، إلا أن تكون زوجةً لغيره، فإنه يتوقف التعليق عندها على إجازة زوجها، لأنه فضولي، فإن أجازه الزوج صح التعليق، ثم إن دخلت بعد الإجازة وقع الطلاق عليها، وإلا فلا.
هذا ما لم يعلق الطلاق على نكاحها، فإن علقه عليه صح التعليق أيضاً ولو لم تكن زوجته أو معتدته عند التعليق، كأن يقول لأجنبية عنه: إن تزوجتك فأنت طالق، ثم يتزوجها، فإنها تطلق بذلك، وكذلك قوله: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، ثم يتزوج امرأةً أجنبيةً، فإنها تطلق بذلك لصحة التعليق هنا، فإذا علق بغير نكاحها لم يصح التعليق، ويلغو الطلاق، كما إذا قال لأجنبية عنه: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، ثم دخلتها قبل زواجها منه أو بعده، فإنها لا تطلق.
وهذا كله لدى المالكية، وفي القول الراجح عند الحنفية، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقال محمد بن الحسن: لا يصح التعليق، ويلغو الطلاق.
وقال الشافعية والحنبلية: لا ينعقد الطلاق هنا، كما لو علقه على غير الزواج.
فإذا علقه بمقارنة النكاح لا عليه، لغا بالاتفاق، كأن يقول لأجنبية: أنت طالق مع نكاحك، فإنه لغو، وكذلك إذا علقه على انتهاء النكاح، كأن يقول لها: أنت طالق مع موتي، أو مع موتك، فإنه لغو أيضاً لعدم الملك.
ز - قيام الزوجية بين الحالف والمحلوف عليها عند حصول الشرط المعلق عليه حقيقةً أو حكماً، بأن تكون زوجةً له أو معتدةً من طلاق رجعي أو بائن، فإذا لم تكن كذلك عند وقوع الشرط لم يقع الطلاق به عليها، فإذا قال لزوجته: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، فدخلتها وهي زوجته أو معتدته طلقت، وإن دخلتها بعد أن طلقها وانقضت عدتها، لم تقع عليها الطلقة المعلقة، لعدم صلاحيتها لوقوع الطلاق عليها عندئذ.
ح - كون الزوج أهلاً لإيقاع الطلاق عند التعليق، بأن يكون بالغاً عاقلاً عند الجمهور، خلافاً للحنبلية كما سبق، ولا يشترط كونه كذلك عند حصول الشرط المعلق عليه، فلو قال لها عاقلاً: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، ثم جن، ثم دخلت الدار المحلوف عليها، فإنها تطلق، وكذلك إذا دخلتها قبل جنونه، فإنها تطلق أيضاً، بخلاف ما لو علق طلاقها وهو مجنون، فإنه لغو.
انحلال الطلاق المعلق على شرط[37]:
إذا علق الزوج الطلاق على شرط، فإنه ينحل بحصول الشرط المعلق عليه مرةً واحدةً، مع وقوع الطلاق به على الزوجة في هذه المرة، فإذا عادت إليه ثانيةً في العدة أو بعدها، لم تقع عليها به طلقة أخرى لانحلاله، هذا ما لم يكن التعليق بلفظ "كلما"، وإلا وقع عليها به ثانيةً وثالثةً، لأن كلما تفيد التكرار دون غيرها.
وعلى ذلك فلو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثاً إن دخلت دار فلان، ثم طلقها منجزاً واحدةً قبل دخول الدار، ثم مضت عدتها، ثم دخلت الدار المحلوف عليها، ثم عادت إليه بزوجية أخرى، جاز، فإذا دخلت الدار المحلوف عليها بعد ذلك لم يضرها، ولم يقع عليها بذلك شيء، لانحلال الطلاق المعلق بالدخول الأول بعد العدة، فإذا علق طلاقها الثلاث على دخول الدار، ثم نجز طلاقها مرةً واحدةً، وانقضت عدتها دون أن تدخل الدار المحلوف عليها، ثم عادت إليه بعقد جديد، ثم دخلتها، وقع الثلاث عليها، لعدم انحلال اليمين المعلقة، بخلاف ما لو دخلتها بعد عدتها، فإنها تنحل بذلك.
وكذلك تنحل اليمين المعلقة على شرط بزوال الحل بالكلية، كما إذا علق طلاقها الثلاث على دخول الدار، ثم طلقها ثلاثًا منجزةً، ثم تزوجها بعد التحليل، ثم دخلت الدار ولم تكن دخلتها من قبل، فإنها لا تطلق هنا، لانحلال اليمين المعلقة بزوال الحل بالكلية، وذلك بوقوع الثلاث عليها، على خلاف وقوع ما دون الثلاث، فإنه لا يزيل الحل، فلا تنحل به اليمين المعلقة إلا بحصول الشرط فعلاً مرةً.
وهذا مذهب الحنفية والمالكية، وللشافعية فيه أقوال ثلاثة:
الأول: يقع مطلقاً، والثاني: لا يقع مطلقاً، والثالث: يقع بما دون الثلاث، ولا يقع بعد الثلاث، وذهب الحنبلية إلى وقوعه في الكل.
كما تنحل اليمين المعلقة على شرط بردة الحالف مع لحاقه بدار الحرب، فلو طلقها معلقاً، ثم ارتد ولحق بدار الحرب، ثم عاد إلى الإسلام، وعاد إليها، ثم فعلت المعلق عليه، فإنها لا تطلق بذلك، لانحلال اليمين المعلقة بردته، وهذا قول الإمام أبي حنيفة، وخالفه الصاحبان: أبو يوسف ومحمد، وقالا: لا ينحل التعليق بالردة مطلقًا.
وتنحل اليمين المعلقة على شرط أيضاً بفوت محل البر، فإذا قال لها: أنت طالق إن دخلت دار فلان، ثم خربت الدار، أو إن كلمت زيداً فمات زيد، انحلت اليمين المعلقة، حتى لو أن الدار الخربة بنيت ثانيةً، فإن اليمين المعلقة لا تعود، لأنها غير الدار المحلوف عليها.
تعليق الطلاق على شرطين:
إذا علق طلاقها على شرطين أو أكثر وقع الطلاق عليها بحصول المعلق عليه كله في النكاح، وكذلك بوقوع الثاني أو الأخير فقط في النكاح، وعلى هذا فإن حصل الشرط الأول في النكاح، والشرط الثاني بعده، كما إذا قال لها: إن جاء زيد وعمرو فأنت طالق، فجاء زيد، ثم طلقها منجزاً واحدةً، ثم جاء عمرو بعد انقضاء عدتها، لم تطلق ثانيةً بمجيئه.
فإن طلقها منجزاً واحدةً إثر تعليقه، ثم جاء الأول زيد بعد انقضاء العدة، ثم تزوجها فجاء عمرو وهي زوجته، وقع عليها المعلَّق، فكانتا اثنتين، نص على ذلك الحنفية[38].
[1] - ابن عابدين 2/247-296، ومغني المحتاج 3/280، والمغني 7/318-319، والدسوقي 2/387.
[2] - المغني 7/329.
[3] - الدسوقي 2/379.
[4] - المغني 7/326.
[5] - المغني 7/322، ومغني المحتاج 3/280.
[6] - ابن عابدين 3/247-248، والدسوقي 2/378.
[7] - مغني المحتاج 3/280، والمغني 7/318-321.
[8] - المغني 7/454، ومغني المحتاج 3/337.
[9] - ابن عابدين 3/250، و3/278-281.
[10] - المغني 7/418، وابن عابدين 3/288.
[11] - ابن عابدين 3/293.
[12] - مغني المحتاج 3/296.
[13] - المغني 7/417.
[14] - الشرح الكبير 2/385.
[15] - مغني المحتاج 3/293.
[16] - الدر المختار 3/309-310.
[17] - المغني 7/418.
[18] - الدر المختار وابن عابدين عليه 3/274-277.
[19] - مغني المحتاج 3/294 و 326.
[20] - المغني 7/324.
[21] - المغني 7/325، والدسوقي 2/264.
[22] - المغني 7/420-421.
[23] - الدر المختار وابن عابدين عليه 3/230-234.
[24] - المغني 7/301، ومغني المحتاج 3/311-312.
[25] - المغني 7/298.
[26] - الدسوقي 2/361-362.
[27] - الدر المختار 3/265-268، ومغني المحتاج 3/314، والمغني 7/363-364.
[28] - الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2-390.
[29] - المغني 7/363-364.
[30] - مغني المحتاج 3/315.
[31] - الدر المختار 3/341، والمغني 7/369.
[32] - ابن عابدين 3-350-352.
[33] - مغني المحتاج 3/316، والمغني 7/369.
[34] - الشرح الكبير والدسوقي عليه 2-389-396.
[35] - الدر المختار 3/342-348، والشرح الكبير 2-370، ومغني المحتاج 3/292.
[36] - الدر المختار 3/366-367، والمغني 7/7/2400 و 294، ومغني المحتاج 3/334 .
[37] - المغني 7/294-295، ومغني المحتاج 3/293، والدسوقي 2/375-376 و 386.
[38] - الدر المختار 3/363-364.