التفريق للإعسار
التفريق للإعسار بالصَّداق:
اتفق الفقهاء على أن في وجوب المهر حقوقا ثلاثة، هي حق الله تعالى، وحق الزوجة، وحق أولياء الزوجة.
أما قبض المهر والتصرف فيه فهو حق الزوجة وحدها، لا ينازعها فيه أحد، ما دامت كاملة الأهلية، فإن كانت ناقصة الأهلية قبضه عنها ولي المال لمصلحتها.
كما اتفقوا على أن المهر يثبت قبضه للزوجة بالعقد الصحيح، مالم ترض بتأجيله، وعلى هذا فقد اتفقوا على أن للزوجة مطالبة زوجها بالمهر المعجل فور العقد الصحيح قضاء، فإذا امتنع مع القدرة كان لها استيفاؤه من ماله كسائر الديون الأخرى.
واتفقوا أيضا على أن للزوجة أن تمنع نفسها عن الزوج ولا تنتقل إلى بيته حتى تستوفي كامل مهرها المعجل، ولها في هذه الحال كامل النفقة، فإذا دفع لها بعض المعجل كان لها منع نفسها عنه أيضا حتى تستفي باقيه.
فإذا أعسر الزوج بالصداق، فهل لها أن تختار فراقه؟
اختلف الفقهاء في هذا على أقوال:
فذهب الحنفية إلى أنه ليس لها فراقه بسبب ذلك مطلقاً، ولكن منع نفسها منه، والنَّظِرة إلى ميسرة، ولها كامل نفقتها.
وذهب المالكية إلى أن لها طلب التفريق إلى جانب مالها من منع نفسها والنفقة، ما دام لم يدخل بها، فإن دخل بها لم يكن لها التفريق كالحنفية.
وعند الشافعية والحنبلية وجوه وأقوال ثلاثة:
الأول: جواز طلب التفريق مطلقا.
والثاني: جواز طلب التفريق ما لم يدخل بها، وإلا ليس لها ذلك كالمالكية، وهو الأظهر لدى الشافعية.
والثالث: ليس لها التفريق مطلقاً كالحنفية، وهي غريم كسائر الغرماء.
شروط التفريق بالإعسار عند من يقول به:
يشترط للتفريق بالإعسار –عند من يقول به- شروط، هي:
أ - أن يكون الصداق واجباً على الزوج وجوباً حالاًّ، فإذا لم يكن واجباً عليه أصلاً، كأن كان العقد فاسداً ولم يدخل بها، أو كان وجوبه مؤجلاً، كأن يشترط في العقد تأجيله، لم يكن لها طلب التفريق بسبب ذلك، فإن سلَّم البعض وأعسر بالبعض الباقي، فللشافعية قولان: الأقوى منهما: جواز التفريق، وهو مذهب المالكية والحنبلية.
ب - أن لا تكون الزوجة قد رضيت بتأجيل المهر قبل العقد، أو بعده، بطريق الصريح أو الدلالة، فإذا تزوجته عالمةً بإعساره بالمهر، لم يكن لها طلب التفريق بذلك، وكذلك إذا علمت بإعساره بعد العقد وسكتت أو رضيت به صراحةً، فإنه لا يكون لها حق في طلب التفريق للإعسار بالمهر بعد ذلك قياساً على العُنَّة.
وهل يحتاج التفريق للإعسار بالمهر إلى قضاء القاضي؟
اتفق القائلون بالتفريق للإعسار بالمهر على أن التفريق لا بد فيه من حكم قاض به، أو محكَّم، لأنه فصل مجتهد فيه، هذا إن قدرت الزوجة على الرفع إليهما، فإن عجزت عن ذلك، وفرَّقت بنفسها جاز للضرورة، نص عليه الشافعية[1].
وهل يطلِّق القاضي عليه فورا، ولا يُنظره؟
إن ثبت إعساره طلق القاضي عليه فوراً، وقيل: يُنظره مدةً يراها مناسبة، وإن لم يثبت إعساره أنظره، وقيل: يسجنه حتى يدفع المهر، أو يظهر ماله فينفذه عليه، أو يثبت إعساره فيطلق عليه.
نوع الفرقة الثابتة بالإعسار بالمهر:
ذهب المالكية إلى أن الفرقة للإعسار بالمهر طلاق بائن، وذهب الشافعية والحنبلية إلى أنها فسخ، لا طلاق[2].
التفريق للإعسار بالنفقة:
اتفق الفقهاء على وجوب النفقة للزوجة على زوجها بالعقد الصحيح ما لم تمتنع من التمكين، فإذا لم يقم الزوج بها لغير مانع من الزوجة كان لها حق طلبها منه بالقضاء، وأخذها جبراً عنه.
فإذا امتنع الزوج عن دفع هذه النفقة لمانع من الزوجة، كنشوزها، لم يجبر عليها.
وهل يكون للزوجة حق طلب التفريق منه إذا امتنع عن النفقة بدون سبب من الزوجة؟
اختلف الفقهاء في ذلك في بعض الأحوال، واتفقوا في أحوال أخرى، على ما يلي:
أ - إن كان للزوج الممتنع عن النفقة مال ظاهر يمكن للزوجة أخذ نفقتها منه، بعلم الزوج أو بغير علمه، بنفسها أو بأمر القاضي، لم يكن لها طلب التفريق، لوصولها إلى حقها بغير الفرقة، فلا تمكن منها.
ويستوي هنا أن يكون الزوج حاضراً أو غائباً، وأن يكون مال الزوج حاضراً أو غائباً أيضاً، وأن يكون المال نقوداً أو منقولات أو عقارات، لإمكان الأخذ منها.
إلا أن الشافعية نصوا في الأظهر من قولين على أن ماله الظاهر إن كان حاضراً فلا تفريق، وإن كان بعيداً عنه مسافة القصر، فلها طلب الفسخ، وإن كان دون ذلك أمره القاضي بإحضاره، ولا فسخ لها، ولو غاب وجهل حاله في اليسار والإعسار فلا فسخ، لأن السبب لم يتحقق.
ونص الحنبلية على أن ظاهر كلام أحمد، وهو رواية الخرقي، أنه: إذا لم يكن في الإمكان أخذ النفقة من المال الغائب، فإن لها طلب التفريق، وإلا فلا، وإن كان المال حاضراً فلا تفريق .
ب - فإذا لم يكن للزوج الممتنع عن النفقة مال ظاهر، سواء أكان ذلك لإعساره، أم للجهل بحاله، أم لأنه غيَّب ماله، فرفعته الزوجة إلى القاضي طالبةً التفريق لذلك، فقد اختلف الفقهاء في جواز التفريق، على قولين:
فذهب الحنفية إلى أنه ليس للزوجة هنا طلب التفريق، والقاضي يأمرها بالاستدانة على الزوج، ويأمر من تجب عليه نفقتها -لولا زوجها- بإقراضها، فإن امتنع حبسه القاضي وعزره حتى يقرضها، ثم يعود بذلك على زوجها إذا أيسر إن شاء، وهو مذهب عطاء، والزهري، وابن شبرمة، وحماد بن أبي سليمان، وغيرهم.
وذهب المالكية والحنبلية، إلى أن الزوج إذا أعسر بالنفقة فالزوجة بالخيار، إن شاءت بقيت على الزوجية واستدانت عليه، وإن شاءت رفعت أمرها للقاضي طالبةً فسخ نكاحها، والقاضي يجيبها إلى ذلك حالاً، أو بعد التلوم للزوج، رجاء مقدرته على الإنفاق، على اختلاف بينهم في ذلك، وهذا القول هو المروي عن عمر، وعلي، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم، وهو مذهب سعيد بن المسيب، والحسن، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم.
شروط التفريق لعدم الإنفاق عند من يقول به:
يشترط للتفريق لعدم الإنفاق -عند من يقول- به شروط، هي:
أ - أن يثبت إعسار الزوج بالنفقة، وذلك بتصادقهما أو بالبينة، وذلك في الأظهر عند الشافعية والحنبلية.
أما المالكية، وهو قول آخر للشافعية، وهو مقابل الأظهر، والحنبلية، فلا يَرِد هذا الشرط عندهم .
ب - أن يكون الإعسار أو الامتناع الموجب للفرقة هو امتناع عن أقل النفقة، وهي نفقة المعسرين، ولو كانت الزوجة غنيةً، أو الزوج الممتنع غنياً أيضاً، لأن التفريق إنما يثبت هنا ضرورة دفع الهلاك عن الزوجة، وهو إنما يتحقق بالعجز عن نفقة المعسرين، لا النفقة المستحقة لها مطلقاً.
وعلى هذا فلو كان الزوج غنياً وامتنع عن الإنفاق إلا نفقة المعسرين -وهي الضروري من الطعام والكساء ولو خشناً- لم يفرق.
هذا والإعسار والامتناع عن الإنفاق يشمل هنا الطعام والكساء بالاتفاق، لأن الحياة لا تقوم بدونهما.
أما الإعسار بالمسكن، فقد ذهب الشافعية إلى أن الأصح أن لها الفسخ.
وكذلك الإعسار بالأدم، إلا أن النووي صحح عدم الفسخ بالإعسار بالأدم، لأنه غير ضروري لإدامة الحياة.
أما الحنبلية فعندهم في التفريق للإعسار بالمسكن وجهان:
الأول: أن لها التفريق به كالطعام والكساء.
والثاني: لا تفريق لها به، لأن البنية تقوم بدونه، وهذا الوجه هو الذي ذكره القاضي.
وأما المالكية فلا يرون التفريق للعجز عن المسكن قولاً واحداً، لأنه غير ضروري.
ج - أن لا يكون للزوج مال ظاهر حاضر يمكنها أخذ نفقتها منه بنفسها أو بطريق القاضي، وإلا لم يكن لها التفريق بالاتفاق، فإذا كان المال غائباً، فقد تقدم الاختلاف فيه على أقوال.
د - أن يكون امتناع الزوج عن النفقة الحاضرة بعد وجوبها عليه، فإذا امتنع عن النفقة الماضية دون الحاضرة، لم يكن لها الفسخ بالاتفاق، لأنها دين كسائر الديون، وليست ضروريةً للإبقاء على الحياة.
فإذا امتنع الزوج عن النفقة المستقبلة، فقد ذهب المالكية إلى أن الزوج إذا أراد السفر فعليه أن يؤمن لزوجته نفقتها مدة غيابه، فإذا أعسر بذلك كان لها طلب الفرقة منه، إلا أن بعض المالكية قال: إن لها المطالبة بها فقط دون التفريق، فإذا سافر ونفذ ما عندها من النفقة، كان لها طلب التفريق آنئذ.
فإذا كان الزوج مقيماً فلا حق للزوجة في نفقة مستقبلة، وبالتالي فلا حق لها في طلب التفريق لمنعها منها.
فإذا امتنع الزوج عن النفقة قبل وجوبها عليه أصلاً، كأن لم تُخْلِ بينه وبينها، أو سقط حقها في النفقة لنشوزها، فإنه لا حق لها في طلب التفريق لعدم الحق في النفقة أصلاً.
هـ – أن لا تكون قد رضيت بالمقام معه مع عسرته أو ترك إنفاقه مطلقاً، صراحةً أو ضمناً، أو شرط عليها ذلك في العقد أو بعده ورضيت به، فإن كان ذلك لم يكن لها حق في طلب التفريق لدى المالكية والحنبلية في قول، إلا أن يكون من السؤَّال فترضى به ثم يترك السؤال، فلها طلب التفريق عندئذ، وذلك قياسا على التفريق بالعُنَّة إذا رضيت بها.
وذهب الشافعية، والحنبلية في قول ثان إلى أن لها طلب فسخ النكاح إذا أعسر الزوج بالنفقة ولو رضيت به قبل ذلك، لأن وجوب النفقة يتجدد في كل يوم.
نوع الفرقة الثابتة بالامتناع عن الإنفاق، وطريق وقوعها:
ذهب الشافعية والحنبلية إلى أن الفرقة لعدم الإنفاق فسخ ما دامت بحكم القاضي، فإن طلب القاضي من الزوج طلاقها فطلقها كانت طلاقاً رجعياً، ما لم يبلغ الثلاث، أو يكن قبل الدخول، وإلا فبائن.
وذهب المالكية إلى أنها طلاق رجعي، ولهذا كان للزوج حق مراجعتها في العدة عندهم، إلا أن المالكية اشترطوا هنا لصحة الرجعة أن يجد الزوج يساراً لنفقتها الواجبة عليه، وليس النفقة الضرورية التي فرق من أجلها، فإذا راجعها دون ذلك لم تصح الرجعة.
وأما طريق وقوع الفرقة، فقد اتفق الفقهاء القائلون بالتفريق لعدم الإنفاق على أنها لا تكون بغير القاضي، ذلك أنها فصل مجتهد فيه، وما كان كذلك لا يتم بغير القضاء، إزالةً للخلاف، لكن الشافعية قيدوا ذلك بما إذا قدرت على الرفع للقاضي، فإن استقلت بالفسخ لعدم حاكم أو محكَّم، أو عجزت عن الرفع إلى القاضي، نفذ ظاهراً وباطنًا للضرورة.
وأما وقت القضاء بها، فقد اختلفوا فيه على أقوال:
فذهب الشافعية في القديم إلى أن القاضي ينجز الفرقة بعد ثبوت الإعسار بالنفقة -بالتصادق أو البينة- دون إنظار، إلا أن الأظهر لديهم إمهال الزوج ثلاثة أيام ولو لم يطلب ذلك، للتحقق من عجزه، فإنه قد يعجز لعارض ثم يزول، وهي مدة قريبة يتوقع فيها القدرة بقرض أو غيره، فإذا مضت دون القدرة، فرق القاضي عليه.
وذهب الحنبلية إلى أن الفسخ يكون على الفور عند ثبوت الإعسار دون إمهال، كخيار العيب.
وفصل المالكية في ذلك، فقالوا: إذا رفعت الزوجة أمرها للقاضي، فإن القاضي يسأل الزوج، فإن ادعى الإعسار وأثبته تلوم له القاضي باجتهاده، فإن مضت المدة ولم ينفق، طلق عليه، وإن لم يثبت إعساره، أو ادعى اليسار، أو سكت ولم يجب بشيء، أمره القاضي بالإنفاق أو الطلاق، فإن أبى طلق عليه حالاً من غير تلوم على المعتمد عندهم، وقيل: يطلق عليه بعد التلوم أيضاً.
وهذا كله إذا كان الزوج حاضراً، فإن كان غائباً غيبةً قريبةً يقل بعدها عن عشرة أيام، كتب القاضي إليه بالحضور والخيار بين الإنفاق أو الفراق، فإن حضر واختار أحدهما فبها، وإلا طلَّق عليه، وكذلك إذا لم يحضر، هذا إذا كان يعلم مكانه، فإذا كان لا يعلم مكانه، أو كان مكانه بعيداً أكثر من عشرة أيام، فإنه يطلِّق عليه فوراً[3].
وقد نص القانون السوري للأحوال الشخصية على التفريق لعدم الإنفاق في المواد/110-111/ منه كما يلي:
المادة /110/:
1 – يجوز للزوجة طلب التفريق إذا امتنع الزوج الحاضر عن الإنفاق على زوجته،ولم يكن له مال ظاهر ولم يثبت عجزه عن النفقة.
2 – إن ثبت عجزه أو كان غنيا أمهله القاضي مدة مناسبة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، فإن لم ينفق فرق القاضي بينهما.
المادة /111/:
تفريق القاضي لعدم الإنفاق يقع رجعيا، وللزوج أن يراجع زوجته في العدة بشرط أن يثبت يساره ويستعد للإنفاق.
ونص القانون الكويتي للأحوال الشخصية على ذلك أيضا في المواد /120-122/ كما يلي:
المادة /120/:
أ- إذا امتنع الزوج الحاضر عن الإنفاق على زوجته وليس له مال ظاهر ولم يثبت إعساره فلزوجته طلب التطليق، ويطلق القاضي عليه في الحال، وله أن يتوقى التطليق بدفع نفقتها الواجبة من تاريخ رفع الدعوى.
ب – إذا أثبت الزوج إعساره أو كان غائبا في مكان معلوم أو محبوسا وليس له مال ظاهر، أمهله القاضي مدة لا تقل عن شهر ولا تجاوز ثلاثة أشهر، مضافا إليها المواعيد المقررة للمسافة ليؤدي النفقة المذكورة، فإن لم ينفق طلقها عليه.
ج - إذا كان الزوج غائبا في مكان مجهول، أو مفقودا وليس له مال ظاهر، طلق عليه القاضي بلا إمهال.
المادة /121/:
تطليق القاضي بعدم الإنفاق يقع رجعيا، وللزوج أن يراجع زوجته في العدة إذا أثبت للمحكمة إيساره بحيث يقدر على مداومة نفقتها واستعد للإنفاق.
المادة /122/:
إذا تكرر رفع الدعوى لعدم الإنفاق أكثر من مرتين، وطلبت الزوجة التطليق لضرر، طلقها القاضي عليه بائنا.