واضع علم أصول الفقه
اختلف المؤرخون فيما بينهم على أول واضع لعلم أصول الفقه، فذهب الأكثرون إلى أن الإمام محمد بن إدريس الشافعي هو أول من وضع علم أصول الفقه، وألف فيه كتابه المسمى "الرسالة" فإليه يرجع الفضل في إرساء حجر الأساس لهذا العلم، وذهب آخرون إلى أن الحنفية هم أول من وضع قواعد هذا العلم، وأن الإمام أبا حنيفة ألف فيه كتاباً سماه "الرأي" ضمنه قواعد الاستدلال، وأن الإمامين أبا يوسف ومحمدا ألفا كتابين في هذا العلم أيضاً، ولكن هذه الكتب لم تصل إلينا إلا لمامات عنها في بطون الكتب، كما أن الإمام مالكاً أيضاً أشار في كتابه "الموطأ" إلى بعض هذه القواعد، وهذه الكتب كلها كانت قبل الشافعي، والحق أن علم الأصول نشأ مع نشأة الفقه نفسه، لأن استنباط الأحكام متوقف عليه، هذا إذا عنينا المعنى العام لهذا العلم، ولكننا إذا قصدنا ذلك الترتيب والتقعيد المخطوط الذي وصل إلينا عن هذا العلم كما نراه الآن بين أيدينا، فلا بد لنا من أن نعترف للإمام الشافعي بقصب السبق في ذلك، فقد كان كتابه "الرسالة" فتحا جديداً في هذا الفن، وكل ما روي من أن الحنفية سبقوا الشافعي في ذلك فما هو إلا روايات لم يدعمها الواقع، لأنه لم يصل إلينا من ذلك شيء رغم وصول كل كتبهم تقريباً وفي طليعتها كتب ظاهر الرواية للإمام محمد، هذا مع الإشارة إلى أن كتاب الرسالة للإمام الشافعي لم يستوف كل أبواب الأصول وقواعده، ولكنه أرسى المبادئ الأساسية التي كانت في مستقبل الأيام منطلق الأصوليين ومستمسكهم في مؤلفاتهم ومطولاتهم، رغم أنه ألف في أصول الفقه إلى جانب كتابه الرسالة عدة كتب متفرقة، أهمها كتاب: (جماع العلم)، وكتاب: (إبطال الاستحسان).
وقد تتابع العلماء والمؤلفون على التأليف في هذا العلم والزيادة على ما أتى به الشافعي في كتبه المتقدمة، فجاء الإمام أحمد تلميذ الشافعي رضي الله تعالى عنهما وألف كتبه: (طاعة الرسول) و(الناسخ والمنسوخ) و (العلل) ونسج العلماء بعده على نسجه وساروا على منواله.
وقد انقسم الأصوليون في تآليفهم بعد ذلك إلى طرق ثلاثة، لكل طريق من هذه الطرق منهجها الخاص في التأليف والتبويب، وهذه الطرق هي:
1- طريقة المتكلمين أو الشافعية: وهذه الطريقة أرسى قواعدها الإمام الشافعي رضي الله عنه، وسار على هديها بعده عدد من الفقهاء والأصوليين، وتمتاز هذه الطريقة بالبدء بالكلِّي والنزول منه إلى الجزئي، فتبدأ بالقاعدة الأصولية فتنقح وتصفى ويستدل لها بالأدلة الكافية، دون النظر إلى موافقتها للفروع الفقهية المنضبطة بها بادئ ذي بدء، فإذا ما وقفت هذه القاعدة على قدميها أمكن التفريع عليها وضبط الأحكام بها، ولذلك نرى أن الأصوليين الذين ألفوا على هذه الطريقة لا يعنون كثيراً بالفروع الفقهية لعدم حاجتهم إليها.
2- طريقة الحنفية: هذه الطريقة عرفت بالحنفية لأنهم تفردوا بابتكارها والسير عليها والتأليف على منوالها دون غيرهم، ثم عمت في جميع المذاهب بعد ذلك، وهذه الطريقة تقوم على النظر في الأحكام الفرعية وجمع المتناظر والمتشابه منها والخروج من ذلك إلى قاعدة أصولية تضبط كل هذه الأحكام المتماثلة، ذلك أن أئمة الحنفية لم تقع أيدهم على كتاب مؤلف في علم أصول الفقه في مذهبهم كما تسنى للشافعية بوقوفهم على كتاب الرسالة للشافعي، مما اضطرهم إلى تتبع الأحكام المذهبية واستنباط القواعد الأصولية والمعايير الفقهية التي تضبطها وتنطلق منها، إذ أنه لابد للفقيه عند استنباطه هذه الأحكام من أدلتها من ملاحظة بعض المعايير والقواعد، وهذه المعايير والقواعد هي موضوع علم أصول الفقه، ولذلك فإننا نرى أن كتب أصول الحنفية مليئة بالفروع الفقهية، لأنها المصدر الأصلي للقواعد الأصولية لديهم، فلا تقوم القاعدة إلا إذا اجتمع لها من الفروع الفقهية ما يبرر قيامها.
وعلى ذلك فإننا نرى أن قاعدة (الأصل في الأمر الوجوب)، قاعدة أصولية عند كل من الحنفية والشافعية، إلا أن الفريقين يختلفان في طريق الوصول إليها.
فالشافعية يصلون إليها عن طريق أن الأمر يتضمن الطلب، وأن الطلب من الشارع إلزام، والإلزام في أصله إيجاب، وهكذا ينظمون المقدمات والحيثيات حتى يصلوا إليها عن طريق استقصاء الفروع، فيقولون قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (البقرة:43)، جاء بصيغة الأمر، وهو هنا للوجوب بالإجماع، ثم قوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) (البقرة:43)، جاء بصيغة الأمر أيضاً، وهو للوجوب بالإجماع...، فمن ذلك نستدل على أن الأمر إنما وضع في الأصل للوجوب.
3- طريقة المتأخرين: هذه الطريقة وسط بين الطريقتين السابقتين، تجمع محاسنهما وتتجنب كثيراً من مآخذهما، وقد أطلق عليها بعض العلماء طريقة المتأخرين، لأن أكثر الذين انتهجوها هم من المتأخرين، وإن كان قد كتب على منوالها بعض المتقدمين أيضاً، وهذه الطريقة تعنى بالفروع الفقهية بقدر ما تعني بإثبات الأصول والقواعد الكلية، فهي تنشئ القواعد الكلية وتقيم عليها الأدلة والبراهين، مع ملاحظة ما ينضبط تحت هذه القاعدة من الفروع، وبذلك يستغنون عن اللجوء إلى كثير مما يضطر إليه غيرهم من الاستثناءات من القواعد التي قعدوها عند التفريع.