الواجب: تعريفه وأقسامه
تعريف الواجب:
قدمنا أن الواجب هو ما طلب الشارع فعله بطريق الجزم، وهذا هو تعريف الجمهور له، أما الحنفية فقد عرفوه بأنه ما طلب الشارع فعله بطريق الجزم بدليل ظني، فإن كان الدليل قطعياً فهو الفرض، وقد تقدمت الإشارة إليه.
وقد عرف كثير من الأصوليين الواجب بتعريفات أخرى أهمها:
1ـ ما جاء في شرح العضد من تعريفه للواجب أثناء تقسيمه للحكم قوله[1]: (فإن كان ظنياً للفعل غير كف ينهض تركه في جميع وقته سببا للعقاب فوجوب). أي إن الواجب ما طلب الشارع فعله على وجه يكون تركه في وقته موجباً للعقاب، وهو معنى الجزم في التعريف الأول نفسه، وقد جاء قيد (في جميع وقته) في التعريف ليدخل الواجب الموسع كما سوف نرى، فإن تأخيره عن أول الوقت لا يوجب الإثم.
وقد نقل صاحب فواتح الرحموت من الفقهاء زيادة قيد (من وجه) فيكون تعريف الواجب (هو ما استحق العقاب تاركه في جميع وقته من وجه) وقد زيد هذا القيد ليدخل في التعريف الواجب الكفائي، فإن تاركه يعاقب من وجه ولا يعاقب من وجه، ذلك أنه إذا فعله غيره سقط عنه كما سوف يأتي معنا في تقسيمات الواجب إن شاء الله تعالى[2].
2ـ وما جاء في التلويح على التوضيح من تعريفه للواجب أثناء تقسيمه للحكم التكليفي قوله: (فإن كان هذا أي كون الفعل أولى من الترك مع منع الترك بدليل قطعي فالفعل فرضي وبظني واجب) [3]، وهو التعريف السابق نفسه في معناه كما هو ظاهر.
أقسام الواجب:
ينقسم الواجب من حيثيات متعددة إلى أقسام مختلفة يمكن أن نضعها في أربعة أقسام، هي:
1- من حيث ارتباطه بوقت معين أو عدم ارتباطه به.
2- من حيث كونه محددا بحد معين من قبل الشارع أو غير محدد.
3- من حيث الملتزم بفعله أهو معين أو غير معين.
4- من حيث كون المطلوب فيه معينا أو غير معين.
التقسيم الأول من حيث ارتباطه بوقت أو عدم ارتباطه به: فإنه ينقسم إلى قسمين:
1- واجب مطلق، أي مطلق عن الوقت غير مرتبط به، وهو ما لم يقيده الشارع بوقت محدد من العمر[4]، مثل الكفارات والنذور المطلقة والزكاة وغير ذلك مما هو مرتبط بوقت معين لا يسع الإنسان الخروج بالواجب عنه أو أداؤه في غيره.
2- وواجب مؤقت، أي مقيد بوقت معلوم من قبل الشارع لا يسع المكلف إخراج الواجب عنه دون إثم[5]، مثل صوم رمضان، فقد أناطه الشارع بوقت محدد له هو شهر رمضان، فلا يسع المكلف أداء الصيام خارج رمضان إلا مع الإثم، بدليل قول الله سبحانه وتعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة:185)، فإن الله سبحانه وتعالى ربط الأمر بالصوم بشهود الشهر، ومن ذلك أيضا الصلاة المكتوبة، فإن الشارع ربطها بأوقات محددة لها لا يسع المكلف أخراجها عنها ...
ومن ذلك أيضا النذور المؤقتة، فإنه لا يسع الناذر إخراجها عن وقتها إلا بأثم نظرا لتعيينها بالنذر.
الفائدة من هذا التقسيم:
ويترتب على هذا التقسيم للواجب حكم شرعي، هو أن الواجب المطلق يسع الإنسان المكلف به فعله في أي وقت دون إثم يلحق به، ويسمى فعله هذا أداء، ويعبر الفقهاء عن هذا المعنى بأنه واجب على التراخي، وقد نص صاحب التوضيح على التنقيح على ذلك، فقال: (أما المطلق فعلى التراخي لأنه أي الأمر جاء للفور وجاء للتراخي، فلا يثبت للفور إلا بالقرينة، وحيث عدمت يثبت التراخي لا الأمر يدل عليه، لأن المراد بالفور الوجوب في الحال، والمراد بالتراخي عدم التقيد بالحال لا التقيد بالمستقبل، حتى لو أداه في الحال يخرج عن العهدة، فالفور يحتاج إلى القرينة لا التراخي) [6].
أما الواجب المؤقت، فيجب على الإنسان فعله في وقته، ويترتب عليه بطلان الفعل لو كان سابقا على الوقت، وصحته مع الإثم لو كان متأخرا عنه لغير عذر، ويسمى قضاء لا أداء، وسوف يأتي معنا تعريف الأداء والقضاء قريبا.
أنواع الواجب المؤقت:
ينقسم الواجب المؤقت إلى عدة أنواع من حيثيات متعددة، هي[7]:
1- الواجب الموسع:
هذا الواجب هو الذي وقته يتسع له ولغيره من جنسه، أي إن الوقت فيه أكبر من الواجب المرتبط به، مثل أوقات الصلاة المكتوبة، فإن كل وقت فيها يتسع للصلاة الواجبة فيها ولغيرها من أنواع الصلوات الأخرى، فروضا كانت أم واجبات أم سننا.
وهذا الوقت يسميه الجمهور موسعا، لأنه أوسع من الواجب المرتبط به، ويسميه الحنفية (ظرفا)، والظرف في اللغة الوعاء[8] الذي يضم أجزاء الشيء الموضوع داخله بصرف النظر عن كونه ممتلئا بالشيء الذي بداخله ولا يسع غيره معه أولا، وهو قريب من المعنى المصطلح عليه، لكنه يفترق عنه في أن الظرف في اللغة لا يفيد اشتراط زيادته عن المظروف وإن كان اتساعه لغيره معه وإن كان يحتمله، والمعنى المراد تحديده هنا يشترط فيه ذلك، فإطلاقه عليه غير دقيق، ولذلك كان إطلاق الجمهور عليه (موسعا) أدق في نظري. وعلى كل هو اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح.
2 - الواجب المضيـق:
هو الواجب الذي لا يتسع وقته لأكثر من الواجب المرتبط به، أي أن الوقت فيه بقدر الواجب المرتبط به ولا يتسع لغيره من جنسه، كرمضان، فإن الصوم المفروض المرتبط به مقدر به لا ينقص عنه ولا يزيد عليه، فلا يتسع شهر رمضان لصوم غير الصوم المفروض فيه، ولا يضر أنه يتسع مع الصوم لعدد كبير من الصلوات، فإنها ليست من جنس الواجب المرتبط به وهو الصيام.
وهذا الواجب يسميه الجمهور (مضيقا)، لأن الوقت فيه يضيق من غير الواجب المرتبط به، ويسميه الحنفية (معيارا)، والمعيار في اللغة العيار، وهو ما يقاس به غيره في الكيل[9]، أي ما جعل ضابطا لغيره كيلا، وهو المعنى المراد للأصوليين من الوقت الضيق نفسه، فكان إطلاق اسم المعيار عليه إطلاقا دقيقا جدا.
3- الواجب ذو الشبهين:
وهو الواجب الذي يتسع وقته للواجب المرتبط به ولا يتسع معه لغيره من جنسه، ولكن الواجب فيه لا يستغرق كل الوقت المقدر له، مثل الحج، فإنه مؤقت بوقت معلوم لا يصح إلا فيه، وهو شوال وذو القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة، وهذا الوقت لا يتسع إلا لحجة واحدة، بمعنى أن الإنسان لا يستطيع أن يأتي بحجتين أو أكثر في ضمن هذا الوقت، فهو لهذا يشبه الواجب المضيق، ولكن هذا الوقت غير مستغرَق كله بالواجب، فإن أفعال الحج لا تحتاج إلا إلى جزء يسير منه فقط، وهو في هذا يشبه الواجب الموسع، ولهذا الشبه المزدوج بكل من الواجب الموسع والمضيق أفرد باسم خاص به، وسمي بالواجب ذي الشبهين.
الفائدة المرتبة على تقسيم الواجب إلى موسع ومضيق وذي شبهين:
يترتب على تقسيم الواجب إلى هذه الأنواع الثلاثة بيان حكم تعيين النية عند أداء الواجب.
فقد اتفق الفقهاء على وجوب تعيين النية في الواجب الموسع، لأن الوقت محل له ولغيره من الواجبات الأخرى التي من جنسه، فلا يكون الفعل متمحضا له إلا بتعيين النية، كصلاة الظهر مثلا، فإن وقتها يتسع لها ولغيرها من الصلوات الأخرى، فلو صلى الظهر بنية واجب آخر لم يصح عن الظهر، وكذلك لو صلاها بمطلق النية، فإن صلاته تقع نفلا ولا تقع عن الظهر باتفاق الفقهاء.
ولكنهم اختلفوا في الواجب المضيق، أيجب فيه تعيين النية كالواجب الموسع أم لا يجب فيه ذلك؟
فذهب الجمهور إلى أن الواجب المضيق في حكم تعيين النية حكمه كحكم الواجب الموسع تماما، فيجب فيه تعيين النية.
وذهب الحنفية إلى أن الأمر يختلف في الواجب المضيق عنه في الواجب الموسع، لأن الواجب المضيق وقته لا يسع غيره من جنسه فكان متعينا له من قبل الشارع فينصرف الفعل إليه عند إطلاق النية، وكذلك عند النية المخالفة، لأن الواجب المخالف المقصود للمكلف يلغى لمخالفته لتعيين الشارع، فإذا ألغي وقع الفعل عن الواجب المربوط بالوقت المحدد له شرعا، كرمضان مثلا، فلو نوى في المكلف غير صوم الفرض، فإنه يقع عن رمضان عند الحنفية، لأن الوقت محدد له من قبل الشارع، فإذا حدد المكلف شيئا غير ذلك، ألغي ذلك التحديد لمخالفته لتحديد الشارع، فيتمحض الصيام لفرض الوقت بتحديد الشارع.
لكن الجمهور ردوا هذا الاستدلال، ونصوا على أن عدم صحة تعيين المكلف لا يفيد وقوع الفعل عن الفرض، إذ لا لزوم بينهما أبدا، لأن النية إذا لغت وقع الفعل بغير نية، فيقع باطلا، لأن النية شرط صحة العبادات بالاتفاق.
يضاف إلى ذلك أن المكلف مجاهر وقاصد عدم وقوع الفعل عن فرض الوقت، فلا يجوز صرفه إليه، خلافا لقصده، فلو صام رمضان بنية فرض آخر وقع صومه باطلا، ولا يقع عن رمضان، لأن المكلف لم يقصده، بل قصد غيره بصراحة لفظه ونيته.
وإنني أرى هنا رجحان رأي الجمهور في هذا المسألة لقوة دليلهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى)، والنية هي عمل القلب، ولا يمكن أن يحمل عمل إنسان على خلاف ما قصد، وناوي فرض آخر لا يمكن أن يعتبر ناويا فرض الوقت بحال، ولهذه القوة في دليل الجمهور مال الكمال بن الهمام المحقق في المذهب الحنفي إلى ترجيح رأي الجمهور على رأي مذهبه، نزولا عند الدليل، فقال: (الحق معهم – أي مع الجمهور – لأن التعيين شرعا لفرض الصوم يقتضي عدم صحة ما نوى، لا صحة ما لم ينو، كيف وهو ينادي أنا لم أرد صوم الفرض، والأعمال بالنيات) [10]، وهذا وأمثاله يدل دلالة قاطعة على ما كان يتمتع به سلفنا الصالح من صدق وإخلاص للعلم، وبعد عن التعصب المقيت، فكانوا يسيرون من الدليل حيثما سار واتجه.
هذا ولا بد من الإشارة إلى أن مؤدى دليل الجمهور ينتهي إلى تصحيح فرض الوقت المضيق بمطلق النية، فلو نوى في رمضان مطلق الصوم جاز صرفه إلى فرض الوقت، لأنه لم يظهر من المكلف قصد يخالف قصد الشارع حتى يحكم عليه بالإلغاء، ولما كان الوقت محددا لفرض معين من قبل الشارع، جاز صرف قصد المكلف إلى الواجب الذي حدده الشارع، لاحتماله إياه وعدم وضوح ما يخالفه، وذلك بخلاف الواجب الموسع، فإنه لا يمكن تصحيحه بمطلق النية، لأن الوقت لم يتمحض له من قبل الشارع.
وأما الواجب ذو الشبهين، فقد كاد الفقهاء يتفقون على أن الحج عن النفس يتأدى بمطلق النية، إلحاقا له بالواجب المضيق، لشبهه به، وأنه لا يصح بنية النفل أو بنية واجب آخر كالحج عن الغير، إلحاقا له بالواجب الموسع، لشبهه به أيضا[11].
حكم الوقت بالنسبة للواجب المؤقت:
اتفق الفقهاء في الواجب المؤقت الموسع على أن الوقت فيه سبب للوجوب شرط للأداء ظرف للمؤدى[12]، وسوف يأتي معنا في الحكم الوضعي تعريف كل من السبب والشرط وحكمهما، أما الظرف فمعناه أن يقع الواجب في ضمنه.
وأما الواجب المضيق، فالوقت فيه شرط للأداء معيار للمؤدى، وأما من حيث سببيته للوجوب فذلك على قسمين: قسم يكون فيه الوقت سببا للوجوب كرمضان، فإن الوجوب يتم عند شهود الشهر، وهذا دليل لسببيته، وقسم لا يكون فيه الوقت سببا للوجوب، كالنذر المعين، وذلك تفريقا بين تحديد الله للوقت وتحديد المكلف له، فما كان الوقت فيه محددا من قبل الله تعالى كان الوقت فيه سببا للوجوب، وما لا فلا.
وقد بنى الحنفية على هذا التفريق أن أجازوا رمضان بنية واجب آخر، ولم يجيزوا النذر المعين بنية واجب آخر[13]، ويتعين على اعتبار الوقت كذلك أحكام متعددة، أهمها:
1- أنه لا يجب أداء الواجب المؤقت ولا شيء منه قبل دخول الوقت، لأنه سبب الوجوب، ومعنى السبب أن ما ارتبط به من الوجوب لا يثبت قبل تحققه، فلا يجب على المسلم أن يصوم رمضان قبل شهود الشهر، ولا يجب عليه أداء صلاة الفجر قبل دخول وقتها، وهكذا، حتى إن المرأة لو حاضت قبل دخول وقت الفجر مثلا لم تجب عليها صلاة الفجر، ولم تدخل في ذمتها.
2- لا يصح أداء الواجب أو جزء منه قبل دخول الوقت، لأنه شرط للأداء، ومعنى الشرط أن ما ارتبط به لا يصح بدونه، فلو أدى الصلاة قبل وقتها لم تصح، وكذلك الحج والصوم.
3- يجوز فعل الواجب في أي لحظة من لحظات الوقت إذا كان موسعا، لأن الوقت كله ظرف له، ففي أي جزء من الوقت وقع وقع الواجب في محله، فإذا كان الوقت مضيقا وجب البدء بالواجب مع بدء الوقت، لأن الوقت فيه على قدر الواجب، وإذا أخره عن أول الوقت لزم منه فعل بعض الواجب خارج الوقت، وهو قضاء وليس بأداء كما سوف يتضح بعد قليل، لأنه لا يتحقق إلا بفعل الواجب كله ضمن الوقت[14].
تحديد جزء الوقت الذي يعتبر سببا للوجوب المؤقت[15]:
مادام الوقت سببا للوجوب في الواجب الموسع، وفي بعض أنواع الواجب المضيق، كان لابد من معرفة الجزء المعتبر سببا للوجوب في هذه الواجبات، أهو الوقت كله، أم جزء منه فقط، وإذا كان جزؤه فقط فما هو هذا الجزء؟
الاتفاق قائم على أن السبب بالنسبة للواجب المضيق الذي يعتبر الوقت فيه سببا للوجوب إنما هو أول الوقت، ليستطيع المكلف أداء الواجب كله في وقته.
أما الواجب الموسع فقد اتفق الفقهاء فيه على أن السبب ليس كل الوقت، بل هو جزء منه فقط، وذلك لأننا لو اعتبرنا الوقت كله سبب الوجوب فإن الحال لا يخلو من أن نعتبر الأداء واجبا في الوقت أو بعده، وكلاهما باطل، ذلك أننا لو اعتبرناه واجبا في الوقت لزم من ذلك تقدم السبب على المسبب، لأن الوقت مادام كله سببا فإنه لا يوجد ما لم ينقض كل الوقت، وحصول الوجوب داخل الوقت ينافي ذلك، فكان باطلا.
ولو اعتبرنا الوجوب حاصلا خارج الوقت وبعد تمامه للزم من ذلك الأداء خارج الوقت، وهو باطل، لأن فعل الواجب خارج الوقت قضاء وليس أداء.
ولذلك كان لابد من اعتبار أن السبب هو جزء من الوقت فقط لما تقدم، وهو ما اتفق عليه الفقهاء.
ولكنهم اختلفوا في الجزء المعتبر سببا للوجوب، أهو أول الوقت أو آخره أو غير ذلك، على خمسة مذاهب هي:
1 – مذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين[16]: وهو أن السبب هو أول الوقت على وجه التوسع، بمعنى أن المكلف مخير في أن يوقع الفعل في أي جزء من أجزاء الوقت المحدد له دون حرج أو إثم، ويكون فعله في ذلك أداء، كالصلاة، فإن سبب وجوبها في الذمة إنما هو أول الوقت، ولكن للمصلي أن يبادر إلى الأداء أول الوقت كما له أن يؤخر الأداء إلى نصف الوقت أو آخره، وكل ذلك يعتبر أداء ولا إثم فيه، لكنه ترك الأفضل إن كان بلا عذر مشروع، لعموم فضيلة أول الوقت، وخروجا من الخلاف.
وهنا ينبغي أن يتنبه إلى أن أول الوقت هو سبب الوجوب بالنسبة لمن أدركه هذا الجزء وكان مكلفا، فإن كان ليس من أهل التكليف أول الوقت، ثم أصبح مكلفا في آخره، كالحائض تطهر آخر الوقت، والغلام يبلغ آخره، كان جزء الوقت المرافق لتكليفه هو سبب الوجوب في حقه، لا الجزء الأول من الوقت، لأننا لو قلنا بأن الجزء الأول هو سبب الوجوب لما وجبت عليه الصلاة، لأنه لم يدركه وهو مكلف، مع أن الاتفاق منعقد على وجوب الصلاة عليه.
وقد استدل الجمهور لمذهبهم هذا بأن الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام صبيحة فرض الصلاة، فأم بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وصلى به أول يوم الصلوات في أول وقتها، وصلى به في الثاني في آخر وقتها، ثم أعلم النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بذلك مبينا لهم أول وقت كل صلاة وآخره، وقال: الوقت ما بين هذين، فدل ذلك على أن الوقت كله ظرف للصلاة يخير الإنسان بأدائها في أي جزء منه دون تعيين، وبما أن الصلاة لا تصح قبل ثبوت سببها، وكان فعلها في أول الوقت صحيحا بالاتفاق، فإنه يلزم منه اعتبار أول الوقت سببا للوجوب، وصلاة جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم أول يوم في أول الوقت يدل على أنه الأفضل.
2 - مذهب الحنفية، وهو أن السبب إنما هو جزء الوقت المتصل بالأداء، فإن تأخر الأداء إلى آخر الوقت كان السبب هو جزء الوقت الأخير مطلقا عند جمهور الحنفية، وذهب زفر إلى أنه الجزء الأخير المتسع لأداء الواجب.
فإن أخرج المكلف الواجب عن الوقت ولم يؤده فيه كان السبب هو الوقت كله في حق القضاء[17]، ولا اعتراض هنا على اعتبار الوقت كله سببا لما تقدم، مع أننا رددنا هناك اعتبار كل الوقت سببا لما يترتب عليه من اعتبار التقدم على السبب أو تأخر الأداء عن الوقت، وهو هنا منتف، فلا ضرر في اعتباره كذلك.
احتج الحنفية لمذهبهم هذا، بأنه لا يمكن جعل الوقت كله سببا للوجوب لما تقدم، فتعين جزء منه فقط هو سببا للوجوب، ولا يمكن تعيين جزء خاص منه سببا، فإذا بدأ المكلف بأداء الواجب تعين الجزء المرافق لأدائه سببا للوجوب ضرورة تصحيح فعله، لأن المسبب لا يصح قبل انعقاد سببه، وصحة هذا الفعل هي محل الاتفاق، فإذا لم يؤد أول الوقت وانتظر إلى آخره كان الجزء الأخير مطلقا أو المتسع للواجب هو السبب ضرورة عدم الانفلات من التكليف.
فإذا خرج الواجب عن الوقت كله، كان الواجب هو الوقت كله، لعدم ترجح جزء على جزء منه في السببية[18].
وقد رجح الكمال ابن الهمام الحنفي في هذا رأي الجمهور على رأي الحنفية لقوة دليلهم في نظره، وأنا أرى ترجيح رأي الحنفية لما قدمته من الاحتجاج لهم، فإنه في نظري كلام لا غبار عليه.
3- مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة من المتكلمين[19]، وهو أن السبب إنما هو الجزء الأول من الوقت، فإذا أخر المكلف الأداء عنه إلى منتصف الوقت أو آخره كان عليه أن يعزم على الأداء في الجزء السابق من الوقت بدلا عن الأداء فعلا، ويتعين الجزء الأخير للأداء فعلا بحيث لا ينوب عنه العزم فيه، فلو ترك العزم في الجزء الأول أثم، وقد استدل الباقلاني ومن تبعه على سببية أول الوقت بما استدل به الجمهور، وقد تقدم ذلك، كما استدل على وجوب العزم في أول الوقت إذ لم يحصل فيه أداء بأنه لو لم يكن العزم واجبا عند عدم الإتيان بالفعل للزم ترك الواجب بلا بدل، وهو باطل، لأنه يجعل الواجب غير واجب، إذ أن الواجب هو مالا يجوز تركه بلا بدل.
وقد رد الجمهور على هذا الدليل بعد موافقتهم على تعريف الواجب بأنه ما لا يجوز تركه بلا بدل، بأن العزم لا يصلح بدلا عن الفعل، لأن البدل هو ما يقوم مقام المبدل منه بحيث يسقط به، والعزم على الفعل لا يقوم مقام الفعل في ذلك، فلا يعتبر فعلا، ولا يسقط به الواجب باتفاق الفقهاء.
ولا يمكن أن يرد على هذا القول بأن مؤداه ترك الواجب لا إلى بدل بعد تحقيق السبب، ذلك أن معنى الترك في الواجب الموسع هو تركه إلى ما بعد خروج الوقت، لا تركه ضمن الوقت، فإنه لا يضر، بل إن معنى التوسع هو ذلك.
4- وذهب بعض الأصوليين، قيل هم بعض المتكلمين، وقيل بعض الشافعية، إلى أن السبب هو أول الوقت فقط، فإذا أخر الواجب عنه كان قضاء لا أداء، ولكن هل يأثم المكلف بهذا التأخير؟ خلاف بين أصحاب هذا المذهب، فذهب بعضهم إلى التأثيم، وذهب آخرون إلى عدم التأثيم.
وهذا المذهب يعني التسوية بين الواجب الموسع والواجب المضيق، أو إلغاء الواجب الموسع من أصله، وقد استدل أصحاب هذا المذهب بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة في أول الوقت رضوان الله، وفي آخره عفو الله)، فإن العفو لا يكون إلى عن ذنب، ولو كان آخر الوقت سببا في الوجوب لما كان أداء الصلاة فيه ذنبا يستوجب العفو من الله تعالى، فدل ذلك على أن أول الوقت هو السبب، وتأخيره عنه قضاء وذنب يستوجب العفو من الله تعالى.
وأجيب عن هذا الدليل بأن أقصى ما يفيده الحديث الشريف أن أداء الصلاة في أول الوقت أفضل من أدائها في آخره، وأن ترك الأفضل مخالفة تستحق العفو من الله تعالى، فيحمل الحديث عليها، ولا يمكن أن يصل هذا التقصير إلى درجة العقوبة، وإلا لصرح الشارع بها كما صرح بالعقوبة المترتبة على إخراج الصلاة عن وقت، ولكنه لم يصرح بالعقوبة، فكان ذلك دالا على الوقت الأفضل فقط، وليس ذلك محل خلاف، إنما الخلاف على الوقت الذي هو سبب الوجوب، وهذا ما ليس في الحديث دلالة عليه[20].
5- مذهب بعض الحنفية[21] في غير المشهور عندهم، إذ المشهور ما تقدم، وهو أن السبب هو الجزء الأخير من الوقت، فإذا قدم المكلف الواجب عنه بأن فعله في أول الوقت وقع نفلا يسقط به الفرض، كتقديم إخراج الزكاة على انتهاء الحول، فإنه نفل يسقط به الواجب بعد تحققه، وقد ذهب أبو الحسن الكرخي من الحنفية إلى هذا المذهب، إلا أنه قيده بشرط، وهو: (أن لا يبقى المكلف على صفة التكليف) كأن يجن أو يموت، فإن بقي على صفة التكليف وقع عن الواجب منذ فعله، أي إن الفعل عنده موقوف على نهاية الوقت، فإن انقضى الوقت أو بقى منه أقل مما يسع الواجب والفاعل مكلف، وقع الفعل عن الواجب منذ فعله، وإن خرج الفاعل عن التكليف قبل آخر الوقت، وقع الفعل نفلا من أصله.
استدل أصحاب هذا المذهب بأنه لو وجب الفعل فيما عدا الجزء الأخير من الوقت لما جاز تركه فيه، لأن شأن الواجب أن لا يجوز تركه، لكن الفقهاء متفقون على جواز ترك فعله قبل الجزء الأخير، فدل هذا على أن السبب في الوجوب إنما هو الجزء الأخير لا غير.
ونقض هذا الدليل بأن جواز ترك الواجب فيما عدا الجزء الأخير لا يستوجب عدم وجوب الفعل في هذا الجزء، بل يحتمل وجوبه فيه على التوسع، لأن معنى الواجب الموسع هو ذلك لما تقدم، والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.
انتقال الواجب الموسع إلى مضيق:
اتفق الفقهاء على أن الواجب الموسع قد ينتقل إلى مضيق في الحكم، فلا يجوز عندئذ للمكلف أن يؤخر الواجب عن أول الوقت، لأن حكم الواجب المضيق هو ذلك.
ويتم هذا الانتقال من الموسع إلى المضيق إذا ظن المكلف العجز عن أداء الواجب قبل آخر الوقت، فإنه يتضيق عليه الواجب بذلك، ويُستحق عليه وجوب الأداء فورا، وذلك كمن حُكم بالإعدام مثلا، وسحب إلى المقصلة مع دخول الوقت، وظن أنه لن ينظر إلى آخر الوقت، وكذلك المرأة إذا ظنت أنها تحيض في منتصف الوقت استنادا إلى عادتها في ذلك، فإنه يجب عليهما في هذه الحال المبادرة إلى أداء الواجب فور دخول الوقت، لأن الواجب انقلب في حقهما مضيقا لغلبة ظنهما، فإن غلبة الظن تقوم مقام اليقين في الأحكام العملية.
ولكن الحائض والمحكوم عليه بالموت لو أخر الواجب عن الوقت الذي ظنا أنهما لن يدركاه بحالة التكليف، ثم سلم المحكوم عليه ولم تحض المرأة، فأوقعا الواجب قبل خروج وقته المحدد له شرعا، أيكون ذلك منهما أداء أم قضاء؟
اختلف في ذلك الفقهاء، فذهب الجمهور إلى أن فعلهما أداء وليس قضاء، لأن الأداء هو ما كان فعله في وقته المحدد له شرعا أولاً، وهذا كذلك، ولا عبرة بغلبة الظن هنا بعد أن تعين بطلانها، مثلهما في ذلك مثل من ظن خروج الوقت فصلى، ثم تبين له أن الوقت لم يخرج بعد، فإن فعله الواجب أداء بالاتفاق، لظهور بطلان ظنه، وهنا كذلك.
وذهب القاضي أبو بكر الباقلاَّني إلى أن فعله الواجب يقع قضاء، لأن الوقت انتقل في حقه من موسع إلى مضيق بناء على غلبة ظنه، فكان إيقاعه له كذلك إيقاعا خارج الوقت، فكان قضاء لذلك، لأن الإنسان يحاسب على ظنه.
والأرجح في نظري هو مذهب الجمهور، لما تقدم من قياسه على مسألة من ظن خروج الوقت وهو باق، لأن الظن إذا تبين خطؤه لم يعد له اعتبار في الشرع.
هذا من حيث كون الفعل قضاء أو أداء، أما من حيث الإثم، فالاتفاق على ثبوته، بحيث لو أخر الواجب عن الوقت المضيق الذي انتقل إليه في حقهما أثما بالاتفاق، والإثم هنا مبني على غلبة ظنهما، ولا يمكن أن يقال إن غلبة الظن بطلت فلا تصح أساسا للإثم، لأن الإثم قد استقر بمجرد خروج الوقت المضيق، فلا يسقط بعد ذلك[22].
وعلى كل فالخلاف بين القاضي والجمهور لفظي ماداما متفقين على التأثيم، إلا أن يشترط القاضي وجوب نية القضاء، وهذا ما لم يثبت عنه.
أنواع الواجب المؤقت من حيث وقت فعله والإتيان به:
ينقسم الواجب المؤقت من حيث وقت فعله إلى ثلاثة أقسام: أداء، وقضاء، وإعادة، ومن الفقهاء من ذهب إلى تقسيمه إلى قسمين فقط، هما: الأداء، والقضاء وجعل الإعادة قسما من أقسام الأداء، ولكنني هنا رجحت فصل الإعادة عن الأداء بقسم مستقل ثالث، ليكون ذلك أوضح في الأذهان.
ثم إن من الفقهاء من خص هذا التقسيم بالواجب دون غيره من أنواع الحكم الأخرى، كالمندوب مثلا، ومنهم من أطلقها في كل العبادات، فجعل هذا التقسيم من أنواع العبادات كلها بما فيها الواجب وغيره.
ثم إن منهم من قصر هذا التقسيم على الواجب المؤقت دون غيره، ومنهم من أطلقه في كل الواجبات مؤقتة كانت أو غيرها[23].
1 - الأداء :
اختلف الأصوليون في تعريف الأداء بالنظر لاختلافهم على طبيعة انتماء هذا التقسيم:
أ- فمن ذهب إلى أنه من تقسيمات العبادة المؤقتة مطلقا واجبة كانت أو غير واجبة عرَّف الأداء بأنه فعل العبادة في وقتها المحدد لها شرعا أو لاً، أو ما فعل في وقته المقدر له شرعا أو لاً[24].
ب- ومن ذهب إلى أنه من تقسيمات الواجب المؤقت لا غير، عرف الأداء بأنه فعل الواجب في وقته المحدد له شرعا أولاً.
ج- أما من ذهب إلى أن هذا التقسيم من تقسيمات المأمور به مطلقا، مؤقتا كان أو غير مؤقت، واجبا كان أو غير واجب، فقد عرَّف الأداء بأنه تسليم عين الثابت بالأمر، فإنه يدخل فيه تسليم الواجب المؤقت في وقته المحدد له شرعا، كما يدخل فيه كل حقوق العباد الأخرى، فتسليم الصوم في وقته أداء، لأنه تسليم عين الثابت بالأمر، بخلاف فعله خارج وقته المحدد له شرعا، فإنه تسليم مثل الواجب لا عينه، وهو قضاء كما يأتي، وكذلك تسليم عين المغصوب، فإنه أداء، بخلاف تسليم قيمته، فإنه قضاء، لأنه مثل الثابت بالأمر لا عينه[25].
وقد اختار هذا التعريف فخر الإسلام، ورجحه صاحب فواتح الرحموت واعتبره التعريف الجامع، وهو ما نرى ترجيحه، لأنه جامع لكل أنواع الحكم التكليفي.
شرح التعاريف وبيان محترزاتـها:
التعريف الأول:
فعل العبادات: يشمل الواجب والمندوب والمباح دون تخصيص، لأن العبادة تطلق عليها جميعا، ويدخل في هذا العموم ما كان من العبادة مؤقتا أو غير مؤقت، كما يدخل فيه ما كان وقته مقدرا من الشارع أو لا، كما يدخل في ذلك ما كان فعله في الوقت أو لاً أو ثانيا، ولما لم تكن هذه من المعرف أخرجت بالقيود الآتية.
في وقته: قيد أول يخرج به ما لم يكن له وقت من المأمورات، كالنوافل المطلقة، والكفَّارات والنذور المطلقة، فإنها لا تدخل في هذا التقسيم على هذا التعريف، لأنها غير مؤقتة.
المقدر له شرعا: قيد ثان يخرج به ما كان تقديره من المكلف نفسه، كالزكاة إذا عين لها الإمام شهرا، فإنها غير مؤقتة في الأصل من قبل الشارع، وتأقيت الإمام لا يجعل تأخره عند خروجه عن الأداء إليه قضاء، لأنه ليس تقديرا من الشارع.
أولا: قيد ثالث يخرج به ما كان فعله في وقته المقدر له شرعا ولكن ليس أولاً، بل ثانيا، جبرا لما وقع في الأداء الأول نفسه، كإعادة الظهر في وقتها لخلل أصابها من تأخير ركن أو ترك واجب، فإنه داخل في قسم الإعادة لا الأداء على ما يأتي.
هذا إذا كان فعلها أولا صحيحا ناقصا كترك الفاتحة في الصلاة عند الحنفية، فإذا كان باطلا كان فعلها ثانيا أداء، لعدم الاعتداد بالفعل الأول، فإن الباطل وجوده وعدمه في اعتبار الشرع سواء، وكالصلاة بلا قراءة مطلقا لغير المؤتم، فإنها باطلة، فإذا أعادها كان الفعل الثاني أداء لا إعادة، لعدم الاعتداد بالفعل الأول مطلقا[26].
هذا ولا بد من فعل العبادة أو الواجب كله في الوقت حتى يسمى أداء، أما فعل بعض العبادة في الوقت وبعضها خارجه فلا يكون أداء على هذا التعريف، ولكن جمهور الفقهاء على أن فعل أول العبادة في الوقت كاف لاعتبارها أداء، ولو كان بعضها الآخر خارج الوقت، فمن أدرك أول صلاة العصر في الوقت ثم غربت الشمس وهو في صلاته فإن عصره يعتبر أداء، ولذلك أدخل الفقهاء في التعريف قولهم: (فعل ابتداء العبادة) [27]، ليدخل ما نصوا عليه، ولكنهم مع ذلك اختلفوا في الجزء الذي يعتبر إيقاعه في الوقت كاف لاعتبار الصلاة أداء، فذهب الحنفية إلى أنه التحريمية فقط، وذهب الشافعية إلى أنه ركعة على الأقل، فلو أحرم بالعصر ثم غربت الشمس كان فعله أداء عند الحنفية قضاء عند الشافعية، لعدم وقوع ركعة كاملة في الوقت.
التعريف الثاني:
التعريف الثاني كالأول تماما، ولا يفترق عنه إلا في تخصيص التعريف بالواجب دون غيره، فهو يخص هذا التقسيم بالواجب فقط، وهو ما طلب الشارع من المكلف فعله على سبيل الإلزام، فيخرج عن هذا التعريف جميع المندوبات والمباحات والمكروهات، أما المحرمات فإنها داخلة فيه، لما فيها من معنى الواجب وهو الإلزام بالترك.
التعريف الثالث:
هذا التعريف جامع شامل لكل المأمورات، سواء أكان الأمر فيها على سبيل الوجوب أو على سبيل الندب أو على سبيل الإباحة، وهو يشمل المأمورات المؤقتة وغير المؤقتة على حد سواء، كما يدخل فيه ما كان من حقوق الله تعالى وما كان من حقوق العباد، لذلك كان التعريف المرجح لدى جماهير الأصوليين، لشموله وصدقه على كل أفراده.
والمقصود بعين الثابت بالأمر، الإتيان بالمأمور به – أي المطلوب فعله – على الوجه الذي طلبه الشارع تماما، من غير مخالفة، مثل رد المغصوب عينا، فإنه هو الذي طلبه الشارع، أما رد القيمة عند هلاك العين فذلك ليس عين المطلوب من الشارع رده، بل هو بدل عن رد العين، يصار إليه عند الضرورة، وكذلك أداء الصلاة في وقتها، فهو عين المطلوب من الشارع، أما أداؤها بعد الوقت فذلك بدل للمطلوب، يصار إليه عند الأعذار والضرورات، فكان مثل المطلوب فعله لا عين المطلوب فعله.
2- الإعـــادة:
الإعادة تعريفها تعريف الأداء نفسه تقريبا وقد جرى فيها من الخلاف مثلما جرى في تعريف الأداء، فلا حاجة لنا إلى تكراره هنا.
والفارق الوحيد الذي تفترق به الإعادة عن الأداء هو أن الإعادة لا تكون إلا بعد سبق أداء الواجب ناقصا، أما الأداء فلا يكون إلا أولاً، وقد تم تفصيل ذلك في تعريف الأداء.
وينبغي الإشارة هنا إلى أن الحنفية اختلفوا في الإعادة أيكون الفعل الأول فيها مسقطا للواجب ويكون الثاني جابرا لنقص الأول، أم يكون الثاني هو المسقط للواجب.
فذهب إلى الأول جمهور الحنفية، بدليل أنه لو لم يعده لكان الفرض ساقطا عنه بالاتفاق، وهذا دليل وقوع الفرض بالأول، لأن الإعادة لم ترد عليه بالنقص بل بالتكميل فقط.
وذهب أبو اليسر من الحنفية، إلى أن الفعل الثاني هو المسقط للواجب بعد الإتيان به، لأنه يستجمع كل أوصاف الواجب، فلم يعد هنالك حاجة إلى الالتفات للفعل الأول والاعتداد به[28].
والأرجح في نظري القول الأول، لما تقدم من الدليل الناهض.
3 - القضـــاء:
اختلف الفقهاء في تعريفه كاختلافهم في تعريف الأداء، لأنه نقيضه، فأصحاب التعريف الأول للأداء عرفوا القضاء بأنه: (ما فعل بعد وقته المقدر له شرعا أولا استدراكا لما سبق له وجوب)[29]، فشمل ذلك تأخير الواجب عن وقته عمدا أو سهوا، كما شمل التأخير عن الوقت مع التمكن من الأداء، كالمسافر مثلا، أو مع عدم التمكن منه كالمريض والحائض والنائم.
وقد قيد بعض الفقهاء هذا التعريف بكلمة عليه، فقال: (.. استدراكا لما سبق له وجوب عليه) ليخرج به النائم والحائض والمجنون عن حد القضاء، لعدم تأكد الواجب في ذمتهم أثناء العذر، فإن الخطاب متجه عليهم في الجملة، ولكنه لم يتأكد في حقهم، فعلى التعريف الأول يدخل فعلهم الواجب بعد الوقت في حد القضاء، لتوجه الواجب عليهم بالجملة، وعلى التعريف الثاني ليس بقضاء، لعدم تأكد الوجوب في حقهم، للمانع الشرعي المبيح للتأخير.
وأصحاب التعريف الثاني مثل أصحاب التعريف الأول تماما، إلا أنهم قصروا التعريف على الواجب دون غيره، فلا يعتبرون من القضاء فعل النوافل خارج وقتها.
أما أصحاب التعريف الثالث فقد عمموا هذا التقسيم – كما تقدم – على كل مأمور به، سواء كان حقا لله تعالى أو حقا للعباد، مؤقتا أو غير مؤقت، فعرفوا القضاء بأنه: (تسليم مثل الثابت بالأمر) [30]، والمراد بكلمة مثل هنا هو تسليم المأمور به ناقصا بعض أوصافه الشرعية، كأداء الصلاة خارج وقتها، فإنها ناقصة الوقت المرتبطة به، وتسليم قيمة المغصوب عند هلاك عينه، فإنه ناقص تسليم ذات العين الثابت بحكم الغصب، وقد تقدم تفصيل ذلك في تعريف الأداء.
دليل قضاء الواجب وحكمه:
اتفق الفقهاء على أن الواجب إذا لم يؤد في وقته وجب أداؤه بعد الوقت قضاء، كالصلاة والصوم إذا لم يؤدهما المكلف في وقتهما المحدد لهما شرعا وجب قضاؤهما بعد الوقت، سواء أكان التأخير لعذر كالمرض والسفر والسهو، أو لغير عذر كالعمد.
ولكنهم اختلفوا في الدليل الموجب للقضاء، أهو الخطاب الذي وجب به الأداء نفسه، أم هو خطاب جديد غيره.
فذهب الجمهور وفيهم الشافعية والمالكية وبعض الحنفية إلى أن القضاء إنما يثبت بسبب جديد غير سبب الأداء.
وذهب جمهور الحنفية والحنبلية وأهل الحديث إلى أن القضاء يجب بما يجب به الأداء، ولا حاجة إلى دليل جديد له.
وذهب جماعة إلى أن القضاء بمثل معقول لا يحتاج إلى دليل جديد، أما القضاء بمثل غير معقول فهو الذي لا بد له من دليل جديد، حتى إن صاحب التلويح ادعى على ذلك الإجماع، فقال: (لا خلاف في أن القضاء بمثل غير معقول يكون بسبب جديد، واختلفوا في القضاء بمثل معقول..) [31]، إلا أن صاحب فواتح الرحموت رد على ذلك، وأثبت أن الخلاف في المثل المعقول وغير المعقول على حد سواء، وأنه لا فرق بينهما، فقال: (وقد بان لك أن الفرق بين القضاء بمثل معقول وبمثل غير معقول ليس في موضعه، فإن الأداء كما كان مفرغا للذمة عن اشتغالها بأصل الفعل، كذلك الإتيان بمثل غير معقول أو بمثل معقول ..) [32].
الأدلة:
استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة منها[33]:
1- بأن الأمر بالأداء لم يتضمن أمرا بالقضاء، ولا يمكن أن ينتظم لفظ الأمر كليهما معا على وجه يحصل به المطلوب بفعل أي منهما، إذ إن ذلك معناه التسوية بين الأداء والقضاء من كل وجه، وهذا باطل، لما في القضاء من إثم التأخير، مثل ذلك مثل من قال لغيره: صم يوم الخميس، فإن ذلك الأمر لا يعني صوم يوم الجمعة اقتضاء عدم الجمع بينهما، وهذا كذلك.
2- بأن الأمر بالأداء يستوجب أمرين هما: أداء الفعل، وكونه في وقته المقرر له شرعا، وليس مطلق الإتيان بالفعل فقط، أي إن الأمر اقتضى واجبا متصفا بقيد، فإذا تعذر حصول القيد لم يعد التفريغ على الوجه المطلوب ممكنا، فاحتيج إلى دليل جديد للقضاء.
واستدل الحنفية لمذهبهم[34]:
1- بأن الأمر فيه شغل الذمة بالواجب بقصد التفريغ بالأداء، وكون ذلك في الوقت قيد تكميلي، فإذا تم التفريغ في الوقت فقد تم التفريغ على الكمال، وإذا أخرج عن الوقت بقي الواجب في الذمة، ولزم أداؤه ما دام الكمال متعذرا، وهذا النقص هو محل المسؤولية والإثم، ثم إن لفظ القضاء يدل على ذلك أيضا، لأنه لو كان ثابتا بدليل جديد لسمي أداء ولم يسم قضاء، فإن لفظ القضاء يدل على انشغال الذمة بالأمر السابق.
2- بأن فوات الأصل (الأداء) يستلزم أحد أمور ثلاثة لا رابع لها، هي:
أ - العفو عن الواجب بالكلية، وتفريغ الذمة منه بتاتا، وبالتالي عدم المطالبة بالواجب خارج الوقت قضاء.
ب - بقاء الواجب في الذمة كما كان رغم خروج الوقت.
ج - ثبوت المعصية ثبوتا لا رافع له دون مطالبة بالفعل.
فأما الاستلزام الأول فلا سبيل إليه، لأن القضاء واجب باتفاق الفقهاء، سواء أكان ذلك بسبب جديد أو بالسبب السابق، وهو ينافي العفو.
وأما الاستلزام الثالث فلا سبيل إليه أيضا، وذلك لأن المعصية المترتبة على إخراج الواجب عن الوقت معصيتان، الأولى بسبب تأخير الواجب عن وقته، وهذا لا رافع له إلا كرم الله تعالى وجوده، والثانية بسبب ترك نفس الواجب، وهذه تجبر بالقضاء باتفاق الفقهاء.
فلم يبق إلا الوجه الثاني، وهو انشغال الذمة بالواجب على وجه لا تفرغ فيه إلا بالتنفيذ فعلا.
3- لو كان القضاء لا يثبت إلا بخطاب جديد، لما وجب قضاء الصلاة على تاركها عمدا، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها) لا يشمل التارك للصلاة عمدا، ولا دليل غيره يوجب القضاء عليه مع أن الفقهاء كنفقون على وجوب القضاء عليه، فلزم منه ثبوته بالدليل الأول.
وقد نقض الحنفية والحنبلية مذهب الجمهور من عدة وجوه:
فردوا على الوجه الأول بأنه لو كان مرادنا شمول دليل الأداء للقضاء لفظا لكان دليلهم صحيحا، ولكن قصدنا ليس كذلك، بل هو أن المطالبة بشيء تتضمن المطالبة بمثله عند فوته تضمنا، فكان دليل وجوب الأداء شاملا لوجوب القضاء ضمنا لا لفظا، وكان إيجاب الأداء موجبا للقضاء، إذ هو مثل الأداء، فيصار إليه عند فوت الأصل ضرورة تفريغ الذمة.
كما أنهم ردوا على الوجه الثاني بأن الوقت مكمل للواجب لا أصل مثله، فليس الثابت بالأمر شيئين هما الواجب وكونه في الوقت، بل إن الثابت به هو فعل الواجب فقط، وأما كونه في الوقت فذلك وصف مكمل له، بدليل أنه لو أخرج الواجب عن وقته ثم فعله صح الواجب وسقط عن ذمته، وأما الإثم فهو نتيجة الإخلال والكمال وهو كونه في الوقت، ولو كان الوقت مقصودا بالأمر الأول كالواجب سواء بسواء لما سقط الواجب به قضاء، ولكن يسقط الواجب باتفاق الفقهاء بالقضاء، فكان مكملا له لا أصلا لذلك.
فإن قيل إن المكمل لا يوجب فواته الإثم لأنه بمثابة المندوبات، والقضاء يثبت فيه الإثم بالإجماع، أجيب بأن المكمل نوعان: نوع يكون واجبا، كقراءة الفاتحة في الصلاة عند الحنفية، ونوع يكون مندوبا كعقد اليدين في القيام، وتفويت الواجب يوجب الإثم بالاتفاق، فكان اعتبار الوقت مكملا للواجب إنما هو من النوع الأول، فلم يعد هنالك اعتراض على استحقاق الإثم بتفويته[35].
وقد رد الجمهور على الحنفية والحنبلية في دليلهم الرابع، بأن قضاء الصلاة على التارك لها عمدا إنما وجب بالحديث المتقدم نفسه بطريق دلالة النص، فإن حالة الترك عمدا أولى بالقضاء من حالة الترك سهوا أو النوم، ودلالة النص حجة عند الحنفية والحنبلية.
ثم إن القضاء على التارك عمدا ثبت بإجماع الفقهاء عليه من غير نكير، والإجماع حجة قطعية بالاتفاق، فصلح ذلك أن يكون دليلا جديدا لوجوب القضاء.
هذا وقد مال كثير من الفقهاء إلى ترجيح مذهب الجمهور، ولكنني مع ذلك أرى ترجيح رأي الحنفية والحنبلية من اعتبار الخطاب الأول الموجب للأداء موجبا للقضاء ضمنا لا لفظا، ما لم يقم دليل صريح على خلاف ذلك، أي إن الأصل هو الشمول ما لم يعارض بدليل آخر لما تقدم من الأدلة.
أنواع الأداء والقضاء[36]:
أنواع الأداء:
ينقسم الأداء سواء كان ذلك في حقوق الله تعالى أوحقوق العباد إلى ثلاثة أقسام، هي:
ا- أداء كامل: وهو فعل عين الثابت بالأمر في وقته بالوصف الذي شرع عليه، أي كاملا مستجمعا كل شروطه وأركانه وسننه على الوجه الذي جاء به الخطاب، كصلاة الجماعة في وقتها فيما شرعت فيه الجماعة من الصلوات، فإنها أداء كامل، لاحتوائها على الجماعة، وهي من سنن الصلاة أو واجباتها، وكرد عين المال المغصوب سليما، فإنه أداء كامل أيضا.
2- أداء ناقص: هو فعل عين الثابت بالأمر في وقته ناقصا بعض الأوصاف التي شرع عليها، كصلاة المنفرد فيما شرعت فيه الجماعة من الصلوات، فإنها ناقصة صفة الجماعة، كرد عين المغصوب مشغولا بجناية أو دين.
3- أداء شبيه بالقضاء: وهو فعل عين الثابت بالأمر في وقته بعد فوات محله من وجه، كصلاة اللاحق للإمام فيما يصليه وحده بعد الإمام، فإنه أداء لفعله في وقته، وفيه معنى القضاء، لما فيه من فعله بعد محله، إذ محله خلف الأمام، وكذلك إذا تزوج امرأة على عبد لغيره، ثم اشتراه ودفعه لها، فإنه أداء من حيث إن فيه دفع العبد نفسه، ولكنه يشبه القضاء من حيث إن تبدل الملك كتبدل العين.
ب - أنواع القضــاء:
ينقسم القضاء إلى ثلاثة أقسام أيضا:
1- قضاء بمثل معقول: وهو ما كان وجه المشابهة والمماثلة فيه بين القضاء والأداء مما يدركه العقل، كقضاء الصلاة بالصلاة، والصوم بالصوم، وضمان المغصوب بالمثل بعد هلاك العين.
2- قضاء بمثل غير معقول: وهو ما كان وجه المشابهة والمماثلة فيه بين القضاء والأداء مما لا يدركه العقل ولكن ثبت بالشرع، كالفدية في الصوم، فإن العقل لا يستطيع إدراك المماثلة بين الإنفاق في الفدية بدلا عن الصوم وبين الصوم، وكذلك ضمان النفس بالمال المتقوِّم في القتل، والإرش عن الأطراف، وغيرها.
3- قضاء يشبه الأداء: كإدراك المقتدي الإمام في صلاة العيد وهو راكع، فإن عليه أن يكبر تكبيرات الزوائد في حالة الركوع، وهذه تعتبر قضاء لزوالها عن وقتها، إذ هو القيام، لكنها شبيهة بالأداء، لما في الركوع من شبه بالقيام من حيث انتصاب الساقين في كل، فكان فعلها في الركوع له شبهة بفعلها في القيام، وكذلك لو تزوج امرأة على عبد غير معين ثم دفع إليها قيمة عبد وسط، فإنه قضاء من حيث أن الثابت عليه عبد وسط لا قيمته، وهو شبيه بالأداء، لأن العبد الثابت عبد وسط، والوسطية لا تعرف إلا بالقيمة، فكأن القيمة هنا أصبحت شبيهة بالأداء، لما فيها من معنى الأصلية في تعيين الواجب.
التقسيم الثاني للواجب: من حيث تقديره من الشارع بحد معين أو عدم تقديره به، فإنه ينقسم من هذه الحيثية إلى واجب محدد، وواجب غير محدد:
1- الواجب المحدد: وهو الواجب الذي حدد الشارع له مقدارا معينا، كالزكاة، فإن الشارع بيَّن أنصبتها والواجب في كل نصاب، والصلاة، فإن الشارع بيَّن عددها وأوقاتها، ولم يترك شيئا من ذلك لتحديد البشر.
ومن ذلك أيضا كل الحدود والكفارات، ومقدار الفروض في المواريث، فإنها لا دخل لإنسان في أمر تحديدها زيادة أو نقصانا.
2- الواجب غير المحدد: وهو الواجب الذي أمر الله تعالى بفعله ولم يحدد المقدار الواجب فيه، بل ترك أمر التحديد للسلطة البشرية وقرائن الأحوال يتحدد بموجبها، كنفقة الأقارب، والتعزيرات، والإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وغير ذلك مما لم يحدد الله سبحانه وتعالى مقداره مسبقا.
الحكمة في التحديد وعدمه:
لقد قضت حكمة الله تعالى وإرادته أن يأمر بني البشر بواجبات كثيرة تلبية لمصالحهم وتحقيقا للعدالة بينهم، ولمَّا كانت مصالح البشر منها ما هو ثابت لا يتبدل بتبدل العصور والأزمان، ولا بتغير الأشخاص والبلدان، ولا يتأثر بالأعراف والعادات، أو أن المصلحة التي سبق تعلق إرادة الله تعالى بها تستلزم هذا الثبات، وتمنع التغير والتبدل، كما في جريمة السرقة، فإنها مستنكرة بدرجة واحدة في كل العصور وفي كل البيئات وعند جميع الأمم على حد سواء، وكجريمة الزنا، فإنها مكروهة لكل عاقل منبوذة مجرَّمة في كل تشريع يُعنى بالمصلحة العامة، فإذا حدث أن استبيحت في بعض البيئات أو أحلت في بعض العصور لبعض الناس عدَّ ذلك انحرافا وخروجا عن جادة الصواب، لأن جريمة الزنا جريمة يجب أن تكون ثابتة الجرمية في كل عصر، فإذا انحرف قوم عن تجريمها عد ذلك منهم انحرافا، لا تغييرا سليما ينبغي بناء الأحكام عليه وتغيرها وفقا له.
ومنها ما هو قابل للتبدل بطبيعته، وهو ما يرتبط بالعادة والعرف، بحيث إنه يتكيف بها كثرة وقلة شدة وضعفا، حتى إذا ما لجأنا إلى تحديده مسبقا في نطاق محدد لا يقبل التغيير والتبديل عطلنا المصلحة التي شرع من أجلها، والغاية التي أوجب لها، مثل النفقة على الأقارب، فإن العرف والعادة والأسعار هي التي تحدده، ولو حددت مسبقا من الشارع لكان في ذلك كل المجافاة للعدالة، ومنها الجرائم التعزيرية، فإنها متأثرة بالعرف والعادة كمَّا وكيفا، ثم هي غير منضبطة تختلف باختلاف الأحوال والظروف والقرائن المحيطة بها، فإن شتيمة العالم غير شتيمة آحاد الناس في جرميتها.
فلذلك كله وتحقيقا للعدالة المطلقة التي هي مناط الواجبات الشرعية قسم الشارع الواجب إلى القسمين المذكورين، فجعل بعض الواجبات محددة لا دخل للسلطان البشري في تحديدها زيادة وقلة كمَّا وكيفا، وهذا هو القسم الأكثر من الواجبات الشرعية، وجعل بعض الواجبات الأخرى غير محددة مسبقا، وأوكل إلى السلطان البشري أمر تحديدها بقواعد وأسس معينة بينها لنا سبحانه.
حكم الواجب المحدد وغير المحدد:
لهذا التفريق بين الواجب المحدد وغير المحدد ثمرة هي: أن الواجب المحدد يثبت في الذمة إذا لم يؤَدَّ في وقته، أما الواجب غير المحدد فلا يثبت في الذمة بفوات وقته.
ودليل ذلك أن شغل الذمة بالواجب الغاية منه القدرة على تفريغها بأدائه ضرورة عدم التكليف بمتعذر، ولما كان الواجب هنا غير محدد لم يكن إخراجه من الذمة، فلزم من ذلك عدم شغل الذمة به.
هذا إذا لم يكن حدد ممن له سلطة التحديد من البشر، فإذا حدد بالقضاء أو الرضا فإنه يلحق بالواجب المحدد باتفاق الفقهاء، ويثبت في الذمة، ولكن الشافعية اختلفوا مع الحنفية في إسناد هذا الترتيب إلى تاريخ مبدأ الوجوب أو قصره على وقت التقدير، فذهب الحنفية إلى أن الواجب غير المحدد إذا حدد ممن له السلطة في تحديده، كنفقة الزوجة يحددها القاضي، فإنها تثبت في الذمة من تاريخ التحديد لا من تاريخ الوجوب، لالتحاقها بالواجب المحدد من تاريخه فقط، وذهب الشافعية إلى أن الواجب غير المحدد إذا حدد ممن له تحديده يلحق بالواجب المحدد منذ تاريخ نشوء الواجب، فتجب نفقة الزوجة بعد تحديدها في ذمة الزوج وجوبا مستندا إلى تاريخ نشوئها، أي تجب في ذمته النفقة الجديدة والنفقة الماضية السابقة على التحديد.
الأدلــــة:
استدل الحنفية لمذهبهم بأن الواجب غير المحدد غير قابل للثبوت في الذمة في أصله لعدم تحديده، فيسقط، فإذا حدد بعد ذلك كان التحديد بمثابة إيجاب جديد له، فلا يرجع على ما وقع ساقطا من الأصل.
واستدل الشافعية لمذهبهم بأن عدم الثبوت في الذمة إنما كان لعدم التحديد، فلما تم التحديد زال المانع من الإثبات في الذمة، فرجع إليها متعلقا بها[37].
التقسيم الثالث للواجب: من حيث تعيين الملزم بفعله.
ينقسم الواجب من هذه الحيثية إلى قسمين: واجب على العين، وواجب على الكفاية.
1- فالواجب على العين: ويسمى الواجب العيني، هو الواجب المتعلق بجميع أفراد المكلفين على وجه لا يتأدى إلا بفعل كل واحد منهم له.
2- الواجب الكفائي: وهو الواجب المتعلق بجماعة المكلفين على وجه يتأدى فيه بفعل البعض منهم له، لحصول الغرض منه بفعل بعض المكلفين[38]، فإذا تركوه جميعا أثموا كلهم، لعدم حصول الواجب منهم.
معنى هذا التقسيم ومنشأه:
كل الواجبات التي شرعها الله جل شأنه الحكمة فيها شيئان، هما تربية البشرية جمعاء، وإقامة العدالة بينها، والتربية لا تتحقق إلا بالتزام كل واحد من المكلفين الواجبات التي شرعت له، لأن التربية أمر شخصي ذاتي لا يصلح أن يقوم فيه إنسان مقام آخر، كالقوة البدنية تماما، لا تتم لإنسان إلا إذا قام بالرياضة لها بنفسه، ولا يغني عن ذلك قيام غيره بها مهما كان ذلك الغير.
أما إقامة العدالة وتأمين المصالح فتتحقق بفعل البعض دون الكل، لأن الغاية منها نوعية وليست شخصية، كالقضاء والجهاد، فإن الغاية منها إقامة العدالة بين الناس وكسر شوكة الأعداء ورد أذاهم.
لهذا كله انقسمت الواجبات إلى هذين القسمين، فما كان منها متعلقا بجانب التربية اعتبر واجب عين لا يتأدى فيه الواجب إلا بفعل كل إنسان مكلف له، فإذا ما تركه إنسان من المكلفين أثم لوحده، ولم يغن عنه قيام غيره به.
وما كان منها متعلقا بجانب العدالة ومصلحة المجتمع دون النظر إلى أفراد هذا المجتمع اعتبر واجب كفاية يتأدى فيه الواجب بفعل بعض المكلفين له، ويسقط الوجوب عن الباقين بذلك، فإذا تركوه جميعا أثموا كلهم لفوات المصلحة المترتبة على هذا الوجوب كليا.
وهذا التقسيم للواجب منطقي وضروري، ومجافاته جور وعبث، ذلك أن مصالح المجتمع كثيرة ومتعددة، لا يستطيع كل مكلف القيام بها جميعا، كالعلم والقضاء والجهاد والمهن كلها.. فإذا ما كان وجوبها عليه عينا كان تكليفا بما لا يطاق، وجورا ينزه التشريع الإسلامي عنه، ثم إن في تكليف المؤمنين جميعا به خروجا عن الحكمة التي يتصف الله سبحانه وتعالى بها، ذلك أن فيه جعل كل الناس علماء بالفقه وبالأصول وبالكيمياء والفيزياء والخياطة والتجارة.. وهو لا شك -على ما فيه من استحالة- عبث من العبث لعدم الحاجة إليه، والعبث لا يليق بأي تشريع فضلا عن التشريع الإسلامي الصادر من حكيم حميد[39].
حكم الواجبين العيني والكفائي:
اتفق الفقهاء على أن حكم الواجب العيني التزام كل مكلف به وعدم براءة ذمته منه إلا بالأداء شخصيا، وأن الواجب الكفائي حكمه براءة ذمة المكلفين به بفعل جماعة منهم له، على أن الثواب خاص بالجماعة التي قامت به دون غيرها، فإذا تركوه جميعا أثموا كلهم.
محل تعلق الواجب الكفائي:
واتفق الفقهاء أيضا على أن الواجب العيني متعلق بذمة المكلفين به جميعا، أما الواجب الكفائي فقد اختلف الفقهاء في متعلقة على أربعة مذاهب، هي:
مذهب الجمهور من الفقهاء: وهو أن الخطاب في الواجب الكفائي متعلق بالكل الإفرادي، أي هو متعلق بكل فرد من أفراد المكلفين على حد سواء.
وذهب آخرون: إلى أن الخطاب متعلق ببعض من الجماعة المكلفة به، وإليه مال صاحب المحصول.
وذهب آخرون أيضا: إلى أن الخطاب متعلق ببعض من الجماعة معلوم عند الله تعالى ولا نعلمه نحن.
وذهبت طائفة من الفقهاء: إلى أن الخطاب متعلق ببعض من الجماعة هم المشاهدون للشيء محل الواجب.
الأدلــــــة:
استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة منها:
أ- نصوص كثيرة من القرآن الكريم والسنة الشريقة، منها قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، وهي كلها جاءت عامة فتشمل كل المكلفين دون التحديد بفئة معينة، ولا مخصص لهذا العموم، فلا يجوز العدول عنه.
ب - اتفق الفقهاء على أن المكلفين لو تركوا الواجب الكفائي جميعا أثموا كلهم، والإثم دليل الوجوب، فدل ذلك على أن الوجوب متعلق بالجميع[40].
استدل أصحاب المذهب الثاني بأدلة منها:
أ - بأن الواجب الكفائي يسقط بفعل البعض بالاتفاق، ولو كان واجبا على الكل لم يسقط بفعل البعض كسائر العبادات، لأن الواجب إذا ما استقر في الذمة لم يسقط إلا بالأداء أو النسخ، ولا نسخ هنا لعدم قيام دليله، أما الأداء فمتفق على إجزاء البعض فيه عن الكل، فكان لا بد من اعتبار الوجوب متعلقا بالبعض فقط، ولما كان لا مرجح لبعض على غيره من أفراد الجماعة اعتبر الواجب متعلقا ببعض منهم.
ب - اتفق الفقهاء على صحة التكليف ببعض مبهم، وهو مما يسمى بالواجب المخير على ما سيأتي، فكان تكليف بعض مبهم صحيحا قياسا عليه، أي إن أصحاب هذا المذهب قاسوا الإبهام في المكلف على الإبهام في المكلف به، بجامع وجود البعضية والإبهام في كل، ولما كان الأول محل اتفاق على جوازه وصحته، كان الثاني صحيحا قياسا عليه في نظرهم[41].
ج - بعض الواجبات الكفائية جاءت فيها نصوص توجه الخطاب إلى جماعة مبهمة من المكلفين دون جميع المكلفين، من ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122)، فإن الخطاب متجه إلى طائفة فقط دون جميع المؤمنين، ولا فارق معتبرا بين الجهاد والتعليم وغيرهما من الواجبات على الكفاية، فدل ذلك على أن الخطاب في الواجب الكفائي متجه إلى بعض مبهم من المكلفين دون جميعهم قياسا على ذلك.
د - لو قلنا بتكليف الكل للزم منه العبث، ذلك أن بعض المكلفين إذا أتى بالواجب وزادوا عليه لإثبات أن البعض معين في علم الله، لأن الله عالم بكل شيء، فلا يصح أن يعتبر البعض المتعلق به الخطاب هنا مبهما مجهولا، فاعتبر بعضا معلوما له لذلك.
أما أصحاب المذهب الرابع، فقد استدلوا أيضا بما استدل به أصحاب المذهب الثاني، وزادوا عليهم لإثبات أن البعض المخصوص بالخطاب هو من شاهد الفعل الذي تعلق الواجب به دون غيره، أن التكليف لا يصح إلا بما هو مقدور للمكلف، وتكليف الغافل عن الفعل تكليف بما هو غير مقدور، فكان الخطاب متعلقا بمن حضر الفعل أو علم به دون غيره، مثل صلاة الجنازة، فإنها واجبة على من جاور الميت أو علم به دون سائر المكلفين الذين لم يعلموا بذلك.
وقد ناقش الجمهور أدلة القائلين باتجاه الخطاب في الواجب الكفائي إلى بعض المكلفين دون غيرهم بما يأتي:
أ- ناقشوا الدليل الأول بأنه لا لزوم للنسخ، لأن سقوط الأمر قبل الأداء قد يكون للنسخ وقد يكون لانتفاء علِّية الوجوب، ولا نسخ هنا لحصول المقصود من إيجابه بإتيان واحد به، فيكون السقوط لزوال العلة الداعية إلى الوجوب لا لنسخ الوجوب، مثل الجهاد، علته دفع العدو، فإذا قام جماعة من الناس بدفعه سقط الوجوب عن الباقين لزوال علِّية الوجوب، فلا ضرورة للزوم النسخ هنا[42].
ب- ونوقش الدليل الثاني بأن القياس باطل لمقابلته النصوص التي تقرر أن الواجب الكفائي واجب على الكل مثل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:218)، وغيره. ثم هو على التسليم بعدم معارضته النصوص قياس مع الفارق، فإن تأثيم المبهم غير التأثيم بترك المبهم، إذ الأول غير معقول أما الثاني فهو معقول، بل هو محل اتفاق الفقهاء.
ج- أما الاستدلال ببعض النصوص التي يتوجه فيها الخطاب ظاهرا للبعض، فإنه يجاب عنه بأن الخطاب فيها لم يتجه في الحقيقة إلى البعض، إنما هو متجه للكل حكما ضرورة عدم تعيين هذا البعض، ولكنه يسقط عن الباقين بعد فعل البعض له جمعا بين هذا الدليل والأدلة السابقة عليه التي استدل بها الجمهور لمذهبهم، هذا إلى جانب أن الخطاب لم يتجه أصلا في هذه الآية الكريمة وأمثالها إلى البعض، إنما المقصود منه تحريض المؤمنين على طلب العلم والجهاد بخروج بعضهم له.
د- أما لزوم العبث فغير وارد أصلا، ذلك أن الأمر مقيد ضمنا بالسقوط عند أداء البعض له، بمعنى أن البعض إذا فعله سقط الوجوب عن الباقين ضرورة سقوط الإثم عنهم، فلم يبق في التكليف به عبث.
لهذه الأدلة والمناقشات نرى أن مذهب الجمهور هو الأرجح الأقرب للواقع، وإن كان الخلاف من أصله نظريا أكثر منه عمليا، ولا ينتج عنه إلا بعض الآثار القليلة.
انتقال الواجب الكفائي إلى واجب عيني:
ينتقل الواجب الكفائي إلى واجب عيني في الحكم إذا ما تعين فرد معين أو جماعة معينة لأدائه دون غيرها، كمهنة الطب مثلا، إذا انحصرت في واحد معين لا يعملها غيره، أو مهنة الفتوى إذا عم الجهل بالأحكام كل الناس إلا فئة قليلة لا تكفي لسد حاجة الناس من بيان الحق لهم في مسائلهم وقضاياهم، فإنه في هذه الحال ينقلب الواجب في حق هذه الجماعة التي انحصر إمكان أداء الواجب بها من واجب كفائي إلى واجب عيني، ولا يسع واحدا منها أن يتأخر عن أداء الواجب، فإذا ما تأخر عنه إثم، ولم يغن عنه قيام غيره به، ما دامت الحاجة لا ترتفع بقيام ذلك الغير.
التقسيم الرابع للواجب من حيث تعيُّن المطلوب به وعدمه.
ينقسم الواجب من هذه الحيثية إلى قسمين: واجب معين – وواجب مخير.
1- الواجب المعين: وهو ما طلبه الشارع بعينه دون تخيير بينه وبين شيء آخر، مثل الصلاة والصوم، فإنهما معينان من قبل الشارع ولا يغني فعل أي شيء غيرهما عنهما، ولا يسقط الواجب إلا بفعلهما ذاتهما.
2- الواجب المخير: ويسمى الواجب المبهم. وهو ما طلبه الشارع مخيّرا بين أمور عديدة يسقط الواجب بفعل واحد منها، مثل الكفارات، فإن الله سبحانه وتعالى أوجب في الكفارة فعل واحد من ثلاثة أمور، هي: (الإطعام أو الكسوة أو الإعتاق) بحيث إن المكلف لو فعل واحدا منها اعتبر مؤديا للواجب.
الحكمة في هذا التقسيم:
تقسيم الشارع الحكيم الواجب إلى معين ومخير تقسيم دقيق يقوم على حكمة بالغة ورحمة كبيرة بالأمة، فقد تعلق علم الله تعالى وإرادته بأن بعض المصالح لا تتحقق إلا بأفعال وأقوال معينة بحيث أن غيرها لا يحل محلها في تحقيق هذه المصلحة المرجوة منها، وأن بعضها الآخر يحصل بفعل واحد من أشياء متعددة على وجه التساوي.
ولما كانت الأحكام معللة بمصالح العباد عند جماهير الفقهاء قسم الله تعالى الواجب إلى هذين القسمين، فما كان من المصالح متعلقا بواجب معين لا يتحقق بغيره جاء الأمر به معينا بهذا الواجب، وما كان من المصالح يتحقق بواحد من أمور متعددة على وجه المساواة جاء الأمر به مخيرا بين تلك الواجبات التي تتحقق المصلحة بواحد منها، تخفيفا عن المكلفين، ورفعا للحرج عنهم، وتحقيقا لمصالح العباد على الوجه الأكمل.
محل تعلق الخطاب في الواجب المخير:
اتفق الفقهاء في الواجب المعين على أن الأمر فيه متعلق بعين الواجب المعين على وجه لا يسقط إلا بأدائه ذاته.
أما الواجب المخير فقد اختلف الفقهاء فيه على محل تعلق الخطاب، أهو منصب أو متعلق بواحد من الأمور التي جاء التخيير بها، أم هو منصب على جميع تلك المخيرات، وانقسموا إلى مذاهب متعددة أهمها:
1- مذهب جمهور الفقهاء: وهو أن الأمر في الواجب المخير منصب على فرد شائع من أفراد المأمورات المخير بينهما على وجه يحصل الواجب ويتأدى بفعل واحد منها، فإذا فعلها المكلف كلها أجر على واحد منها فقط، وإذا تركها جميعها أثم إثم ترك واحد منها أيضا.
2- وذهب جمهور المعتزلة: إلى أن الأمر متعلق بجميع المأثورات المخير بينها، بحيث يثاب الإنسان عليها كلها لو فعلها جميعا، وإذا تركها جميعا أثم إثم تارك واحدة منها فقط. لأن الواجب يتأدى بفعل واحد منها تكرما من الله تعالى وفضلا منه، فكان الإثم إثما واحد لذلك.
وقيل إن مذهب المعتزلة هو وجوب الجميع على سبيل البدل، فيكون مذهبهم مثل مذهب الجمهور لا فرق بينه وبينه، يبقي الخلاف صورياً، لكن المرجح أن مذهبهم هو الأول، ولذلك يكون خلافهم لمذهب الجمهور خلافا أصيلا له معنى واسع[43].
3- وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأمر متعلق بفرد من أفراد المأمورات معين عند الله سبحانه وتعالى، مبهم عندنا، يتعين بالفعل والأداء، فإذا أدى الحانث في يمينه الكسوة تعينت الكسوة للوجوب، وإذا أدى الإعتاق تعين الإعتاق عليه، وهكذا . . .
4- وذهب آخرون إلى أن الواجب فرد معين من أفراد المخيرات، يتأدى الواجب به إذا فعل، كما يتأدى بغيره من أفراد المخيرات إذا فعل على طريق البدلية عنه.
الأدلــة:
استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة منها:
أ) أنه لا مانع عقلاً من اعتباره كذلك، ذلك أنه لو قال إنسان لعبده: (اشتر لي خبزاً أو لحماً، أيهما فعلت اكتفيت به وأثبتك عليه، وان لم تشتر لي شيئاً عاقبتك، ولست أوجب عليك شراء كليهما، وإنما أطلب منك شراء واحد لا يعينه، بل أي واحد أردته أنت) كان كلامه معقولاً لا غبار عليه.
ب) لا مانع شرعاً من وقوع ذلك، بل إن ذلك وقع فعلا، كخصال الكفارة، فإن الله سبحانه وتعالى قد خير الحانث في يمينه بين الإعتاق والإطعام والكسوة، ولا أدل على الجواز من الوقوع.
ج) لا يجوز بحال اعتبار كل أفراد المخيَّر واجبة بالأمر، لأن ذلك إن كان مستساغاً في بعض الفروع فهو محال في فروع أخرى، مثل الأمامة، فإن نصب الإمام واجب مخير، ويجب على الأمة نصب واحد من أهل الحل والعقد لا على التعيين، ولكن لا يجوز لهم بحال نصب اثنين معا، لما في ذلك من المفاسد، ولو كان الواجب نصبهما على الجميع لجاز، ولكنه حرام بالاتفاق، فدل على أن الواجب إنما هو فرد واحد من أفراد المخير.
د) أجمعت الأمة في خصال الكفارة على أن الواجب واحد منها لا كلها، والإجماع حجة قاطعة لا تجوز مخالفته[44].
هـ) لا يمكن أن يفهم من التخيير تعين أحد أفراد المخير دون غيره، لأن ذلك ينافي التخيير الذي صرحت النصوص به، ولا يمكن أن يفهم منه وجوب الكل لمنافاته التخيير كذلك، فوجب اعتبار وجوب البعض دون تعيين[45].
واستدل أصحاب المذهب الثاني بما يأتي:
أ- بأنه لا يمكن تعليقه بفرد معين من أفراد المخير دون غيره، لعدم الدليل على ذلك وإذا امتنع التعيين كان الأمر معلقا بمجهول، والمجهول مستحيل الوقوع عقلا، والتكليف بمستحيل ممتنع ضرورة عدم القدرة على الإتيان به، فكان لا بد من القول بتعلق الأمر بجميع المأمور به المخيَّر.
ولكن الجمهور ناقشوا هذا الدليل بأنهم لا يسلمون أن غير المتعين هنا مجهول، بل إنه معلوم من حيث إنه واجب، وهو محصور في أفراد معينة، كخصال الكفارة، فإنها محصورة في ثلاثة، ثم إنه كان مجهولا من وجه، فإنه ليس واجبا من هذا الوجه، ويتأدى الواجب بفعل واحد من أفراده، فلم يكن مستحيلا لذلك.
ب- بأن القول بإيجاب فرد واحد فيه تناقض، لأن فيه اعتبار كل فرد من أفراد المخير واجبا وغير واجب في وقت واحد، ففي الكفارة إذا اعتبرنا الواجب العتق كان الإطعام والكساء غير واجبين، وإذا اعتبرنا الواجب الكساء كان العتق والإطعام غير واجبين، واجتماع النقيضين غير جائز عقلا.
لكن الجمهور ناقشوا ذلك بأنه لا تناقض هنا، لأن الواجب المخيَّر محدود فيه كل المتعينات التي هي أفراد الواجب، وذلك جائز، لأن محل الوجوب غير محل التخيير، كوجوب أحد النقيضين تماما، فإنه جائز، وكذلك هذا[46].
ج- بأن الوجوب في الواجب المخير كالوجوب في الواجب على الكفاية، وهناك اتفق الجمهور على أنه يشمل كل الأفراد، فيكون هنا كذلك قياسا عليه بجامع الإبهام في كل.
لكن الجمهور ردوا ذلك بإبطال القياس، لأسباب هي:
1- أنه قياس في مواجهة النص، فإن النصوص صريحة في إيجاب واحد من أفراد المخير لا جميعه.
2- أنه قياس مع الفارق، وقد بيناه في دليل الواجب الكفائي.
واستدل أصحاب المذهب الثالث لمذهبهم:
بأن الله سبحانه وتعالى هو الموجب، وهو عالم مطلق لا يغفل عن شيء، فيلزم من ذلك علمه بالفرد الذي ارتبط الإيجاب به، فيكون الواجب واحدا معروفا لديه سبحانه، ونظرا لعدم علمنا بالواجب، ولفراغ الذمة بواحد من أفراد المخير، كان الواجب في حقنا هو المؤدى فعلا.
لكن الجمهور أجابوا عن ذلك، بأن الله تعالى يعلم الشيء على الوجه الذي أوجبه، فإذا أوجب واحدا من ثلاثة مثلا وجب أن يعلمه كذلك، وإلا لزام أن لا يكون عالما بما أوجبه[47].
ثم إن في تعيين الأمر المؤدي للوجوب تأخير للإيجاب عن الفعل، وهو محال، ذلك أن الإيجاب لا بد من تقدمه على الفعل ليكون ممكن الحدوث، إذ التكليف بمحال باطل، وفي تأخير الإيجاب على الفعل تعليق بمحال، فيكون باطلا لذلك[48].
واستدل أصحاب المذهب الرابع لمذهبهم:
بأن الواجب ما دام واحدا من أفراد المخير لزم أن يكون هذا الواحد معلوما لله تعالى، لإطلاق علمه، فإذا كان الواجب معلوما لله تعالى كان بالنسبة إليه بمثابة الواجب المعيَّن، ولذلك كانت إصابته تأدية للواجب عينا، وإصابة غيره من أفراد المخيَّر بدل عنه تخفيفا من الله تعالى، لعدم علمنا بعين الواجب.
ولكن الجمهور ردوا هذا الدليل، بأن علم الله تعالى تعلق بالتخيير، فلا يقصر على فرد معين دون غيره، ولمَّا كان الحكم كذلك كانت الأفراد كلها أصلا في أداء الواجب، ولا رجحان لواحد على آخر حتى يعتبر أصلا وغيره بدلا.
بعدما انتهينا من دراسة أقسام الواجب من كل حيثياته، ننتقل إلى دراسة مسألة يلحقها الأصوليون بمبحث الواجب، وهي مقدمة الواجب.
[1] انظر في ذلك العضد على ابن الحاجب 1/232، وانظر أيضاً في هذا التقسيم فواتح الرحموت 1/57 ـ 57.
[2] انظر فواتح الرحموت 1/62.
[3] انظر التلويح على التوضيح 2/123.
[4] انظر فواتح الرحموت 1/699-72. والتوضيح على التنقيح 1/202 وما بعدها.
[5] انظر فواتح الرحموت 1/69.
[6] انظر التوضيح على التنقيح: 1/202، وكذلك التلويح عليه في نفس الموضع.
[7] انظر فواتح الرحموت 1/69 – 72.
[8] انظر المصباح المنير – مادة (ظرف).
[9] انظر المصباح المنير ومختار الصحاح – مادة (عير).
[10] انظر فواتح الرحموت 1/69، فإنه أشار لترجيح الكمال لمذهب الجمهور وذهب إلى مخالفته وترجيح مذهب الحنفية وتوجيهه.
[11] الخضري: ص 39-41، وفواتح الرحموت 1/72.
[12] فواتح الرحموت 1/69.
[13] انظر فواتح الرحموت 1/69-71، والتوضيح 1/212.
[14] انظر فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: 1/69.
[15] انظر في هذا الموضوع المستصفى: 1/62، وفواتح الرحموت 1/76 وما بعدها والتلويح على التوضيح 1/206 وما بعدها، وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب: 1/341 وما بعدها.
[16] انظر فواتح الرحموت – شرح مسلم الثبوت: 1/76، والتنقيح: 1/206 والعقد: 1/241.
[17] فواتح الرحموت 1/76، والعضد وحاشية السيد عليه: 1/242.
[18] انظر في ذلك بحثا مطولا في فواتح الرحموت 1/76-77.
[19] انظر العضد على ابن الحاجب: 1/241، ومذكرات أبي النور زهير: 1/107-108.
[20] انظر العضد: 1/241، وأبو النور زهير: 1/108-109.
[21] انظر العضد وحاشية السيد عليه: 1/242، وأبو النور زهير: 1/110-111 والتنقيح: 1/306.
[22] انظر شرح العضد على ابن الحاجب: 1/243-144، وفواتح الرحموت 2/86-88، وأبو النور زهير: 1/112.
[23] انظر فواتح الرحموت 1/85-86، والمستصفى: 1/95 وما بعدها.
[24] انظر فواتح الرحموت 1/86،والعضد 1/233.
[25] انظر فواتح الرحموت 1/85-86،والعضد 1/232.
[26] العضد: 1/232، وفواتح الرحموت 1/85.
[27] فواتح الرحموت 1/85.
[28] فواتح الرحموت 1/85.
[29] العضد: 1/233.
[30] فواتح الرحموت 1/86.
[31] التلويح: 1/162، وانظر كشف الأسرار 1/138، فإنه تابعه على ما ذهب إليه.
[32] فواتح الرحموت 1/90.
[33] فواتح الرحموت 1/90-91، والتوضيح 1/162 وما بعدها، وكشف الأسرار 1/138 وما بعدها.
[34] فواتح الرحموت 1/90-91، والتوضيح 1/1992 وما بعدها.
[35] فواتح الرحموت 1/90-91، والتوضيح 1/162 وما بعدها.
[36] انظر التوضيح 1/166-172، وكشف الأسرار مفصلا: 1/146-183.
[37] يرجع في بحث الواجب المحدد وغير المحدد إلى: أبي زهرة ص34-35 والخضري.
[38] حاشية السيد على شرح العضد: 1/234.
[39] فواتح الرحموت 1/63.
[40] فواتح الرحموت 1/63،والعضد 1/234.
[41] انظر فواتح الرحموت 1/64،والعضد 1/234.
[42] فواتح الرحموت 1/63.
[43] انظر فواتح الرحموت 1/66.
[44] العضد: 1/236، وفواتح الرحموت 1/67.
[45] العضد: 1/237.
[46] العضد: 1/236، وفواتح الرحموت 1/76.
[47] انظر شرح العضد: 1/241.
[48] انظر فواتح الرحموت 1/66.