شرع من قبلنا
شرع من قبلنا نعني به شرائع الأنبياء السابقين على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كإبراهيم ونوح وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والرسل الذين قص علينا القرآن الكريم أخبارهم، وهو خاص بالتشريعات السماوية دون التشريعات الوضعية التي سبقت رسالة الإسلام، كالتشريع الروماني وتشريعات قدامى المصريين وشريعة حمورابي وغيرها، فإنها ليست شرائع معتبرة في نظر المتدينين في العالم من غير خلاف، لأن حق التشريع إنما هو لله وحده ولا يحق لأحد غيره في التشريع مطلقاً، قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (يوسف:67) .
وقد اختلف الفقهاء في حكم شرع من قبلنا، أيعتبر شرعا ملزما لنا، كإلزام شرعنا لنا، أم لا يعتبر تشريعاً ملزماً لنا؟ وذلك على أقوال ومذاهب متعددة. وقبل أن نتعرض لخلافاتهم ومذاهبهم نريد أن نشير إلى مواطن الاختلاف في هذه المسألة، ونصرف النظر عن مواطن الاتفاق فيه، لعدم الفائدة من بحثها.
فإن شريعة من قبلنا لابد أن تعتريها الحالات التالية:
1- أن يقصها الله تعالى علينا ويأمرنا باتباعها، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)، فهذا ملزم لنا بالإجماع، لا لأنه شرع من قبلنا ولكن لأنه شرعنا.
2- أن يقصها الله تعالى علينا ويقوم الدليل الشرعي على نسخها، مثل حكم الغنائم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الغنائم كانت محرمة على من قبلنا ثم أبيحت لنا، وذلك ثابت بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الخصوصية، عن جابر رضي الله عنه: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، فهذا منسوخ في حقنا باتفاق الفقهاء أيضاً، لقيام الدليل الشرعي على نسخه.
3- أن لا يقصها الله تعالى علينا مطلقاً، فإنها لا حجة فيها علينا بالاتفاق، لعدم ثبوتها بالطرق التي نقبلها، ولا يؤثر في ذلك أنها ثابتة عندهم، لأنهم بكفرهم سقطت عدالتهم وأهملت روايتهم، فلم يبق فيها نوع حجة علينا لذلك.
4- أن يقصها الله علينا من غير إلزام لنا بها أو نسخ لها، مثل قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة:45) وهذا هو موضع الخلاف بين الفقهاء.
فقد ذهب جمهور الحنفية وبعض الشافعية والمالكية والحنبلية في رواية، إلى أن شرع من قبلنا الذي قصه الكتاب علينا دون بيان لنسخه شرع لنا.
وذهب بعض الشافعية والحنبلية في رواية، والأشاعرة والمعتزلة والشيعة إلى أن شرع من قبلنا الذي قصه الله علينا دون أن يأمرنا به ليس شرعاً لنا، وهو ما اختاره الغزالي والآمدي والرازي وابن حزم الظاهري.
الأدلـــة:
استدل كل من المحتجين والنافين للاحتجاج بشرح من قبلنا فيما قصه الله تعالى علينا دون بيان لنسخه أو أمرنا به بأدلة عدة، أهمها:
أدلة المحتجين:
أ- أن الله تعالى أمرنا في كثير من آياته القرآنية بالسير على منوال الأمم السابقة فيما لا يخالف شريعتنا، من ذلك قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(الأنعام:90)، ومنه قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:123) .
ب- قال الله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة:45)، فقد استدل العلماء بها على وجوب القصاص، ولو لم يكن شرع من قبلنا شرعا لنا لما احتجوا بها.
ج- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب في بعض الأحيان، ولو لا أن شرعهم حجة علينا لما أحب موافقتهم.
أدلة النافين للاحتجاج:
أ- أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بعث معاذا إلى اليمن قاضيا وسأله بم تقضي، وأجابه بأنه سوف يقضي بالقرآن والسنة والاجتهاد، أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولو كان شرع من قبلنا دليلا وحجة لأرشده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، ولكنه سكت ولم يرشده إليه، فدل على أنه لا حجة علينا فيه.
ب- قال تعالى: (وأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة:48)، فهذا يدل على أن شريعة كل أمة من الأمم السابقة خاصة بها لا حجية فيها على غيرها.
جـ- لو كان شرعا لنا لاهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بتعلمه، ولو اهتموا به لنقل ذلك إلينا لتوافر الدواعي، ولكن لم ينقل إلينا شيء من ذلك، فدل ذلك على أنه لا حجة فيه.
د- أن الشرائع السابقة خاصة بالأقوام التي نزلت فيهم، والعموم هو من خصائص شريعتنا فقط، لما جاء في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)، فدل ذلك على أن الإلزام في الشرائع السابقة ليس إلا للأقوام الذين أنزلت فيهم، فلا يكون فيها إلزام علينا.
المناقشــة والترجيح:
الحق أن كل الأدلة السابقة المثبتة والنافية للاحتجاج تحتمل المناقشة، وإن كانت تختلف بينها قوة وضعفا، والذي أراه هو أن شرع من قبلنا في هذه الصورة الأخيرة محل الخلاف ليس شرعا لنا بحال، وذلك لما يلي:
أن شرائع من قبلنا تختلف فيما بينها في كثير من الأحكام، ولو كانت حجة علينا لوقعنا في الحيرة، لأنه لا مرجح لواحد منها على الأخر مادامت كلها سابقة على شرعنا، ولم يرد فيها في شريعتنا ما يدل على النسخ أو الاعتبار، ولذلك لا تعتبر شريعة لنا لذلك.
أن الشرائع إنما جاءت لتيسير مصالح الدين والدنيا معا، ومصالح الدين والدنيا متغيرة متجددة بتجدد العصور والأزمان، فما كان شريعة صالحة في الأزمنة الغابرة لا يمكن الجزم بأنه شريعة صالحة في زماننا، وإذا كان ذلك كذلك امتنع تكليفنا بها، ولا يمكن أن يرد على هذا أن ذلك يقتضي نسخ شريعتنا أيضا بعدما تقادم عليها الزمن، وذلك أن شريعتنا جاء الدليل القاطع على عمومها ووجوب العمل بها في كل زمان بخلاف تلك، ولأن الشارع عندما أمر بعموميتها أودع في نصوصها من المرونة ما يكفي لتلبيتها حاجات كل العصور، واختلاف الفقهاء في بعض الأحكام أكبر شاهد على هذه المرونة وهذه الصلاحية.
أن الله تعالى قال في كتابه العزيز: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً)(المائدة:3)، وكمال الدين يقتضي عدم الحاجة إلى دليل آخر.
ولا يمكن أن يقال إن كمال الدين معناه من حيث أصول الأحكام فقط، وإلا فما معنى حجية الإجماع والقياس وغيرها، إذ الجواب على ذلك واضح، هو أن الدين نفسه وجه إلى هذه المصادر بأدلة قاطعة فكانت منه، ولكنه لم يوجه إلى الأخذ بشرائع من قبلنا بأدلة قاطعة أو مظنونة فلم تكن منه، فكان اعتبارها والاحتجاج بها مناقضاً لكمال الدين، إذ إن كل ما أورده المثبتون للاحتجاج بها من نصوص هو نصوص دون مرتبة الظن، فلا تصلح دليلا على اعتبار شرائع من قبلنا والاحتجاج بها علينا.
هذا ولابد من الإشارة إلى أن البحث والاختلاف في هذا كله اختلاف غير ذي موضوع، لأنه غير حاصل من الناحية العلمية، فان الله تعالى لم يقص علينا من شرائع من قبلنا شيئاً إلا وبين نسخه أو اعتباره، فكان المدار على ذلك النسخ أو الاعتبار، وما جاء به المثبتون من شواهد، فانه مردود، ذلك أن أهم الشواهد التي أتوا بها هو قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة:45)، وادعوا أنه لم يثبت عن الشارع ما يعتبرها أو ينسخها مع أن الشارع ثبت عنه اعتبارها، وهو ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (النفس بالنفس إن هلكت)، فكان تشريع القصاص حجته حديث النبي صلى الله عليه وسلم هذا الذي شهد للآية بالاعتبار في حقنا.
وهكذا يمكن تخريج كل الأمثلة والشواهد التي أتوا بها دون حاجة إلى الخوض في ذلك الاختلاف، ولكن على التسليم بقيام موطن الخلاف، فان الرأي المرجح عندي عدم الاحتجاج بها لما قدمت من الأدلة والترجيح، والله تعالى أعلم.
********