أسباب اختلاف الفقهــــاء
بعد هذه المقدمة الموجزة لهذا العلم أرى أنه من المفيد جدا أن أتعرض لأسباب الاختلاف بين الفقهاء، فإن من الجاهلين والمغرضين من يشككون في صلاحية الشريعة الإسلامية للبقاء والخلود، ويتهمونها بالتناقض وعدم الاتساق، ويستدلون على ذلك بالخلافات الفقهية، ويعتبرون هذه الخلافات مظهرا من مظاهر الاختلال، ونحن من أجل أن نرد على تلك الاتهامات ونثبت أن هذه الاختلافات بين الفقهاء في فروع الشريعة إنما هي ظاهرة صحية، وكنز تشريعي ثمين نعتز به ونفرح له، وهي ليست بحال من مظاهر التناقض. من أجل ذلك سوف نتعرض لأسباب الاختلاف بين الفقهاء، ونتبع ذلك بالرد على من اتهم هذه الشريعة بالتناقض والاختلال لذلك.
تمهيـــــد:
لا بد من الإشارة قبل البدء في بيان أسباب اختلاف الفقهاء إلى أن الأحكام الشرعية إنما وردتنا عن الشارع الحكيم بطرق ووسائل معينة، فإرادة الشارع هي المصدر الأصلي للأحكام، ولكننا لا نستطيع الوقوف على إرادة الشارع الحكيم بشكل مباشر، لأنه أمر مستحيل، ولذلك كان لا بد من التعرف عليها من طرق متعددة، وهذه الطرق هي ما يسمى بالمصادر التشريعية.
وهذه المصادر منها ما هو قطعي الدلالة على إرادة الشارع، ومنها ما هو ظني الدلالة، بمعنى أن دلالته على إرادة الشارع منه محتملة للعكس، ولو كان هذا الاحتمال مغلوبا، ثم إن ثبوت هذه الأدلة وصحة نقلها إلى الشارع الحكيم قد يكون مقطوعا به وقد يكون مظنونا أيضا، فالقرآن الكريم قطعي الثبوت لا شك في ذلك في جملته وتفصيله، لأنه ورد إلينا بطريق التواتر، وكذلك السنة الشريفة النبوية، فهي في جملتها قطعية الثبوت، ولكنها في مفرداتها ليست كذلك كلها، فإن منها ما هو متواتر قطعي الثبوت، ومنها ما هو خبر آحاد، وهو لا يكون مقطوعا به بحال، بل هو ظني الثبوت.
فالحكم المقطوع به ثبوتا ودلالة لا محل للنظر فيه، وبالتالي لا مكان للاختلاف فيه، أما الحكم المظنون إن ثبوتا أو دلالة، فهو ميدان للنظر والاجتهاد والتقدير، ولهذا فإننا نرى أن الأحكام التي تثبت أدلتها بالقطع لم يختلف فيها أحد من الفقهاء، ومن ذلك أكثر الفرائض والواجبات وكل الأحكام المتعلقة بالله سبحانه وتعالى، أما الأحكام التي ثبتت بأدلة مظنونة، فهي التي كانت مثار خلاف وتقدير لدى الفقهاء، ومعلوم أن أكثر أحكام الشريعة إنما كان ظني الثبوت أو الدلالة، وذلك لحكمة كبيرة قضت بها إرادة الشارع، وهي التوسعة على الناس ورفع الحرج عنهم، كما سوف نوضحه في محله.
والآن سوف نستعرض أسباب الاختلاف بين الفقهاء، ثم نعلق عليها بما يرد شبهات الخصوم.
أسباب الاختلاف بين الفقهــــاء:
أهم أسباب الاختلاف بين الفقهاء يمكن إدراجها فيما يلي من النقاط:
1- اختلاف أساليب اللغة العربية ودلالة ألفاظها على المعاني، فإن اللغة العربية دون شك هي أوسع لغات العالم في المفردات وأدقها في التعبير، ولكنها مع ذلك – شأنها شأن سائر لغات العالم – تتعدد فيها وتختلف معاني الألفاظ، غرابة واشتراكا، كما تتراوح بين الحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص، إلى غير ذلك مما هو معروف في كتب اللغة وأصول الفقه من طرف دلالة اللفظ على المعنى، وحيال هذا العدد والاختلاف لابد أن تتعدد الأفهام وتختلف الاستنباطات، فتختلف بذلك الأحكام، من ذلك مثلا قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(البقرة:228)، فقد اختلف الفقهاء في هذه الآية على معنى (القرء) إذ هو في اللغة اسم للحيض والطهر معا، فذهب الحنفية إلى أن المراد به في هذه الآية الحيض، واستدلوا على ذلك بأدلة وقرائن كثيرة أيضا، ومناط اختلافهم الأصلي في هذه المسألة إنما هو الوضع اللغوي لكلمة قرء، وإنها مشتركة بين الطهر والحيض معا على التساوي.
ومن ذلك أيضا اختلافهم في حكم لمس يد الرجل المرأة هل ينقض الوضوء أو لا، فذهب الشافعية إلى أنه ينقض الوضوء، وذهب الحنفية إلى أنه لا ينقضه، ومناط اختلافهم هو معنى المس الذي ورد في قوله تعالى: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء:43)، فقد ذهب الشافعية إلى أن المراد بذلك هو حقيقة المس لغة، وهو حاصل بمجرد اتصال بشرة الرجل ببشرة المرأة، لأن أصل الوضع اللغوي لهذا اللفظ هو ذلك، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل، ولا دليل هنا يقتضي العدول، وذهب الحنفية إلى أن المراد بالمس هنا ليس هو حقيقته اللغوية، بل المراد به المباشرة الفاحشة، وهي تماس الفرجين مع الانتشار، وذلك بدلالة وقرائن كثيرة مفصلة في كتب المذهب كافية في نظرهم لنقل هذا اللفظ من الوضع اللغوي إلى وضع شرعي خاص به، فمثار الخلاف إنما هو احتمال اللغة لهذا وذلك.
2- اختلاف الأئمة في صحة الرواية في الحديث، فالسنة المطهرة هي المصدر الثاني لهذه الشريعة بعد القرآن الكريم، والسنة وردت إلينا منقولة في صدور الرجال، وهؤلاء الرجال بشر يصدقون ويكذبون، كما أنهم يحفظون وينسون، ولا يمكن رفعهم فوق هذه المرتبة، كما أن العلماء الذين اقتفوا أثرهم ودرسوا حياتهم وسلوكهم رجال أيضاً، تختلف أنظارهم في الراوي، فمنهم من يراه موثوقاً به، ومنهم من يراه غير ذلك، ولذلك كان طبعياً أن يختلف الفقهاء في الاحتجاج ببعض الأحاديث دون الأحاديث الأخرى، وطبعي أيضاً أن يذهب إمام إلى ترجيح رواية راو على رواية آخر لوثوقه به أكثر، ويذهب فقيه آخر لترجيح مخالف لهذا الترجيح، اعتماداً منه على وثوقه بالراوي الآخر.
وهذا الاختلاف أدى بطبيعة الأمر إلى الاختلاف في كثير من الأحكام الفرعية تبعاً للاختلاف في مدى الوثوق بالراوي، كما أن اختلاف الفقهاء فيما بينهم على طرق ترجيح الروايات إذا ما تعارضت، ومدى أخذهم ببعض أنواع الحديث أو اعتذارهم عنه كان له أثر كبير في اختلافهم في الأحكام الفرعية، من ذلك مثلاً الحديث المرسل، يأخذ به الحنفية ويفضلونه على الحديث المتصل أحياناً، خلافاً للشافعية الذين يرفضون الاحتجاج بالمرسل مطلقاً، إلا مراسيل سعيد بن المسيب التي ثبت بتتبعها أنها كلها متصلة.
كما أن اختلاف الفقهاء في الأخذ بقول الصحابي وعمله وعدم الأخذ بهما كان له أثر كبير في الاختلاف، فالحنفية لا يجيزون الخروج على قول الصحابة إلى قول غيرهم، ويعتبرون قول الصحابي حجة، أما الشافعية فيجيزون الخروج على قولهم في كثير من المواضع.
3- اختلاف الفقهاء فيما بينهم على قوة الاحتجاج ببعض المبادئ والقواعد الأصولية، من ذلك مثلاً أن الحنفية يذهبون إلى أن العام قطعي الدلالة قبل التخصيص، فإذا دخله التخصيص نزل إلى مرتبة الظنية، أما الشافعية فيعتبرون العام ظنياً قبل التخصيص وبعده، وعلى ذلك فإنهم يجيزون تخصيص العام بالدليل الظني دون الحنفية الذين لم يجيزوا تخصيصه للمرة الأولى إلا بدليل قطعي.
ومن ذلك أيضاً اختلافهم في حمل المطلق على المقيد، فقد توسع الشافعية في حمل المطلق على المقيد فقيدوا بذلك الرقبة الواردة في كفارة الإيمان بالمؤمنة جرياً على تقييدها في كفارة القتل بذلك، خلافاً للحنفية الذين لا يقيدونها بذلك.
ومنه أيضاً اختلافهم على الاحتجاج بمفهوم المخالفة، فقد ذهب إلى الاحتجاج به الشافعية في أكثر المواضع خلافاً للحنفية الذين رفضوا التعويل عليه في أكثر المواضع.
ومنه أيضاً اختلافهم على جواز نسخ القرآن الكريم بالسنة الشريفة والسنة بالقرآن، فقد أجازه الحنفية والجمهور ومنعه الشافعية.
ومثل هذا كثير يعرف في كتب الأصول.
4- اختلافهم على كثير من قواعد التعارض والترجيح بين الأدلة التي ظاهرها التعارض والتناقض، وهذا الاختلاف يعتبر صدى لاختلافهم في النسخ وقواعده وشروطه، والتخصيص وطرقه وشروطه وضوابطه، إلى غير ذلك من القواعد الأصولية الخاصة بالترجيح بين الأدلة التي ظاهرها التعارض، وهو مبسوط في كتب الأصول أيضاً.
5- اختلافهم في القياس وضوابطه، فالفقهاء مع اتفاقهم على الاحتجاج بالقياس والاستدلال به ـ عدا الظاهرية ـ يختلفون في شروط القياس وشروط العلة التي يصح القياس بها ومسالكها ومناطاتها، وترجيح علَّة على أخرى عند تعارضها وطرق ثبوت العلة وغير ذلك من الاختلافات المشروحة في كتب أصول الفقه. حتى أنك لا تكاد ترى أصلاً واحدا اتفقوا على القول بحجيته في القياس.
6- اختلافهم في صحة الاعتماد على الكثير من الأدلة الإجمالية، كالاستحسان الذي ذهب الحنفية إلى الاحتجاج به، وذهب الشافعية إلى عدم الاحتجاج به، حتى نقل عن الشافعي قوله (من استحسن فقد شرع)، والاستصلاح الذي ذهب إلى الاحتجاج به المالكية ولم يعتبره الحنفية أصلاً من أصولهم وإن كانوا يأخذون به ضمناً، وقول الصحابي الذي تقدم بيان اختلافهم فيه، وعمل أهل المدينة الذي ذهب إلى اعتباره المالكية دون غيرهم، حتى إنهم قدموه على القياس، وغير ذلك من الأصول الكثيرة التي اختلفوا على الاحتجاج بها أو شروط ذلك الاحتجاج وحدوده.
7- اختلاف بيئات الفقهاء وعصورهم، فقد كان لذلك أثر كبير في اختلافهم في كثير من الأحكام والفروع، حتى إن الفقيه الواحد كان يرجع عن كثير من أقواله إلى أقوال أخرى إذا تعرض لبيئة جديدة تخالف البيئة التي كان فيها، ومن ذلك ما حدث للإمام الشافعي بعد مغادرته بغداد إلى مصر، فقد عدل عن كثير من آراءه الماضية التي استقر عليها مذهبه في بغداد، وقد كثر هذا العدول حتى عد ذلك مذهباً جديداً له، ومنها عدول الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه عن كثير من الآراء الفقهية نتيجة احتكاكه بالناس ومعرفته بأحوالهم، ومنها مخالفة الصاحبين أبي يوسف ومحمد لأبي حنيفة في كثير من المسائل الفقهية مخالفة قائمة على أساس تغير الزمان، حتى إنهما نصا في كثير منها على أن الإمام لو كان معهما في عصرهما لرجع عن قوله إلى قولهما، من ذلك مثلاً خيار الرؤية، فقد ذهب الإمام إلى أن رؤية المشتري لظاهر غرف الدار كاف لإسقاط خيار الرؤية الثابت له فيها، وذهب الصاحبان إلى أن خيار الرؤية لا يسقط بتلك الرؤية الظاهرة، ومناط الاختلاف بينهم أن الدور كانت في عهد الإمام تسير على نسق واحد تقريباً، فكانت رؤية الغرف من الظاهر دالة غالباً على معرفة ما في داخلها، ولكن الأمر تغير في عهد الصاحبين، وبدأ الناس يتفنون في التنسيق فكان ذلك مناطا لسقوط خيار الرؤية، فلما كان العلم بما في داخل الدار متوفراً بالرؤية الظاهرية في زمن أبي حنيفة سقط بها خيار الرؤية عنده، ولما لم يعد كذلك في زمن الصاحبين أفتيا بعدم سقوطه بها.
ومن ذلك أيضاً اختلاف الفقهاء في الشروط المعتبرة في الكفاءة في الزواج، فقد ذهب أبو حنيفة إلى أن الكفاءة معتبرة في خمس صفات هي: الحرية، والنسب، والمال، والدين، وإسلام الآباء، وذهب محمد إلى أن الكفاءة في الدين والتقوى ليست شرطاً، وذهب أبو يوسف إلى أن الكفاءة معتبرة في كل تلك الصفات ويضاف إليها الحرفة.
وذهب الشافعية إلى أن الكفاءة معتبرة في خمس صفات، هي: السلامة من العيوب، والحرية، والنسب، والعفة، وهي: التدين والصلاح والبعد عما لا يحل، والحرفة.
وذهب الحنبلية إلى أن الصفات المعتبرة في الكفاءة خمس، هي: الدين، والنسب، والحرية، والصناعة، واليسار، وفي رواية اثنتان فقط هما: الدين والنسب لا غير،
أما المالكية، فلم يعتبروا من الكفاءة إلا الدين، والسلامة من العيوب، والحرية في قول.
وهذا الاختلاف راجع إلى اختلاف العصور والبيئات التي عاشوا فيها، وهو علامة صحِّيَّة على مرونة نصوص التشريع الإسلامي، وأخذها بمبدأ قابلية تغير الأحكام بتغير الأزمان.
ولكن ليس معنى هذا التحلل من كل النصوص الشرعية وفقاً لهذه القاعدة، فان لهذه القاعدة ضوابط كثيرة توفر لها الحماية من النزول إلى مستوى العبث والتلاعب بالأحكام، وقد نص الفقهاء على هذه القواعد بدقة بالغة، وأحاطوها بسياج منيع من القيود والشروط.
هذه هي أهم أساليب الاختلاف بين الفقهاء أوجزتها في سبع نقاط، وضربت بعض الأمثلة لها لتزيدها وضوحاً وجلاء، وليطلع الدارس من خلالها على مناط الاختلاف بين الفقهاء في فروع هذه الشريعة، وأصالته ودقته.
رد شبهات:
قدمنا في أول البحث أن كثيراً من الناس اتهم الشريعة الإسلامية بالتناقض والتخلخل وعدم الصلاحية للخلود والبقاء، استناداً إلى ما ابتنيت عليه من الخلافات المذهبية الكثيرة، حتى إنك لا تكاد تجد حكما واحدا متفقاً عليه بينهم ـ على حد قولهم ـ.
والآن بعد أن استعرضنا مواطن الاختلاف بين الفقهاء وأسبابه، نتعرض لتحليل هذه الشبهات والرد عليها، ونقدم لذلك نبذة نلقي فيها الضوء على طبيعة أسباب الاختلاف المتقدمة، فهي:
1- أسباب ترجع إلى طبيعة اللغة العربية وأساليبها، وطرق دلالة اللفظ فيها على المعنى، وهذا مالا دخل للفقهاء الذين أقاموا صرح فقه هذه الشريعة فيه أبداً، إذ إن اللغة العربية نفسها تحتوي هذه الخلافات الفقهية وتحتملها، فان في اللغة العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمشترك والمتشابه، وفيها الحقيقة والمجاز وغير ذلك، ولكل قسم ونوع من هذه الأنواع وهذه الأساليب دلالة خاصة على المعنى المراد من لفظه، فبعضها تعتبر دلالته على معناه قطعية لا مثار فيها للخلافات، وهو ما اتفقت الأنظار الفقهية فيه من غير خلاف، وبعضها ظني الدلالة على معناه، بمعنى أنه يحتمل المعنى المتبادر منه ويحتمل معان أخرى إلى جانب هذا المعنى، وقد تكون هذه المعاني متساوية في قوة دلالة اللفظ فيها على المعنى أو تفاوته، وطبعي أمام هذه الاحتمالات كلها أن تختلف الأنظار الفقهية وتتعدد الأفهام البشرية، ويكفينا دليلا على صدق نيتهم في بذل الجهد كاملا في فهم هذه النصوص أنهم اتفقوا فيما يعتبر قطعي الدلالة ولم يختلفوا فيه، فهذه أصول العقائد وأصول العبادات تثبت عن طريق القطع فلم يختلف فيها أحد من الفقهاء، من ذلك فرضية الصلاة والزكاة والحج، ، ومن ذلك أيضاً صفات الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وغير ذلك من الأحكام الكثيرة التي ثبتت بطرق قاطعة، وإذا كان الأمر كذلك فاللغة العربية هنا هي مشار الاختلاف ولا دخل للفقهاء فيه، ولا عيب فيهم إذا ما اختلفوا في بعض الأحكام تبعاً لذلك، بل العيب فيهم لو لم يختلفوا، ولا عيب في اللغة العربية إن كانت مثاراً لهذا الاختلاف أيضاً، لأن شأنها في ذلك شأن لغات العالم كله، فان هذا التعدد في قوة دلالة اللفظ على المعنى موجود في كل لغات العالم دون استثناء، هذا إذا لم تكن اللغة العربية أدق تلك اللغات كلها وأصدقها في التعبير والدلالة، بل هو الصحيح بشهادة الكتاب الأجانب أنفسهم وصدق من قال: (والفضل ما شهدت به الأعداء).
2- أسباب ترجع إلى طبيعة النفس البشرية: من ذلك مثلا اختلافهم على قبول رواية بعض الرواة أو عدم قبولهم، فإن ذلك أمر لا دخل للنزعات الشخصية فيه أبداً، بل هو أمر واقعي يفرض نفسه، فإن السنة الشريفة الشريفة كلها أو جلها رويت لنا مشافهة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الرجال، وطبعي أن تختلف الأنظار في توثيقهم عدالة وجرحا ونسياناً وحفظاً وغير ذلك من طرق الجرح والتعديل، فيكون الراوي الفلاني ثقة عند فلان قليل الثقة في نظر غيره، فإن النفس البشرية هذا ميزانها وذلك هو جل طاقتها، وحسب الفقيه إن يبذل الجهد كاملاً في الوصول إلى الحق في التجريح والتعديل مخلصاً لله قصده، وإننا من تقصي تاريخ هؤلاء العلماء نستدل على صدقهم وحسن نيتهم في التجريح والتعديل، وهذه كتب التاريخ خير شاهد على ذلك.
3- ومن ذلك أيضاً اختلاف أفهامهم وتغاير نظراتهم للأمور في حدود ما فطرت عليه النفس البشرية، فإن الله تعالى خلق هذه النفوس من جنس واحد هو التراب، ولكنه فاضل بينهما في العقول والأفهام، وهذا أمر لا ينكره أحد، وإن كان لهذا التفاوت في الأفهام حدود يجب أن يقف عندها فلا يتعداها إلى غيرها وإلا اعتبر شذوذاً وخروجا عما تحتمله النفس الإنسانية أو تسيغه، فالناس في الحدود العامة التي تسيغها وتحتملها هذه النفس يختلفون، ولا يجوز أن يعتبر اختلافهم هذا مطعنا في إنسانيتهم أو أداة للنيل من مدى الوثوق بهم، لأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها، قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف:32)، أي إن سنن الكون تتطلب هذا الاختلاف وتفرضه، ولو رجعنا إلى ما تغايرت فيه أفهام الفقهاء لما وجدنا فيها خروجاً عن الحد الذي تقضي به وتفرضه الطبيعة الإنسانية.
ولذلك، ولما كانت تلك هي حدود النفس الإنسانية وطاقاتها ولا يمكن أن ترقى إلى ما هو أعلى منه، فإنه يكفي الفقهاء فخرا أنهم نماذج إنسانية من الطراز الأول في صدقهم وإخلاصهم للحق وقوة فهمهم وعلو مداركهم ودقة نظرتهم، والتاريخ شاهد حق على كل ذلك.
4- ومنه مرونة بعض الأحكام، بحيث تكون قابلة للتغير بتغير العصور والأزمان، لأن الشرائع إنما وجدت لحماية مصالح البشرية، وهذه المصالح لا بد متطورة ومتغيرة، فما يعتبر مصلحة في زمن قد لا يعد كذلك في زمن آخر، وما يعتبر حسنا في أمة قد يعتبر سيئاً في أمة أخرى، ولما كانت الشريعة الإسلامية شريعة البشرية من يوم أرسل الله بها صلى الله عليه وسلم إلى يوم يرث الله الأرض ومن عليها، كان لابد لها ـ لتتضمن وتؤمن مصالح البشر دائماً ـ من أن تكون نصوصها مرنة تحتمل هذا التطور وتواكبه، ولكن ليس معنى هذا أن عليها أن تواكب كل تحول وتوافق كل تغير، فقد يكون التغير إلى أدنى، وقد يكون التغير في غير الخط الذي رسمته هذه الشريعة مما يأباه الله تعالى، ولذلك كانت هذه النصوص مرنة في حدود لا يمكن أن تتعداها، ومحتملة ولكن للمصالح التي رضي الله عنها، ثم إن هنالك من المصالح ما يعتبر ثابتاً غير قابل للتغير، أو أن الشريعة الإسلامية لا ترضى بتغيره، وهذا هو الأهم من أحكام الشريعة، من ذلك مثلاً الكبائر والفرائض، فإنها أحكام لا تقبل التغير، ولذلك كانت النصوص فيها قاطعة واضحة لا تحتمل التبديل والتغير في هذه الأحكام، كحرمة الزنى والسرقة، فإنهما من الكبائر التي ستبقى ويجب أن تبقى كذلك في كل العصور، ومن ذلك فرضية الصلاة والزكاة والحج والصوم وغيرها، فإنها من الفرائض التي لا تقبل التغيير والتبديل، ولا يجوز أن تقبله بحال، أما الأمور التي تحتمل ذلك التغير بتغير الزمان والمكان، فإنما هي تلك الأحكام التي بنيت على العرف أو استندت في تحديدها وتقييدها إلى العرف، فإنها هي التي تتبدل بتبدل الزمان، ومن ذلك كثير من الأحكام المدنية والمالية، كالشروط العقدية، والكفاءة في الزواج، وغير ذلك مما هو مبين في كتب الفقه وأصوله، وطبيعي أمام هذا الاحتمال لتطور الأحكام الذي تتطلبه طبيعة خلود هذه الشريعة أن تختلف أفهام الفقهاء وأنظارهم تبعاً لاختلاف بيئاتهم وأزمانهم كما تقدم.
من هذا التحليل السريع لأسباب اختلاف الفقهاء نلاحظ أنه لا يوجد سبب واحد منه يرجع إلى شهوة فقيه أو ميوله الخاصة أو مصلحته الشخصية، وأنها كلها أسباب موضوعية تقوم وتنشأ أصلاً على أسس سليمة وقواعد قوية، ولا يمكن إلا أن يكون الأمر كذلك.
ولرد شبهات المغرضين المتقدمة يمكن أن نقول بإيجاز:
1ـ إن هذه الخلافات ليست شخصية حتى تكون مطعناً من المطاعن كما تقدم.
2ـ إن بعض هذه الخلافات كان نتيجة تلبية الشريعة لداعي التطور الاجتماعي وتأمين الحق لكل البشر، وليس مظهراً من مظاهر التخلخل، لأن هذه الخلافات قائمة على أسس قويمة موضوعية كما تقدم، وما كان كذلك لا يكون تخلخلاً بطبيعة الحال، بل هو بحق ثروة تشريعية تعض عليها الأمة الإسلامية بالنواجز، وتعدها كنزاً تباهي به الأمم كلها، لا سيما أن هذه الخلافات إنما كانت في فروع الشريعة لا في أصولها، لأن الأصول العامة التعبدية منها والاعتقادية والتشريعية واحدة في كل المذاهب الإسلامية المعتمدة، ولا خلاف فيها في شيء، وما تلك الاختلافات إلا في ميدان التطبيق والتفريع على هذه الأصول، مما سهل على الأمة التمسك بدينها والعمل بمنهاج ربها سبحانه، إذ أباح أن تسلك أي الطرق التي استنبطها الأئمة المجتهدون، وأن تأخذ بأي الأقوال التي قالوها لا حرج عليهم أن يدعوا قول فلان إلى قول فلان، ما دام كل منهما يسير في اجتهاده على منهج واضح وأسس مشروعة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، كما روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوله: (ما أحب أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يختلفون، لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم لكان سنة) وقد علق الإمام الشاطبي على هذا القول بقوله: (ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق، فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم، فكان فتح باب للدخول في هذه الرحمة)، كما أن الأستاذ الشيخ محمد أبا زهرة يعلق على قول الشاطبي هذا بقوله: (ولقد كان اختلاف الصحابة في الفروع رائده الإخلاص، لذا لم يكن بينهم تنازع في الفقه ولا تعصب، بل طلب للحقيقة وبحث عن الصواب من أي ناحية أخذ، ومن أي جهة استبان، وأن ذلك الاختلاف كان فيه شحذ للأذهان واستخراج للأحكام من القرآن واستنباط قانون شرعي عام وإن لم يكن مسطورا ..، ونحن لا نرى الخلاف في الفروع إلا ثمرات ناضجة لما بثه القرآن الكريم والسنة النبوية في نفوس الناس من الحث على البحث بعقولهم وتدبير شؤونهم بالشورى ومبادلة الرأي، مستضيئين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومستظلين بأحكام القرآن).
هذا ولا بد بعد ذكر ما تقدم من أقوال أئمة الشريعة الإسلامية من الانتباه إلى أن الكثيرين من علماء القانون والحقوق الوضعية في العصر الحديث يتباهون ويفخرون بما انحدر إليهم من تراث تشريعي ضخم عن الرومان يضم كثيرا من الآراء والنظريات المختلفة التي نظمها الفقهاء والشراح في العهد الروماني، ولا يعدون بحال تلك الآراء المختلفة والنظريات المتباينة المتناقضة أحيانا من النواقص التي يتمنون أن لا تكون في ميراثهم القانوني، ولا مظهرا من مظاهر التناقض أو التخلف أو عدم الصلاحية للبقاء والخلود ، مع أن الفقه الروماني على سعته هذه التي يفخرون بها لا يعد إلا نذرا يسيرا إذا ما قارناه بما يحتويه فقهنا العظيم من نظريات تشريعية، وآراء ومذاهب فقهية، وفروع متعددة، وثروة تشريعية ضخمة.
3- إن الله تعالى – فضلا منه وكرما – لم يحتم علينا الوصول إلى الحق ومعرفة حكمه الأصلي في كل مسألة من المسائل التي شرعها لنا، لأن هذا فوق طاقتنا، وفيه حرج كبير علينا، والحرج مرفوع في الشريعة الإسلامية بنصوص تشريعية كثيرة، ولكن المفروض علينا هو بذل الجهد الكامل للوصول إلى الحق، ولذلك وردت النصوص كلها تدل على أن المجتهد إذا أصاب كان له أجران، وإذا أخطأ كان له أجرا واحدا، وطبعي أن المجتهد المخطئ لم يصب حكم الله الأصلي، لأن الحق لا يتعدد كما يذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء، وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يكون المصيب من المجتهدين واحدا، والباقون الذين يخالفونه مخطئين، ولكن هذا الخطأ مرفوع في الشريعة، وأن ما توصلوا إليه من أحكام جائز تقليده والعمل به رخصة من الشارع، وذلك ضرورة أننا لم نستطيع أن نجزم بالحق الذي قضى به الله تعالى في سابق علمه وإرادته، وبذلك يكون ذلك الاختلاف مأذونا به من الشارع ومرضيا عنه منه، ولا يجوز بحال أن يعد مظهرا من مظاهر التخلخل، بل هو بحق مظهر من مظاهر الواقعية والاعتراف بالقدرات البشرية المحدودة التي تقرها السلطة الإلهية وتباركها، فتجعل للمخطئ من المجتهدين أجرا رغم خطئه وعدم قدرته على الوصول إلى الحق، فحسبه في ذلك أنه بذل جهده الذي منَّ الله تعالى به عليه كاملا، ولا يمكن أن يقال: إن معنى ذلك أن كل إنسان جاهل يعمل رأيه في فهم النصوص ثم يقول هذا جهدي وأنا مأجور عليه فيأتي من الأحكام بما لم تقره شريعة ولا عقل، إذ الجواب على ذلك واضح وبيِّن لا لبس فيه، وهو أن الله أمرنا ببذل الجهد كاملا، وأدار الثواب والعقاب عليه، ولا يعد الجهد مبذولا كاملا إلا إذا حصل الإنسان الآلة التي بها يستطيع فهم الأحكام من النصوص، والآلة هذه هي ما يسميه الفقهاء والأصوليون بملكة الاجتهاد وشروطه، فما لم يحصل الإنسان هذه الآلة فهو مقصر ولم يبذل الجهد، وبذلك لا يدخل في زمرة المأجورين.
4- إن الاختلاف في فهم النصوص التشريعية لا بد منه نظرا لطبيعة تلك النصوص وما تتضمنه من احتمالات ومرونة تقتضيها طبيعة التشريع، فإنه إن كان من الأفضل أن تكون الأحكام التفصيلية والقواعد الجزئية واضحة ومحددة المعنى بصورة لا تقبل الاختلاف في فهمها، فإنه من الأفضل – دون شك – في النصوص التشريعية الدستورية أن تكون مرنة محتملة لعدة معان في حدود ما تقضي به الحاجة والضرورة، ليمكن أن تصاغ منها تلك المواد الجزئية وتلك الأحكام الفرعية على وفق الحاجة المتغيرة من زمن إلى زمن ومن بيئة إلى بيئة، ولو كانت تلك النصوص محددة بحيث لا تقبل الاختلاف ولا تحتمله، لكان الناس في عسر شديد وفي ضيق، ولما أمكن الخلود لمثل هذه القواعد والأسس.
********
خاتمـــة:
بعد ذلك العرض الموجز لا بد أن ننتهي إلى أن ذلك الاختلاف بين الفقهاء في فهم النصوص وتفصيل الأحكام إنما هو مَعلم من معالم خلود هذه الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وليس عيبا فيها مطلقا، بل العيب فيها أن لا تكون كذلك، لأن هذه المرونة التي تتمتع بها نصوص التشريع الإسلامي التي هي السبب الأول لاختلاف الفقهاء ضرورة حتمية لكل تشريع أريد له أن يدوم ويعيش في كل عصر ومصر، يؤمن العدالة والحق واليسر بين الناس جميعا على أسس موضوعية بعيدة عن النزوات والشهوات، ولا مكان مطلقا لما يطلقه بعض المغرضين أو الجاهلين بطبيعة التشريع الإسلامي وخصائصه من تهم الشريعة منها براء، ولمَ لا، فهي تنزيل من حكيم حميد يعلم السر وأخفى، خلق هذه البشرية وأنزل لها من الأحكام ما يُصلح شأنها ويقيم العدل في أرجائها، ويؤمن مصالحها على أحسن وجه وأكمل نظام، رحمة بها وحبا فيها وتخفيفا عنها، لتكون بحق خير أمة أخرجت للناس.
ــــــــــــــ
ــــ