المبــــاح
تعريفـــه:
باح يبوح في اللغة من باب قال بمعنى ظهر، وهو ثلاثي يتعدى بالهمزة، فيقال: أباح له المال أي أذن له بأخذه، كما يتعدى بحرف الجر، فيقال: باح به أي أظهره لغيره[1].
والمباح في اصطلاح الأصوليين: (ما خيَّر الشارع فيه المكلف بين الفعل والترك)، أو هو (ما لا يعاقب تاركه ولا يثاب فاعله) [2]، ويقال له الحلال أو الجائز أحيانا، وهذا التمييز إنما ثبت عن الشارع لتساوي جانبي النفع والضرر في الشيء، ذلك أن الله تعالى لم يأمرنا إلا بما فيه نفع غالب، كالصلاة والصوم والوفاء بالعقود وسائر الواجبات الأخرى، ولم ينهنا عن شيء إلا فيه ضرر غالب، كالنهي عن الخمر والميسر ولحم الخنزير والكذب وسوء الأمانة وسائر المنهيات الأخرى، فأما ما يتساوى فيه النفع والضرر، كأنواع المأكولات وأنواع اللعب غير المؤذي للخُلُق والبدن وغيرها فإنه مباح، ذلك أن القسمة العقلية في الشيء تقتضيه أن يكون أحد هذه الأشياء الثلاثة: أن يكون نفعه غالبا، فيكون واجبا أو مندوبا، أو ضرره غالبا فيكون حراما أو مكروها، أو يتساوى نفعه وضرره فيكون مباحا.
طرق ثبوت الإباحــة:
تثبت الإباحة بطرق ثلاثة، هي:
بنفي الإثم عن الشيء، مثل قوله تعالى: (ومن تعجل في يومين فلا إثم عليه) وقوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)، وكذلك ما في معنى نفي الإثم من نفي الجُناح أو غيره، كقوله تعالى: (ولا جناح عليها فيما افتدت به) وقوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا...).
بالنص على الحل دون الأمر بالفعل، مثل قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم...) وقوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم).
بترك النص على الحكم مطلقا إن أمرا أو نهيا، مثل المشي في الشارع العام، ولبس أنواع اللباس المتعددة التي لم يرد فيها نهي عن الشارع[3].
وينبغي هنا الانتباه إلى أن الإباحة إنما هي مقصورة على الجزء فقط دون الكل، إذ الكل لا يخلو من الأحكام الأربعة، وهي: الوجوب والندب والكراهة والتحريم فقط، وبذلك يكون المباح خادما لأولئك الأقسام الأربعة ومكملا لها.
فهو إما خادم للأمر المطلوب الفعل، واجبا كان أو مندوبا، أو خادم لما هو المطلوب الترك حراما كان أو مكروها.
فمثال الأول المباح بالجزء المطلوب الفعل بالكل التمتع بالمأكولات الحلال والملبوسات الحلال وغيرها، فإنه مباح من حيث أجزاء الطعام واللباس، أما من حيث كله، فهو واجب أو مندوب بحسب الضرورة إليه، حفاظا على النفس ودفع الحرج والضرر عنها.
ومثال الثاني المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل التمتع باللذائذ وأنواع اللعب الحلال، والسماع لتغريد الحمام وقرض الشعر وغيرها، فإنها مباحة في أجزائها، أي في بعض الأوقات فقط، أما قضاء الوقت كله بها فحرام أو مكروه، إذ فيه تفويت للواجبات والمأمورات.
وقد توسع الشاطبي رحمه الله تعالى في بحث ذلك، وأفاض فيه إفاضة واسعة في موافقاته، وآخر ما قاله في ذلك: (وتلخص أن كل مباح ليس بمباح بإطلاق، وإنما هو مباح بالجزء خاصة، أو بالكل، فهو إما مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، فإن قيل: أفلا يكون هذا التقرير نقضا لما تقدم من أن المباح هو المتساوي الطرفين، فالجواب أن لا، لأن ذلك الذي تقدم هو من حيث النظر إليه في نفسه من غير اعتبار أمر خارج، وهذا النظر من حيث اعتباره بالأمور الخارجة عنه، فإذا نظرت إليه في نفسه، فهو الذي سمي هنا المباح بالجزء، وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة. فهو المسمى بالمطلوب بالكل) [4].
هل الإباحة من المأمور به؟
اختلف الفقهاء في التكييف الفقهي للإباحة، أهي من المأمور به أو لا، فذهب إلى الأول الكعبي من المعتزلة، وقال: إن المباح واجب ومأمور به وليس مخيرا فيه، فيكون في فعله الثواب وفي تركه العقاب، وذهب إلى الثاني جماهير الأصوليين والفقهاء، وقالوا: المباح نوع خاص مستقل من أنواع الحكم.
الأدلــــة[5]:
أ- استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة منها:
الأمر طلب، والطلب يستلزم ترجح جانب الفعل على جانب الترك، والمباح لا ترجح فيه، والمفروض فيه المساواة بين جانبي الفعل والترك، فلا يكون مأمورا به لذلك.
الإجماع منعقد قبل الكعبي على أن الحكم ينقسم إلى خمسة أقسام، منها المباح، إذ أنه لم يعلم مخالف لذلك قبله، والإجماع حجة قاطعة كما تقدم.
ب- واستدل الكعبي لمذهبه بأدلة منها:
1- بأن الاشتغال بالمباح إنما هو انصراف وترك لحرام، وكل ترك لحرام يعد واجبا للتقابل بين الواجب والمحرم، والاشتغال بالطعام مثلا إنما هو انصراف عن السرقة والزنا وغير ذلك من أنواع المحرمات الأخرى، بل إن الامتناع عن الحركة نفسه يعتبر طريقا لترك السرقة، والامتناع مباح في أصله، ولكنه لما صار طريقا لترك المحرم المأمور به من الشارع أصبح واجبا، لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب.
وكذلك أنواع المباحات الأخرى، فإنها طريق للوصول إلى الواجبات، فكانت واجبات لذلك، ولا يمنع أن تكون واجبات على التخير، فإن الأكل كما يكون طريقا للامتناع عن السرقة يكون طريقا للامتناع عن الزنا وغيرها.
2- بأن الإباحة تكليف، والتكليف من علامات الواجب، لأنه لا كلفة إلا به.
المناقشــة:
ناقش الجمهور أدلة الكعبي كما ناقش الكعبي أدلة الجمهور على الوجه التالي:
أ- ناقش الجمهور دليل الكعبي الأول بردود عدة منها:
1- الإجماع انعقد على اعتبار المباح نوعا خامسا للحكم على النحو المتقدم، والإجماع حجة قاطعة لا تجوز مخالفتها، لكن الكعبي أجاب عن ذلك بأن الإجماع هنا سكوتي، وهو ظني عند الجمهور، أما دليله هو في أن كل مباح هو سبيل لتحقيق واجب فهو قطعي، فيكون مقدما عليه، ثم إن إمكان الجمع بين ما ذهب إليه وبين الإجماع ممكن، وذلك بحمل الإجماع على النظر لذات الفعل من غير نظر إلى ما يستلزمه من ترك الحرام. فلا يكون بينهما مصادمة لذلك، إذ لا يمتنع على الشيء أن يكون مباحا لذاته وواجبا لما يستلزمه بالاتفاق، لما تقدم من جواز اعتبار الشيء مأمورا به ومنهيا عنه في وقت واحد إذا تعدد الجهة.
2- وناقشوه بقولهم: إنا لا نسلم بأن الواجب لا يتم إلا به، ذلك أنه غير معين، فإن ترك الزنا كما يتم بالأكل يتم بالشرب والنوم وغيرها، فلم يتعين واحد لتحققه، وكذلك سائر الواجبات الأخرى.
لكن هذا الجواب -كما يصفه العلامة العضد- ضعيف، لأن فيه تسليما بأن الواجب أحد تلك المباحات، لأن ما يعمل يعد واجبا قطعا، وغاية ما في الأمر أنه يصبح واجبا مخيرا لا معينا، وهذا لا يضره في شيء، لأنه يدعي أصل الوجوب، وهو مسلم على هذا الرد.
3- بأنه يلزم من قوله بإيجاب المباح حرمة الصلاة إذا ترك بها واجب آخر، لأنها تكون سببا لترك الواجب، وهو محرم، ومعلوم أن سبب الحرام حرام.
لكن هذا الجواب ضعيف أيضا، لاتفاق الجمهور على جواز تعلق الوجوب والحرمة في الشيء الواحد كما تقدم، فلا يمنع أن تكون الصلاة واجبة وحراما في وقت واحد باعتبار تعدد الجهة والإضافة.
والجواب الحق عندي: الذي تصح إقامته ضد الكعبي، هو عدم التسليم بأن ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا برابطة عقلية أو عادية، وقد تقدم مزيد بيان لذلك في مبحث مقدمة الواجب.
كما ناقش الجمهور دليل الكعبي الثاني، بأن التكليف هو طلب ما فيه كلفة، والمباح تخيير، ولا كلفة مع التخيير، إلا أن يحمل التكليف على اعتقاد الإباحة، إذ هي مأمور بها، والمأمور به تكليف بالاتفاق، لكن الخلاف ليس في اعتقاد الإباحة، بل بفعل المباح، فكان استدلالا له على أنه تكليف في غير موضع الخلاف، فلا يعتد به لذلك[6].
الترجيـــح:
من استعراض ما تقدم من الأدلة والمناقشة يترجح لنا قول الجمهور في اعتبار المباح صنفا خامسا من أصناف الحكم، وأنه غير الواجب، لما قدموه من الاحتجاج بالإجماع، وبعدم التسليم باعتباره من أنواع التكليف، وبعدم التسليم باعتبار ما أدى إلى الواجب واجب إذا كانت الرابطة عقلية أو عادية. والله تعالى أعلم.
هل المباح حكم شرعــي؟
مع التسليم باعتبار المباح حكما اختلف الأصوليون في اعتباره حكما شرعيا أو عقليا، فذهب جمهور الأصوليون إلى اعتباره حكما شرعيا لا يثبت إلا بدليل شرعي، وذهب بعض المعتزلة إلى اعتباره حكما عقليا يثبته العقل ولو لم يرد به الشرع، وخلاف المعتزلة هذا ليس مقصورا على بحث المباح فقط، بل هو من أنواع الحكم جميعها، وهو من بحوث الحاكم، ولذلك فإننا سوف نحيل عليه في تفصيلها[7].
حكم الإباحـــة:
حكم الإباحة كما هو واضح من تعريفها عدم الإثابة على الفعل وعدم المعاقبة على الترك، وهذا لا يمنع من أن يتغير حكم المباح بتغير الظروف والقرائن التي تحف به، فينقلب إلى واجب أو مندوب أو حرام أو مكروه، كالأكل، يعتبر مباحا في الحالات العادية، ويعتبر واجبا أو مندوبا عند الحاجة الماسة إليه، كما يعتبر حراما إذا كان غير مملوك للآكل، أو مكروها إذا كان غير محتاج إليه.
وهذا كله بناء على مذهب الجمهور، أما الكعبي من المعتزلة، فحكم المباح عنده حكم الواجب، من الإثابة على الفعل والمعاقبة على الترك، وقد تقدم رد قوله وتضعيفه.
[1] انظر المصباح المنير – مادة (بوح).
[2] انظر أبا زهرة: ص 47.
[3] انظر الموافقات 1/130، والمستصفى: 1/75، وفواتح الرحموت 1/112.
[4] انظر الموافقات 1/142-143.
[5] انظر الموافقات 1/124، وما بعدها، والعضد 2/6 وما بعدها وفواتح الرحموت 1/113 وما بعدها.
[6] انظر الأدلة والمناقشة في العضد 1/6، وفواتح الرحموت 1/112-1/113 وما بعدها.
[7] انظر فواتح الرحموت 1/112 وما بعدها، والمستصفى 1/75.