مقدمة الواجــب [1]
اختلف العلماء في التعبير عن هذا الموضوع، فمنهم من عبر عنه بمقدمة الواجب المطلق، ومنهم من عبر عنه بما لا يتم الواجب المطلق إلا به، وبعضهم عبر عنه بالمقدور الذي لا يتم الواجب المطلق إلا به.
وهذه التعبيرات كلها –على اختلاف ألفاظها- ترجع إلى معنى واحد، هو: (أن ما لا يتم وجود الواجب المطلق إلا به فهو واجب بوجوبه).
ولتحرير محل اختلاف الفقهاء على حكم مقدمة الواجب ودليله نعرض لأقسامها وتشعباتها كما يلي:
أقسام مقدمة الواجب:
تنقسم مقدمة الواجب من حيثيات مختلفة إلى أقسام عدة، هي:
1 - من حيث نوع الأمر المرتبط بها:
فإنها تنقسم إلى قسمين: مقدمة وجوب ومقدمة وجود.
أ- مقدمة وجوب: وهي المقدمة التي يتعلق بها وجوب الماهية، أي شغل الذمة بها سببا كانت أو شرطا، كدخول الوقت بالنسبة لوجوب الصلاة، فإنه سبب لوجوبها في الذمة، أي شغل الذمة بها. وكحولان الحول بالنسبة لوجوب الزكاة، فإنه شرط لوجوبها على المكلف.
ب - مقدمة الوجود: وهي المقدمة التي يتعلق بها صحة وجود الشيء، أي صحة تفريغ الذمة من الواجب، سواء كانت شرطا أم سببا، وسواء تعلق بها وجوب الشيء إلى جانب وجوده أولا، مثل الوضوء للصلاة، فإنه مقدمة لوجود الصلاة، ولا علاقة له بوجوبها، ومثل العدد للجمعة –عند الشافعية– فإنه مقدمة لوجوب الصلاة ووجودها معا، بمعنى أنه لو لم يوجد لما وجبت الصلاة في الذمة، ولما صحت لو أديت بدونه.
2 – من حيث نوع تعلق الواجب بها:
فإنها تنقسم إلى قسمين، وكل من هذين القسمين ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ - فهي أما أن تكون سببا لوجوب الواجب أو وجوده، أو تكون شرطا لوجوبه أو وجوده، وكل من السبب والشرط يتفرع إلى عادى وعقلي وشرعي، على الشكل التالــي:
- مقدمة هي سبب لوجود أو وجوب الواجب، بمعنى أن الواجب وجوبا أو صحة متوقف عليها وجودا وعدما، فيلزم من وجودها وجوده وصحته، ومن عدمها عدمهما، لأن ذلك هو السبب على ما سيأتي في الحكم الوضعي، وهي على ثلاثة أنواع:
أولا) مقدمة هي سبب شرعي لوجوب أو وجود الواجب: أي إن العلاقة الرابطة فيها بين السبب والمسبب ناتجة عن حكم الشرع، مثل دخول الوقت بالنسبة لوجوب الصلاة، فإنه سبب له بحكم الشرع.
ثانيا) مقدمة هي سبب عقلي لوجوب أو وجود الواجب: أي إن العلاقة الرابطة فيها بين السبب والمسبب ناتجة عن حكم العقل لا الشرع، مثل النظر بالنسبة للعلم، فإنه سبب لا بد منه له، وقد علم ذلك بحكم العقل.
ثالثا) مقدمة هي سبب عادي للواجب: أي إن العلاقة الرابطة فيها بين المسبب وسببه ناتجة عن حكم العادة والعرف، مثل حز الرقبة بالنسبة للقتل والذبح، فإن العادة هي التي قضت بسببيته للذبح والقتل.
ب- أو تكون شرطا لوجود الواجب أو وجوبه، بمعنى أن الواجب متوقف عليها انعداما لا وجودا، فيلزم من انعدامها انعدامه ولا يلزم من وجودها وجوده، لأن ذلك هو حد الشرط على ما سيأتي، وهي على ثلاثة أنواع أيضا:
أولا) مقدمة هي شرط شرعي للواجب، أي إن العلاقة فيها بين الشرط ومشروطه ناتجة عن حكم الشرع، مثل الوضوء للصلاة، فإن الشرع هو الذي قضى باشتراطه لصحة الصلاة ووجودها.
ثانيا) مقدمة هي شرط عقلي للواجب، أي إن العلاقة فيها بين الشرط ومشروطه ناتجة عن حكم العقل، مثل ترك ضد الواجب لحصوله، فإن العقل هو الذي اقتضى شرطيته للواجب.
ثالثا) مقدمة هي شرط عادي للواجب، أي إن العلاقة فيها بين الشرط ومشروطه ناتجة عن حكم العادة والعرف، مثل غسل جزء من شعر الرأس لإتمام غسل الوجه، فإن العادة هي التي قضت بشرطيته لإتمام غسل الوجه.
3 – من حيث كون الواجب المتعلق بها مطلقا أو مقيدا:
فإنها تنقسم إلى قسمين، همـا:
أولا) مقدمة الواجب المطلق، وهي المقدمة التي تعد مقدمة لوجود الشيء فقط، ولا علاقة لها بوجوبه، مثل الضوء للصلاة، فإنه مقدمة لوجودها، ولا علاقة له بالوجوب، وسمي الواجب مطلقا هنا لعدم تقيده بمقدمة وجوب.
ثانيا) مقدمة الواجب المقيد، وهي المقدمة التي تعتبر مقدمة لوجوب الشيء ووجوده معا، أي هي المقدمة التي توقف فيها وجوب الشيء على ما توقف عليه وجوده، مثل العدد لصلاة الجمعة- عند الشافعية- فإنه مقدمة للوجوب والوجود كما تقدم، وكذلك دخول الوقت، والخلو عن الحيض والنفاس، فإنها مقدمات لوجوب الصلاة ووجودها جميعا.
ومن ذلك يعلم أن الواجب الواحد قد يعتبر مقيدا ومطلقا في الوقت نفسه بالنسبة للمقدمات المرتبطة به، كالصلاة مثلا، فهي واجب مطلق بالنسبة للطهارة من الحدث الأصغر، لأنه لا علاقة له بوجوبها، وهي واجب مقيد بالنسبة لدخول الوقت، فإنه سبب للوجوب وشرط للصحة (الوجود).
بعد هذا التقسيم لمقدمة الواجب نستطيع أن نضبط ونحرر خلاف الفقهاء في حكمها ودليله على الشكل التالي:
حكم مقدمة الواجب ودليله:
اتفق الفقهاء على أن الواجب المقيد لا يلزم من وجوبه وجوب مقدمته، سواء كانت المقدمة شرطا أم سببا، وبالتالي فإن الدليل الدال على وجوب الواجب المقيد لا يدل على وجوب مقدمته، مثل ملك النصاب بالنسبة للزكاة، فإنه مقدمة وجوب لها، ولذلك لا يعد تحصيله واجبا على المكلف بغية وجوب الزكاة عليه، لأن هذه المقدمات ليست إلى المكلف حتى يؤثر بها.
أما مقدمة الواجب المطلق، فقد اتفق الفقهاء على وجوبها خلافا للواجب المقيد، ما دامت مقدورة المكلف، كالطهارة من الحدث الأصغر بالنسبة للصلاة، فإن كانت غير مقدورة للمكلف كالخلو عن الحيض والنفاس بالنسبة للصوم لم تكن واجبة، لأن التكليف بغير المقدور باطل، ولكنهم اختلفوا في دليل إيجابها، أهو دليل الوجوب نفسه أم دليل جديد خارج عنه، وذلك على أربعة مذاهب:
1- المذهب الأول مذهب جمهور الأصوليين: وهو أن الخطاب الدال على وجوب الشيء دال أيضا بطريق الالتزام على وجوب مقدمته، سببا كانت أو شرطا، عاديا كان أو عقليا أو شرعيا، وبذلك يكون الخطاب دالا على شيئين:
1- على الواجب بطريق المطابقة.
2- وعلى مقدمته بطريق الالتزام.
وذلك أن دلالة اللفظ على المعنى تنقسم إلى ثلاثة أقسام: هي:
أ- دلالة مطابقة: وهي دلالة اللفظ على جميع معناه، كدلالة إنسان على الحيوان الناطق، فإنها دالة على كل المعنى الذي وضعت له.
ب - دلالة تضمن: وهي دلالة اللفظ على جزء من معناه، كدلالة إنسان على الحيوان مطلقا، فإنها مقصورة على بعض أفراد المعنى المراد منها.
ج- دلالة التزام: وهي دلالة اللفظ لا على معناه المراد منه لغة، ولكن على لازم معناه، مثل دلالة كلمة إنسان على قابليته للعلم وقابليته للنطق وغيرها.
ومعلوم أن دلالة المطابقة دلالة لفظية، أما دلالة التضمن والالتزام فعقليتان، بمعنى أن اللفظ فيهما لا يقيد معناه المراد منه إلا بواسطة العقل، وعلى ذلك تكون دلالة الخطاب المثبت للواجب على مقدمة الواجب دلالة عقلية لا لفظية.
2- المذهب الثاني: أن الخطاب الدال على وجوب الشيء يدل على وجوب مقدمته إذا كانت سببا فقط، سواء أكان شرعيا أو عقليا أو عاديا، فإذا كانت المقدمة شرطا لم يكن دليل الواجب دالا على وجوبها.
3- المذهب الثالث: أن الخطاب الدال على وجوب الشيء لا يدل على وجوب مقدمته، سواء أكانت سببا أو شرطا، ولكن وجوبها يحتاج ويستند إلى دليل جديد.
4- المذهب الرابع: مذهب ابن الحاجب وإمام الحرمين: وهو أن الخطاب الدال على وجوب الشيء يدل على وجوب مقدمته إذا كانت شرطا شرعيا فحسب، فإذا كانت شرطا عقليا أو عاديا أو كانت سببا لم يدل دليل الواجب على وجوبها[2].
الأدلـــة:
استدل الجمهور لمذهبهم بأن الخطاب الدال على وجوب الواجب لو لم يكن دالا على وجوب شرطه للزم أحد أمور ثلاثة كلها باطلة، وهي[3]:
أ - أن يكون الإيجاب مقصورا على المشروط دون شرطه، وهو بمعنى جواز ترك الشرط مع طلب المشروط، لكن ترك الشرط يفضي إلى ترك المشروط، لأن المشروط لا يحصل بدون شرطه، فكان معناه طلب المشروط لتوجه الخطاب إليه، وعدم طلبه لعدم طلب شرطه. وهو تناقض باطل.
ب - جواز فعل المشروط بدون شرطه، لأن الشرط لم يتعلق به الخطاب، وفعل المشروط دون شرطه باطل، لضرورة جعل الشرط غير شرط، وهو تناقض باطل أيضا.
ج - أن يكون الإنسان مكلفا بالفعل وقت انعدام شرطه، لأن الخطاب ما دام لم يتعلق بالشرط لم يكن للشرط دخل في التكليف بالفعل، والإتيان بالفعل وقت انعدام الشرط محال، ولا قدرة للمكلف عليه ضرورة أن المشروط ينعدم عند انعدام شرطه، فيكون التكليف بالفعل عند انعدام شرطه تكليفا بمحال، وهو باطل شرعا باتفاق الفقهاء.
وإذا ثبتت دلالة الخطاب المتعلق بوجوب الواجب على وجوب شرطه ثبتت دلالته على وجوب سببه من باب أولى، لأن السبب كالشرط من ناحية ارتباط غيره به انعداما، ويزيد السبب عليه قوة من حيث ارتباط غيره به وجودا أيضا، خلافا للشرط، فكان أولى منه في تعلق خطاب الواجب بوجوبه.
وبذلك يسام القول للجمهور على دلالة الخطاب المتعلق بالواجب على مقدمة هذا الواجب سببا كانت المقدمة أو شرطا.
واستدل أصحاب المذهب الثاني بأن السبب أقوى في ارتباطه بالواجب من الشرط، لأن ارتباط السبب به يقوم من وجهتي الوجود والعدم، أما ارتباط الشرط به فهو من وجهة العدم فقط، ولذلك صلح خطاب الواجب دليلا على وجوب السبب دون الشرط.
إلا أن هذا الوجه نوقش بأن الخطاب لا تعرض فيه للسبب ولا للشرط، وإنما تعرض لإيجاب الشيء فقط، والشرط والسبب متساويان بالنسبة للخطاب، إذ يترتب على انعدام أي منهما انعدام الواجب على حد سواء، ولا عبرة للوجه الآخر، فكان ترجيح أحدهما على الآخر هنا بغير مرجح، وهو باطل.
واستدل أصحاب المذهب الثالث بأن المقدمة لو كانت مرادة ومقصودة للأمر للزم التصريح بها، ولكن اللفظ لم يصرح بها ولم يشملها، فلم تكن مرادة ولا مقصودة من الأمر، فلا تكون واجبة لذلك.
وقد رد هذا الدليل بأن التصريح مطلوب في الواجبات الأصلية، ونحن لا ندعي ذلك، ولا نقول بوجوبها تبعا للواجب الأصلي، ولذلك لم يكن عدم التصريح بها دالا على عدم قصدها من الآمر.
واستدل أصحاب المذهب الرابع بأن الشرط إنما عرفت شرطيته من الشارع فقط، فكان عدم إيجابه بالخطاب الموجب للواجب بسبب غفلة المكلف عنه يتسبب بتركه، وتركه يؤدي إلى بطلان المشروط، فلزم من ذلك اعتباره واجبا بدليل الواجب، أما الشرط العقلي والعادي فلا يسبب عدم تعلق الخطاب به غفلة عنه، لأن الرابطة فيه عقلية أو عادية، وهما قائمتان دائما وتذكران بفعله، فلم يكن ثمة من ضرورة لتعلق الخطاب بهما، فلم يكن الخطاب دالا على وجوبهما.
لكن هذا الاستدلال ينقض بالسبب الشرعي، فإن الرابطة فيه بين السبب والمسبب ناتجة عن حكم الشرع أيضا، كالشرط الشرعي، مع أن أصحاب هذا المذهب لم يقولوا به، فكان مذهبهم منقوضا لذلك.
لهذا كله أرى رجحان مذهب الجمهور في اعتبار الخطاب الدال على الواجب بالمطابقة دالا على مقدمته بالالتزام، سواء أكانت سببا أو شرطا، شرعيا أو عقليا أو عاديا، وذلك لما ما تقدم من أداتهن.