الاستصحاب، أو استصحاب الحال
تعريفــه:
الاستصحاب في اللغة، من الصحبة وهي الملازمة، واستصحاب الحال هو التمسك بما كان ثابتا.
وهو في اصطلاح الأصوليين: (الحكم ببقاء أمر كان في الزمان الأول ولم يظن عدمه)، وهو يعني أن الحكم الذي جاء الدليل بإثباته يبقى مستمرا حتى يظن ورود ما ينافيه، مثال ذلك: لو توضأ إنسان ثم شك بعد ذلك في أنه هل انتقض وضوؤه أم لا، فإنه على وضوئه، بدليل استصحاب الحال، لأن الحكم الأول أنه متوضئ، ولم يثبت ما يصلح ناقضا لهذا الوضوء بطريق الظن أو غلبة الظن، فيبقى الحكم السابق وهو قيام الطهارة ساري المفعول، لأن الوضوء الأول كان يقينا، فلا يقطع بالشك، أما الظن أو غلبة الظن فإنه يقطع به حكم اليقين في الأمور العملية، ومنها هذا، ولو حدث العكس، وهو أنه نقض وضوءه ثم شك في أنه هل توضأ ثانية أم لا، فإن الحكم أن طهارته منتقضة، بدليل استصحاب الحال كما تقدم.
حجيته ومذاهب الفقهاء فيه:
اختلف الفقهاء في الاحتجاج بالاستصحاب واعتباره مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي على مذاهب عديدة، وهي:
أ- مذهب جمهور الحنفية: فقد ذهبوا إلى أن الاستصحاب لا يصلح دليلا لإثبات الأحكام، ولكنه دليل صالح لنفيها أو دفعها فقط.
ب- مذهب جمهور الشافعية، والحنبلية، وبعض الحنفية: وهؤلاء اعتبروا الاستصحاب حجة في الدفع وفي الإثبات مطلقا، ما دام لم يعارضه دليل آخر.
ج- مذهب بعض الشافعية والحنفية: وهو أن الاستصحاب ليس بحجة في الإثبات ولا في الدفع مطلقا.
د- مذهب بعض الحنفية: وهو أن الاستصحاب حجة في الإثبات لا في الدفع، والمراد بالإثبات هنا إثبات الحكم من الناحية الإيجابية، أي إثبات وجوده، والمراد بالدفع هو إثبات نفي الحكم وانعدامه أو زواله.
ويتضح ذلك من المثال الآتي: رجل باع لآخر داره، فطالب الشفيع بها، وادعى أنه ملكها بحق الشفعة، فأنكر البائع أن الدار ملك الشفيع بحق الشفعة.
فعند الشافعية: الدار للشفيع من غير بينة على ملكه إياها، لأن الملك يثبت بالبيع، والبائع لا ينكره، واستصحاب الحال يدل له في استمرار ملكيته لها ما دام لم يثبت ما ينزع هذه الملكية عنه بعد ثبوتها، فتعتبر ثابتة له بدليل استصحاب الحال، فلا يكلف بإثباتها بالبينة ثانية، وعند الحنفية عليه البينة، لأن دليل استصحاب الحال هذا غير معتبر في الإثبات عندهم، فاحتجاج الشفيع إلى البينة في إثبات حقه.
أدلة كل من المثبتين والنافين للاحتجاج باستصحاب الحال:
أدلة المثبتين: استدل المثبتون لحجية هذا الدليل في حالتي الإثبات والدفع بأدلة منها:
1- أن إثباته أمر ضروري يقضي به العقل، فإن ما تحقق وجوده أو عدمه في زمان ما لقيام الدليل عليه ولم يثبت دليل معارض له مما يظن أو يغلب على الظن معه أنه يلغيه يعتبر لزوم بقائه أمر ضروري عقلا، والظن يصلح دليلا في الأحكام العملية، فيكون الاستصحاب دليلا صحيحا لذلك.
2- أن الإجماع منعقد على وجوب العمل بالاستصحاب ضمنا، بدليل الإجماع على بقاء شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وبقاء الشرائع السابقة إلى حين ظهور النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن ذلك محل اتفاق، وليس له دليل إلا استصحاب الحال، فكان الاستصحاب دليلا صحيحا لذلك.
3- أن الإجماع منعقد على الأخذ بالاستصحاب في كثير من فروع الشريعة الإسلامية، منها الحكم ببقاء الوضوء كما جاء في المثال السابق ما دام المتوضأ لم يظن نقضه، وكذلك بقاء الحدث فيما لو لم يظن المحدث أنه توضأ، وفروع كثيرة مثله، فيكون ذلك إجماعا على اعتبار الاستصحاب والأخذ به، والإجماع حجة قاطعة، فيكون الاستصحاب حجة لذلك.
أدلة النافيــن:
واستدل النافون لحجية الاستصحاب في الإثبات دون الدفع بأدلــة منها:
1 – يرد على احتجاج الشافعية ببقاء الشرائع بأن بقاءها لم يكن بالاستصحاب، ولكن بقيام الأحاديث الكثيرة على أنها باقية ما لم تنسخ، فكان بقاؤها لذلك الدليل لا للاستصحاب. وكذلك شريعة سيدنا عيسى عليه السلام وغيره، فهي باقية قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لتواتر العمل بها لا للاستصحاب.
2- يرد على الاحتجاج بالإجماع على الاستدلال بالاستصحاب في كثير من الفروع، كثبوت الطهارة والحدث وغيرها على النحو المتقدم، بأن الدليل هناك ليس للاستصحاب، ولكنه وضع الشارع الحكيم الذي قضى باستمرارها ما لم يظهر المناقض، فكان دليل بقائها هو تحقق هذه الأفعال مع عدم ظهور المناقض لها، وليس الاستصحاب.
ويرد على الدليل الأول للشافعية وهو الدليل العقلي، بأن الدليل الموجب للحكم لا يدل على بقاء ذلك الحكم، وذلك لضرورة أن البقاء غير الوجود، لأن البقاء هو استمرار الوجود بعد الحدوث، والدليل الأول إنما دل على الوجود فقط، فلا يجعل دليلا على استمرار الوجود أيضا.
وهكذا نرى أن الحنفية ردوا كل الأدلة التي استند إليها الشافعية في الاحتجاج بالاستصحاب، وأسقطوها، وإذا لم يعد للاستصحاب من دليل سقط اعتباره ولم يجز عده دليلا من أدلة الشريعة الإسلامية، لكن يرد على الحنفية أنهم ماداموا ردوا الاحتجاج بالاستصحاب مطلقا، فلماذا يحتجون به في الدفع، فإن رد الشيء رد لكل أوصافه وإسقاط له من الأصل، مما يقتضي إسقاط الاحتجاج به مطلقا.
لكن الحنفية يجيبون على ذلك بأن الدفع لا يثبت في المسألة حكما، وعدم الحكم مستند إلى عدم دليله، والأصل في العدم الاستمرار حتى يظهر دليل الوجود بحكم العقل، فكان ثابتا ضرورة استمرار العدم، أي ضرورة عدم قيام الدليل، فلم يكن الاستصحاب هو الدليل المباشر في ذلك، فلا اعتراض.
مثال يوضح الخلاف وحدوده:
المفقود الذي يغيب عن أهله مدة ولا يعلم مكانه ولا تعلم حياته من موته، إذا مات أحد أقاربه الذين يرثهم أثناء غيابه. هل يرثه المفقود؟
الشافعية على أنه يرث منه، لأنه يحكم هنا باستمرار حياته بدليل استصحاب الحال، فيعتبر حيا، فيرثه، لأن الاستصحاب حجة عندهم.
والحنفية لا يرث عندهم، لأن الاستصحاب غير حجة في الإثبات، فكانت حياته غير ثابتة، مما ينتفي معه شرط الإرث، وهو العلم بحياة الوارث.
ثم هل يورَث المفقود قبل العلم بوفاته؟ الإجماع على عدم إرثه، أما الشافعية فلأن حياته ثابتة بدليل الاستصحاب، فلا يورث لذلك، وأما الحنفية فلأن شرط الإرث العلم بوفاة المورث ولم يثبت هنا، ولأن الأصل عدم الإرث ونفيه، والاستصحاب دليل على النفي والدفع عندهم كما تقدم، لأن العدم يستمر، فلا يورث لذلك.
طبيعة الاستصحاب:
من استعراض تعريف الاستصحاب وأمثلته نتبين أن الاستصحاب إنما هو مردود إلى الأدلة الأربعة الأصلية، الكتاب والسنة والإجماع والقياس، لأنه ليس إلا حكما باستمرار ذلك الدليل، ولذلك اعتبر من الأدلة التبعية، لارتباطه بدليل آخر وتعلقه به وليس دليلا مستقلا بذاته.
حكمه ومرتبته بين الأدلة الأخرى:
الاستصحاب عند القائلين بحجيته دليل ظني ضعيف يأتي في المرتبة المتأخرة بعد كل الأدلة السابقة، لأنه دليل عند فقدان الدليل، فلا يعتد به مع وجود أي دليل آخر.