الإجمـــــاع
تعريفــــه:
الإجماع في اللغة الاتفاق، يقال: أجمعوا على الأمر اتفقوا عليه[1].
وهو في اصطلاح الأصوليين: (اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر على حكم شرعي).
تحليل التعريــف:
اتفـاق: معناه الاشتراك في الاعتقاد أو القول أو الفعل، لأن ذلك كله من الإجماع، فلا يكون الإجماع خاصا بالقول فقط.
المجتهديـن: فيه إخراج من لم يبلغ درجة الاجتهاد من العلماء، أو عوام الناس، فإنه لا عبرة بإجماعهم، وقد عرف باللام وهي للاستغراق هنا احترازا عن اتفاق بعض مجتهدي عصر من العصور، فإنه ليس إجماعا عند الجمهور كما سيأتي، خلافا لبعض العلماء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيه احتراز عن اتفاق مجتهدي الشرائع الأخرى السابقة. فإنه ليس إجماعا عندنا (أن الإجماع من خواص هذه الأمة كما سيأتي تكريما لها ورفعا لشأنها.
في عصــر: معناه في زمان ما، قل العدد أو كثر، تنكيره احترازا عن سبق الذهن إلى أن الإجماع هو إجماع كل المجتهدين في كل العصور إلى آخر الزمان، لأن الإجماع يجب فيه ذلك، بل إجماع المجتهدين في عصر واحد يكفي.
على حكم شرعي: هذا قيد يخرج به ما ليس حكما، وما كان حكما غير شرعي، فإن الإجماع في ذلك ليس حجة عند الجمهور، وقد أطلق بعض العلماء التعريف ولم يذكر هذا القيد ومنهم ابن الحاجب حيث قال: (على أمر) ليشمل الشرعي وغيره، فيدخل في ذلك وجوب اتباع آراء المجتهدين في أمر الحروب ونحوها مما لا يدخل في نطاق الحكم الشرعي، ولكن يجاب عن هذا الإطلاق بأن من ترك اتباع هذا الإجماع الأخير إن كان يأثم في تركه، فهو إجماع على حكم شرعي يدخل في نطاق الإجماع بهذا القيد، وإن كان لا يأثم في ترك هذا الإجماع فهذا معناه أن ذلك ليس من الإجماع الملزم، فلا مانع أن يكون من الواجب إخراجه من التعريف.
ركن الإجماع:
ركن الإجماع الاتفاق قولا أو عملا، بأن يتفق المجتهدون جميعا، لا يتخلف عن ذلك واحد منهم، على قول واحد، سواء كانوا مجتمعين في مكان واحد أو لا، بأن يثبت عنهم جميعا الفتيا في مسألة معينة على حكم واحد، وكذلك اتفاقهم في العمل، بأن يصدر عن كل منهم العمل في المسألة على نهج واحد، لأن العمل من المجتهد دليل المشروعية.
هذا عند جماهير الفقهاء، وذهب بعض الناس إلى أن الإجماع هو إجماع الصحابة لا غير، لأنهم الأصول في أمور الدين لصلتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وشهودهم الوحي، فلا عبرة بإجماع غيرهم.
وذهب ناس آخرون إلى أن الإجماع هو إجماع العترة النبوية لا غير لطهارتهم من الرجس بقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب:33) وذهب آخرون إلى أن الإجماع خاص بأهل المدينة دون غيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن المدينة طيبة تنفي خبثها)، ولا شك أن الخبث هنا هو الخطأ.
وذهب قوم إلى أن الإجماع هو اتفاق أكثر المجتهدين فقط، ولا يشرط اتفاق جميعهم، فلو خالف قلة منهم لم يضر ذلك الإجماع، ومن هؤلاء بعض المعتزلة، والأصح مذهب الجمهور، لما يأتي في أدلة حجية الإجماع.
أنواع الإجمــاع:
ما تقدم هو العزيمة في ركن الإجماع، وهي اتفاق المجتهدين جميعا قولا وعملا، والرخصة فيه على ما ذهب إليه بعض الأصوليين، أن يقول بعض المجتهدين في عصر من العصور قولا أو يعمل عملا فيسمع الآخرون به فلا يعارضونه، فإنهم بذلك ينزلون منزلة الموافق، ويعتبر هذا القول أو العمل مجمعا عليه منهم، وهو ما يسمى بالإجماع السكوتي، وإنما جعل رخصة لأنه جعل إجماعا ضرورة نفي نسبتهم إلى الفسق والتقصير في أمر الدين، فإن الساكت عن الحق في موضع الحاجة شيطان أخرس، ثم لو شرط لانعقاد الإجماع التنصيص من الكل لأدى إلى تعذر انعقاده، لأن في الوقوف على قول كل واحد منهم في حكم كل حادثة حرجا بينهم، فينبغي أن يجعل اشتهار الفتوى والسكوت من الباقين كافيا في انعقاد الإجماع، لكن هذا القول محل اختلاف كبير بين الفقهاء، يتضح فيما يلي:
فقد ذهب الأصوليون إلى أن الإجماع على قسمين:
1- إجماع صريح، وهو أن يتفق المجتهدون على قول أو فعل بشكل صريح، بأن يروى عن كل منهم هذا القول أو الفعل دون أن يخالف في ذلك واحد منهم.
2- إجماع سكوتي: وهو أن يقول أو يعمل أحد المجتهدين بقول أو بعمل فيعلم الباقون بذلك فلا يظهرون معارضة ما.
والقسم الأول هو العزيمة في الإجماع كما تقدم، وهو حجة باتفاق جماهير الفقهاء، أما القسم الثاني فقد اختلفوا في حجيته على آراء كما يلي:
1- أنه ليس حجة مطلقا، ولا يعتبر من أنواع الإجماع الذي هو أحد مصادر الشريعة الإسلامية، وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله، وعيسى ابن أبان من الحنفية، وأبو بكر الباقلاني من الأشعرية، وبعض المعتزلة، وداود الظاهري.
2- أنه يعتبر إجماعا قطعيا، ولكنه في مرتبة ثانية بعد الإجماع الصريح، فلا يكفر جاحده، بخلاف الإجماع الصريح، فإنه يكفر جاحده كما سيأتي، وإلى هذا ذهب جمهور الحنفية وبعض الشافعية، وهو مذهب أحمد بن حنبل.
3- أنه حجة بشرائط انقراض العصر، ليتيقن من انتفاء المعارضة، وهذا مذهب أبي اسحق الإسفرائيني.
4- أنه إجماع ولكنه ليس قطعيا، إنما هو دليل ظني كسائر الأدلة الظنية الأخرى، وهو مذهب أبي الحسن الكرخي من الحنفية، والآمدي من الشافعية.
أدلة حجية الإجمــاع الصريح:
اتفق جمهور المسلمين على أن الإجماع حجة، وأنه دليل من أدلة الشريعة الإسلامية، وإن كانوا اختلفوا في أنواعه وطبيعته وشروطه على ما مر، وسيأتي، وخالف في ذلك النظَّام وبعض الشيعة والخوارج، وذهبوا إلى أن الإجماع ليس بحجة أصلا.
وقد استدلوا لحجية الإجماع بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول على النحو التالــي:
من الكتــاب الكريم:
لقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تفيد كلها وجوب احترام اتفاق المسلمين والمنع من مخالفتهم، كما تدل على صلاحهم وتقواهم بطريق يحيل اجتماعهم على ضلال أو خطأ.
ومن هذه الآيات الكريمة.
1- قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115)
وجه الاستدلال بهذه الآيـــة الكريمة: أن الله جمع في هذه الآية بين مشاقّة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، ولا شك أن مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وحدها تستوجب الوعيد. فدل ذلك على أن اتباع غير سبيل المؤمنين المذكور حرام يستوجب الوعيد كذلك، وإلا لما كان في ضمه إلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم فائدة. وإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما كان اتباع سبيلهم واجبا، لأن اتباع أحد السبل لا بد منه بنص الآية: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108) ولا شك أن سبيل المؤمنين هو ما اتفقوا عليه، فكان ما اتفقوا عليه واجب الاتباع لذلك.
2- قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110)
وجه الاستدلال بهذه الآيــة: إن الخيرية توجب الحقيقة فيما اجتمعوا عليه، لأنه لو لم يكن حقا لكان ضلالا، لقوله تعالى: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس:32)، ولا شك أن الأمة الضالة لا تكون خير الأمم، على أن الله تعالى وصفهم بقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110)، فإذا اجتمعوا على الأمر بشيء يكون ذلك الشيء معروفا، وإذا نهوا عن الشيء يكون ذلك الشيء منكرا، فيكون إجماعهم حجة لذلك.
3- قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(البقرة:143)
وجه الاستدلال بهذه الآيــة الكريمة: إن الوساطة هي العدالة، ومنه قوله تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) (القلم:28)، أي أعدلهم، ثم كل الفضائل منحصرة في التوسط بين الإفراط والتفريط،، فإن رؤوس الفضائل الحكمة والفقه والشجاعة والعدالة. فالحكمة نتيجة تكميل القوة العقلية، وهي متوسطة بين الحربزة والغباوة، وكذلك كل من العفة والشجاعة والعدالة، فكان التوسط لذلك هو منتهى هذه الفضائل كلها.
من السنة المطهرة:
هنالك أحاديث عدة وآثار ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمجموعها عصمة هذه الأمة عن الخطأ والزلل، واستحالة اجتماعها على غير الحق، من هذه الأحاديث: (إِنَّ أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ) رواه ابن ماجه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن) رواه أحمد في كتاب السنة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن يد الله على الجماعة)رواه النسائي، وقوله صلى الله عليه وسلم : (من خالف الجماعة قدر شبر فقد مات ميتة جاهلية)رواه أحمد، وقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالسواد الأعظم)رواه أحمد، وغير ذلك من الأحاديث الشريفة الكثيرة.
من العقـــل:
من المتفق عليه أن المجتهد في الإسلام لا يذهب إلى قول إلا إذا قام عليه الدليل، لأن خلاف ذلك تشهي، والاجتهاد غير التشهي، إذ إن للاجتهاد قيودا وشروطا كثيرة معروفة في بابها، فإذا كان هذا حال المجتهد فاجتماع المجتهدين أولى بهذه الخاصية، وعلى ذلك يكون معناه اتفاق المجتهدين على ثبوت الدليل، وإذا كان كذلك كان الحكم واجب الاتباع لهذا الدليل، لكن نظرا لخفاء الدليل علينا أقمنا إجماعهم على الحكم مقام الدليل نفسه، لأنه دليل عليه.
أدلة نفاة الاحتجاج بالإجماع السكوتي:
أ- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما شاور الصحابة رضي الله عنهم في عدة مسائل:
منها: مسألة مال فضل عنده ماذا يفعل به.
ومنها إسقاط المرأة جنينها هيبة منه، فأشاروا عليه كل بما رآه، وكان علي رضي الله عنه ساكتا حتى سأله عن رأيه فأفتاه، وذكر له الأدلة بما يخالف رأي الفقهاء الآخرين، ، فمال عمر إلى رأيه وسار عليه، فإن هذا يدل على أن عليا رضي الله عنه سكت أول الأمر ولم يكن سكوته رضا بما أشار به الصحابة على عمر رضي الله عنه، بدليل أنه أفتاه بعد ذلك بخلاف ما أشاروا به عليه، فكيف يمكن مع هذا اعتبار السكوت دليلا على الموافقة.
ب- سكوت ابن عباس رضي الله عنه عن مخالفة عمر رضي الله عنه في حياته في مسألة العول وإظهاره المخالفة والتحدي بعد وفاته، حيث قال له بعض الصحابة: (ما منعك أن تخبر عمر بقولك في العول؟ فقال: الدرة)، فإن كانت الدرة منعت ابن عباس رضي الله عنه من إعلان مخالفته فلا شك أن السيوف المسلطة على رقاب العلماء في عصور كثيرة متأخرة قد تمنع هؤلاء العلماء من إعلان مخالفتهم، فلا يكون سكوتهم دليلا على الرضا، وما أكثر السيوف الظالمة عبر تاريخنا.
ج- سكوت العلماء قد يكون للتروي والتأمل والنظر وغير ذلك من الأسباب المانعة لإظهار الرأي فلا يصح أن يعتبر السكوت مع ذلك كله رضا وموافقة.
أدلة المحتجين بالإجماع السكوتي ومناقشتهم لأدلة النافين له:
أ- اشتراط التكلم أو العمل من كل المجتهدين متعسر غير معتاد، والمعتاد أن يتولى الكبار الفتوى ويسلم سائرهم، فكان سكوتهم تسليما على حسب العادة، فلا يحتاج مع هذه العادة إلى دليل، بل العكس هو الذي يتحاج إلى دليل.
ب- لا يمكن اعتبار السكوت إلا موافقة، لأن الحكم إذا كان مخالفا لرأي هذا الساكت كان السكوت عليه حراما، والمجتهدون والصحابة بصورة أخص لا يتهمون بذلك، إذ لو حصل منهم ذلك لزالت عدالتهم وسقط اعتبارهم من زمرة أهل الإجماع، وعندها لاعبرة لمخالفتهم الموهومة، مع أن الإجماع انعقد على عدالتهم جميعا.
ج- يجاب عن سكوت علي رضي الله عنه الذي احتج به المخالفون –كما تقدم- بأنه محمول على أن ما أفتوا به من إمساك المال الفائض عنده وعدم الغرم عليه في مسألة الإسقاط كان حسنا، إلا أن تعجيل أداء الصدقة والتزام الغرم صيانة عن القيل والقال رعاية لحسن الثناء والعدل كان أحسن، فلم يكن سكوته إلا رضا.
د- إذا سلمنا بأن ما أفتوا به كان خطأ صريحا في رأي علي رضي الله عنه، فلا نسلم بأن سكوته كان متحققا فعلا، لأن السكوت بشرط الصيانة عن الفوت جائز، وذلك إلى آخر المجلس تعظيما للفتيا. وعلي رضي الله عنه لم يسكت مطلقا، بل سكت لتوقع سؤاله، فلم يكن هذا السكوت هو السكوت المتكلم فيه، لأن السكوت المتكلم فيه إنما هو السكوت بعد العلم ومضي مدة التأمل -على ما يأتي-، ولم يكن هنا كذلك، فلم يكن فيه حجة لهـــم.
هـ- أما حديث الدِرة فغير صحيح، لأن الخلاف والمناظرة بين الصحابة في مسألة العول، أشهر من أن تخفى على عمر رضي الله عنه، ثم إن عمر رضي الله عنه كان ألين للحق من أن تخشى درته في سبيله، فإن له من المواقف الكثيرة ما يشهد له بذلك.
وعلى التسليم بصحة هذا الحديث، فإنه يجب حمله على أن ابن عباس رضي الله عنه إنما اعتذر عن الكف عن المناظرة مع عمر لا عن بيان مذهبه ورأيه، إذ الواجب على أي مؤمن في مثل هذه الحال أن يبين رأيه وما هو حق عنده، فكيف بابن عباس رضي الله عنه ترجمان القرآن، فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس، لكن المناظرة غير واجبة عليه، ولذلك اعتذر عن الكف عنها لذلك، وهي غير موضع البحث هنا.
وأما ما استدل به الخصوم من أن هذا السكوت قد يكون للتروي لا للموافقة، فإنه مردود، لأن من شروط الإجماع السكوت مضي مدة التروي والتأمل، ولذلك لم يعد لهذه الشبهة من وجه،
هذا وقد اختلف في مدة التروي، فقيل ثلاثة أيام، وقيل مجلس العلم، والأصح عندي أن ذلك يختلف باختلاف نوع المسألة تعقيدا وسهولة، وحال المجتهد استعدادا وفتورا، فلا يقطع في مدته بزمن معين، ولذلك أرى رجحان مذهب الحنفية في اعتبار الإجماع السكوتي دليلا قطعيا، ولكنه دون الإجماع الصريح، فلا يكفر جاحده بخلاف الإجماع الصريح.
شــــروط صحة الإجماع:
لا بد لصحة الإجماع من شرائط معينة، بحيث إذا فات واحد منها اعتبر إجماعا باطلا لا حجة فيه مطلقا، وهذه الشروط منها ما هو محل اتفاق ومنها ما هو محل اختلاف بين الفقهاء، وهي:
1- انقراض عصر المجمعين: أي إن الإجماع لا يعتبر حجة إلا إذا انقرض عصر المجتهدين الذين أجمعوا على حكم المسألة، فما دام واحد منهم حيا لم يعتبر هذا الإجماع حجة.
وقد ذهب إلى اشتراط هذا الشرط أحمد بن حنبل وبعض أصحاب الشافعي، واحتجوا بأن رجوع بعض المجتهدين محتمل ما داموا أحياء، فينتقض الإجماع بذلك، فإذا ماتوا انقطع هذا الاحتمال وثبت الإجماع.
وذهب جمهور الفقهاء وفيهم الحنفية وبعض الشافعية إلى أن انقراض العصر ليس بشرط، واحتجوا بأن الإجماع إنما هو في اللغة الاتفاق لا غير، وقد حصل، فلا يحتاج إلى غيره معه، وردوا على أصحاب الرأي الأول بأننا لا نجيز للمجمعين الرجوع عن رأيهم بعد ما تم الإجماع منهم، وذلك لأن الرجوع إما أن يكون من الجميع فيكونون بذلك أجمعوا على نقيض إجماعهم الأول، فنكون بذلك أمام إجماعين: أحدهما باطل لا محالة، وهذا محال، لأن الإجماع دليل قطعي لا احتمال فيه للنقيض، وإما أن يكون الرجوع من واحد منهم فقط، وهذا محال أيضا، لأنه بذلك يخالف إجماع المؤمنين الذي هو حجة ملزمة للجميــع.
وبذلك يسلم للجمهور مذهبهم في عدم اشتراط انقراض العصر.
2- أن لا يكون على مسألة جرى فيها اختلاف بين الفقهاء في زمن الصحابة، فلو اختلف الصحابة في مسألة بينهم ولم يتفقوا فيها على حكم، امتنع على من بعدهم أن يجمعوا فيها على رأي.
وقد ذهب إلى اعتبار هذا الشرط في صحة الإجماع أحمد بن حنبل، وأكثر الشافعية، وبعض أهل الحديث.
وذهب الحنفية وبعض الشافعية إلى أنه لا عبرة بهذا الشرط مطلقا، ولا مانع عندهم من أن يجتمع التابعون على رأي خالف فيه بعض الصحابة رضي الله عنهم.
استدل أصحاب القول الأول بأدلة منهــا:
أ- إن اختلاف الصحابة لا شك ناتج عن دليل، وهذا يعني أن لكل منهم دليل على ما ذهب إليه، فكان إجماع من بعدهم تأييد لأحد الرأيين خلافا للرأي الثاني المبتني على الدليل، والإجماع في معارضة الدليل باطل.
ب- في تصحيح هذا الإجماع تضليل بعض الصحابة، إذ الإجماع حجة قطعية، فمن خالفه اعتبر ضالا، ومحال تضليل الصحابة بعد ما شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية في أكثر من حديث شريف.
واستدل أصحاب القول الثاني بأدلة منها:
أ- أن الأصل في الإجماع اتفاق أهل العصر، وقد فعلوا، فلا داعي إلى اشتراط شيء آخر.
ب- لا يعني قبول الإجماع هنا معارضة الدليل الأول المخالف، لأن هذا الإجماع كان مبطلا للدليل ومثبتا أنه ليس دليلا، فلم يبق في معارضة الدليل، كما إذا أنزل الله تعالى نصا بعد العمل بالقياس، فإنه مبطل لحكم القياس، وعلى ذلك لم يبق مبرر لتضليل الصحابة، لأنهم كانوا يتبعون دليلا ثم ألغي اعتبار ذلك الدليل.
3 - قيام دليل يصلح للحكم: أو استناد الإجماع إلى دليل يصلح للحكم المجمع عليه، فقد ذهب جمهور الأصوليين إلى أن الإجماع لا يجوز انعقاده إلا إذا كان هناك دليل يدل على الحكم الذي يثبته الإجماع، ولم يشذ عن ذلك إلا قلة من الناس الذين رأوا أن الإجماع جائز ولو لم يكن هنالك دليل للحكم إلا الإلهام والتسديد.
وقد استدل الجمهور لهذا الشرط بأدلة منها:
أن الإجماع اجتهاد، بل هو مجموع اجتهاد المجتهدين، والاجتهاد معناه بذل الجهد في استخراج الحكم من دليله، فكان الإجماع كذلك، إذ ليس التشريع بدون دليل اجتهادا، بل تحكما، وهو ممنوع شرعا.
إن إجماع الأمة جميعها دون خلاف واحد فيها دليل على وجود الدليل، لأن العقل يحيل عادة اجتماع آراء المجتهدين جميعا دون خلاف واحد منهم من غير دليل يستند إليه هذا الإجماع، وذلك اعتمادا على تعدد المشارب والاتجاهات الفكرية، وطرق الاستنباط، فكان قيام الدليل واستناد الإجماع إليه ضرورة عقلية.
ولكن قد يقول قائل: إذا كان الإجماع محتاجا إلى دليل فلماذا لا نجعل هذا الدليل هو المستند في الحكم دون الإجماع، ثم ما هي فائدة الإجماع مع قيام الدليل؟
والجواب على ذلك أن كثيرا من الأدلة التفصيلية في الشريعة الإسلامية ظنية في دلالتها وثبوتها معا، ومنها ما هو قطعي الثبوت ظني الدلالة، أو ظني الثبوت قطعي الدلالة، وقليل منها قطعي الثبوت والدلالة معا، فإن كان الإجماع مستندا إلى دليل قطعي الثبوت والدلالة، فالاعتراض صحيح، لأن الإجماع لم يفده شيئا، ولكن إذا كان الدليل ظني الثبوت، أو ظني الدلالة، أو ظني الثبوت والدلالة معا، فإن الإجماع في هذه الحال يرفعه من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع، لأن الإجماع دليل قطعي من أدلة الأحكام، فكان محتاجا إليه لذلك، لا سيما أن أكثر الأدلة في الشريعة الإسلامية –كما تقدم- من هذا النوع.
ج- أن لا يكون هناك نص قاطع يعارض ما جاء به الإجماع، سواء من القرآن الكريم أو السنة الشريفة، ولو كان هنالك نص قطعي يعارضه فالإجماع باطل، لأن الإجماع لا ينعقد في معارضة النصوص القطعية، إذ النصوص تأتي في المرتبة الأولى، والإجماع في المرتبة الثانية بعدها، ولذلك لا يصح في معارضتها، وكذلك لا ينعقد في معارضة إجماع سابق، لأن الإجماع حجة قطعية فلا تجوز مخالفته مطلقا، فإذا ما أجمع المسلمون في عصر من العصور على حكم لم يجز عقد إجماع بعدهم على خلافهم، وكل اتفاق على خلاف إجماعهم الأول باطل.
حكم الإجمــاع:
الإجماع –كما تقدم- على أنواع وأقسام جرى بيانها، وقد اختلف الفقهاء في حكمه على حسب اختلافهم في أقسامه، فمنهم من ذهب إلى أنه قطعي في كل أقسامه، ومنهم من ذهب إلى أنه ظني في بعضها قطعي في بعضها الآخر، وبناء على هذا الاختلاف اختلفوا في حكم جاحده، أيكفر أم لا يكفر؟ فقيل إن كان قطعيا يكفر وإن كان ظنيا لا يكفر،، وقيل يكفر مطلقا وقيل لا يكفر جاحده أبدا.
والحق أن في المسألة تفصيل ووجوه على النحو التالي:
1- الوجه الأول: أن يكون الحكم الثابت بالإجماع مما هو معلوم من الدين بالضرورة، أي علمه متيسر لكل الناس خاصتهم وعامتهم، كفرضية الصلاة والحج والصوم والزكاة وحرمة الكذب، وغير ذلك، وهذا لاختلاف في تكفير جاحده.
2- الوجه الثاني: أن يكون الحكم المجمع عليه ليس من المعلوم من الدين بالضرورة، ولكن الإجماع المنعقد عليه قطعي الثبوت، ومتفق على صحته بين الفقهاء، بأن يكون إجماعا صريحا متواترا لم يستقر فيه خلاف سابق بين الصحابة.
فهذا الإجماع اختلف العلماء في تكفير جاحده.
فذهب أكثر الحنفية إلى تكفير جاحده مطلقا، لأنه إنكار لما ثبت قطعا أنه حكم الله تعالى، فيساوي في ذلك ما ثبت من الدين بالضرورة، لا فرق بينهما.
وذهب أكثر الشافعية إلى التفصيل، فقالوا: إن كان إجماعا مشتهرا فإن جاحده يكفر، وإن كان إجماعا خفيا لا يطلع عليه كل أحد فلا يكفر جاحده.
وذهب بعض الفقهاء الآخرين إلى أن جاحده لا يكفر مطلقا، لأنه ليس معلوما من الدين بالضرورة.
3- الوجه الثالث: أن يكون الإجماع غير مجمع على قطعيته، بأن كان سكوتيا أو منعقدا بعد خلاف سابق على موضوعه في زمن الصحابة، أو كان قطعيا ولكنه ورد إلينا بطريق الآحاد. فإن هذا الإجماع لا يكفر جاحده باتفاق الفقهاء، لظنيته، واختلاف الفقهاء في حجيته، ، فإنه يساوي في ذلك كل الأدلة الظنية الأخرى، ولم يقل أحد بتكفير منكر واحد منها، فكذلك هنـا.
درجــات الإجمــاع:
مما تقدم نلاحظ أن الفقهاء على تسليمهم واتفاقهم على حجية الإجماع مختلفون في بعض أنواعه وشروطه، ولذلك فإننا سوف نعمد إلى ترتيب هذه الأنواع على حسب حجيتها ودرجتها بالنظر لاتفاق الفقهاء واختلافهم عليها، فنضعها في الدرجات التالية:
1- إجماع الصحابة الصريح في قولهم وعملهم على حكم معين، فهذا محل اتفاق جميع المجتهدين والعلماء، ولم يختلف في حجيته أحد منهم كما تقدم، ولذلك فهو دليل قطعي بإجماعهم.
2- إجماع مَن بعد الصحابة إجماعا صريحا أيضا، بالقول أو الفعل، على أمر لم يرو فيه خلاف الصحابة، فهذا إجماع قطعي أيضا، حيث إنه لم يخالف في حجيته أحد ممن يعتد برأيه، إلا نفر قليل لا عبرة بخلافهم - كما تقدم-، ولذلك فإن هذا النوع يأتي في المرتبة الثانية بعد النوع الأول، وإن كان قطعي الدلالة أيضا.
3- إجماع الصحابة إجماعا سكوتيا، فإنه يأتي في المرتبة الثالثة، وقيل في المرتبة الثانية قبل إجماع من بعد الصحابة صريحا، ولكن الأول أولى لاختلاف الفقهاء في حجيته، فقد ذهب الشافعية وغيرهم إلى أنه ليس حجة مطلقا -كما تقدم-، خلافا لإجماع من بعد الصحابة صريحا، فإنهم يحتجون به.
4- إجماع من بعد الصحابة رضي الله عنهم على أمر روي فيه اختلاف الصحابة، فإنه يأتي في المرتبة الرابعة، لأنه إجماع مختلف فيه على النحو المتقدم.
5- الإجماع الذي يبت فيه المجتهدون ثم يرجع أحد المجتهدين المجمعين عليه عن رأيه بعد ذلك، فإنه محل اختلاف بين الفقهاء، ولذلك كان في المرتبة الأخيرة من مراتب الإجماع.
مرتبة الإجماع من القرآن الكريم والســنة:
تقدم معنا أن القرآن الكريم والسنة الشريفة هما المصدر الأول للتشريع، وأنهما في مرتبة واحدة من حيث حجيتهما، وإن كانت السنة الشريفة تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم من حيث الحاجة إليها، ومن حيث ثبوت جزئياتها وتفصيلاتـها.
أما الإجماع فإنه يختلف عن السنة الشريفة في ذلك، فليس هو في مرتبتها ولا في مرتبة القرآن الكريم، بل هو في المرتبة الثانية بعدهما في أصل الحجيَّة، فلو تعارض إجماع وسنة قدمت السنة الشريفة من غير خلاف، والإجماع آنذاك باطل غير صحيح، لأن من شروط صحة الإجماع كما تقدم عدم معارضته للنصوص، قرآنا كانت أو سنة.
أهلية الإجمــاع:
اشترط الفقهاء في الذين يقبل إجماعهم شرطين اثنين، هما:
1- الاجتهاد: لأن الحكم المجمع عليه إما أن يكون دليله قطعيا أو ظنيا، فإن كان دليله قطعيا فإنه يقبل فيه المجتهد وغير المجتهد، لأن هذا الحكم لا محل للاجتهاد فيه، إ ذ الاجتهاد محله الأدلة الظنية، أما الأدلة القطعية فلا محل للاجتهاد فيها، لأن مخالفتها ممنوعة مطلقا، ولكن هذا ليس من باب الإجماع في شيء، لأن الحكم ثابت بالدليل القطعي الأول لا بالإجماع، فكان الإجماع وجوده كعدمه.
وإما أن يكون دليل الحكم المجمع عليه ظنيا، أي فيه مجال للاجتهاد والرأي، فهذا لا يقبل فيه إلا المجتهدون، لأنه لا عبرة برأي غيرهم.
وشروط الاجتهاد مبسوطة في كتب الأصول، ولا محل هنا لشرحها وتوضيحها.
2 - الخلو عن كل فسق أو بدعة، والفسق هو ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر، وهو مورث للتهمة مسقط للعدالة، أما البدعة فهي هنا كل جديد على الدين ليس على سَننه. والمبتدع على أحد شيئين، إما متعصب أو سفيه، فإن كان وافر العقل عالما بقبح بدعته مصرا عليها فهو المتعصب، وإن كان غير وافر العقل، وغير عالم بقبح بدعته، فهو السفيه، والمتعصب ساقط العدالة غير مأمون، وكذلك السفيه، فإنه سيء التفكير، لأن السفه خفة واضطراب يحملانه على فعل ما يخالف للعقل، لقلة التأمل، ولذلك لم يكن هذا من أهل الإجماع.