مباحث الحكـــم
تمهيــــد:
تتركز أبحاث علم أصول الفقه في أربعة أبواب رئيسة عامة، ويعتبر ما عداها من الأبحاث تابعاً لها أو ملحقاً بها، وهذه الأبواب الأربعة هي: الحكم، والحاكم، والمحكوم فيه، والمحكوم عليه[1].
فالحكم الشرعي: هو ما نحن بصدده في هذا المبحث، وهو الثمرة التي نجنيها من دراستنا لهذا العلم، وتعريفه كما سوف يأتي معنا هو: (خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أوتخييراً أو وضعاً).
والحاكم: هو الله سبحانه وتعالى وحده كما أوضحنا في أول مبحث المصادر من هذه المذكرة، ويدخل في هذا المبحث كل مصادر التشريع الإسلامي الأصلية منها والتبعية ومباحثها، لأنها دالة على حكم الله سبحانه وتعالى بطريق القطع أو الظن، كما تقدم[2].
والمحكوم فيه: هو أفعال العباد أو أفعال المكلفين التي يتعلق الحكم بها، من حيث إنها مقدورة لهم أو غير مقدورة، ومن حيث إنها حق الله تعالى أو حق العباد.
والمحكوم عليه: هو المكلف بالحكم الشرعي، ويبحث فيه عن معنى التكليف وشروطه، من الأهلية وأنواعها وعوارضها.
هذه هي المباحث الأساس التي يعني بها الأصوليون في علم أصول الفقه. وهي تدور حول الحكم ومصادره ومحله والمكلف به، وكل ماعداها من البحوث المسهبة في كتب أصول الفقه تابع لها كما تقدمت الإشارة إليه، فمبحث الاجتهاد مثلاً تابع لمبحث الحاكم وجزء منه، وإن كان كثير من الأصوليين يضعه في آخر مباحث هذا العلم.
تعريف الحكم:
الحكم في اللغة بالضم القضاء، يقال حكمت بين القوم أي فصلت بينهم وقضيت، وأصله المنع، يقال حكمت عليه بكذا منعته من خلافه، ويطلق الحكم على المحكمة أيضاً، وهي ضرب من ضروب العلم[3].
والحكم في اصلاح الأصوليين هو: (خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أوالتخيير أو الوضع) [4].
تحليل التعريف ومحترزاته:
خطاب: الخطاب في اللغة توجيه الكلام من المتكلم نحو غيره لإفهامه، فهو بهذا المعنى مصدر، ثم نقل إلى الكلام الموجه نحو الغير للإفهام، أي أصبح اسما للمخاطب به من الكلام لا لمصدر المخاطبة نفسه، وهذا المعنى المنقول إليه الخطاب هو المراد في تعريفنا للحكم، وقد عرَّف الآمدي الخطاب تعريفاً اصطلاحياً بقوله: (هو اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه)، وبذلك خرج عنه الحركات والإشارات المفهمة بالمواضعة والعرف، فإنها ليست لفظاً، كما خرج عنه الألفاظ المهملة التي لا معنى لها، فإنها غير متواضع عليها، وخرج عنه أيضاً الكلام الذي لم يقصد به إفهام المستمع، فإنه لا يسمى خطاباً.
وإذا كان المقصود بالخطاب الكلام الموجه للغير، كان لابد من بيان معنى الكلام ومدلولاته. فالكلام يطلق على معنيين اثنين، يطلق على العبارة الدالة بالوضع على معناها، ويطلق على مدلول هذه العبارة القائم بالنفس، أي إنه يطلق على اللفظ المفيد للمعنى كما يطلق على المعنى المعبر عنه باللفظ، وهو ما يعرف بالكلام النفسي، ولا شك أن المراد بالخطاب هنا إنما هو الكلام اللفظي، لأن كلام الله تعالى كلام نفسي لا يوصف بصوت ولا حركة[5].
الله: لفظ الجلالة قيد أول، خرج به خطاب الناس بعضهم لبعض، وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم مما ليس بسنة، كأقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم الجبلية، دون ما يعتبر تبليغا عن الله منها، وغير ذلك.
فإن قيل إن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التشريعية ليست خطاباً من الله، وكذلك الإجماع والقياس، مع أنها تثبت أحكاماً شرعية كثيرة، أجيب بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما وجبت طاعته بإيجاب الله سبحانه وتعالى، حيث أمر بها في آيات كثيرة من القرآن الكريم، وكذلك الإجماع، فإنه علامة على قيام الدليل المثبت للحكم، أما القياس فهو مظهر للحكم لا مثبت له، والحكم الذي يظهره القياس ثابت بالقرآن والسنة، وبذلك يتمحض الحكم لله سبحانه وتعالى، إذ لا حكم لأحد غيره مصداقاً لقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام:57).
المتعلق: التعلق هو الارتباط، والمراد به هنا المتعلق المعنوي القديم، لا التعلق اللفظي الحادث، لأن الحكم كما تقدم هو الكلام النفسي لا الكلام اللفظي الحادث، وهو محال على الله تعالى، والمراد من التعلق هنا هو التعلق المبين للمراد منه من إيجاب وندب وغيره.
بأفعال المكلفين: قيد ثان خرج به ما تعلق بذاته تعالى، كقوله سبحانه: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:18)، كما خرج به ما تعلق بمخلوقات الله تعالى من غير المكلفين، كالجمادات والحيوانات وغيرها، كقوله تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طـه:55)، وغير ذلك.
فإن هذه ليست أحكاماً، والفعل في الأصل هو كل ما يطلق عليه أنه فعل عرفاً، وهو مقابل للقول، لكن المراد به هنا هو كل ما يصدر عن الإنسان من حركات تسمى أفعالاً عرفاً، أو ألفاظا ونيات، فالفعل هنا أعم منه في العرف، إذ هو هنا شامل لكل ما يصدر عن اللسان أو القلب أو الجوارح من حركات.
والمكلف: هو الإنسان البالغ العاقل الذي استجمع شرائط التكليف العامة التي ينص عليها الفقهاء في كتبهم، وقد خرج بهذا القيد الخطابات المتعلقة بأفعال الصبي من أمره بالعبادات ببعض المعاملات وغيرها، فإنها ليست أحكاماً شرعية، لأن الصبي ليس من أهل التكليف، فإن قيل يدار عليها الثواب، فإن الصبي المميز مثاب على صلاته وصدقاته، وهذا آية الحكم الشرعي، أجيب بأن الحكم متعلق بوليه لا به، والثواب منحة من الله وفضل، ولكن هذا الجواب غير مقنع، إذ إن الصبي تتعلق به بعض الأحكام مباشرة، من ذلك الزكاة إذا لم يؤدها عنه وليه حتى يبلغ وأخبره بها، فإنه مكلف بأداء ما سبق أن أهمل وليه إنفاقه، وهذه آية التكليف، ثم إن أمره بالإسلام وقبوله منه وهو صغير دليل على أن ما تعلق بأفعاله حكم شرعي أيضا، لا مفر من إدخاله في تعريف الحكم، ولذلك رأى كثير من الأصوليين استبدال كلمة (العباد) بكلمة (المكلفين) فقال: ( ... المتعلق بأفعال العباد) فيدخل في ذلك الصبي وغيره[6].
وقد اعترض بعض الأصوليين على جمع كلمة مكلف، وقال: هذا يخرج الخطاب المتعلق بالأفعال الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم كتزوجه بأكثر من أربع، وغير ذلك، وهي أحكام شرعية بالإجماع، ولو قال بإفراد المكلف لكان أحسن[7].
وأجيب بأن جمع كلمة مكلفين لا يخرج أفعال النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة به، إذ لا خطاب يتعلق بجميع الأفعال، فكان المراد منه المتعلق بأحد أفعال المكلفين، فيدخل في ذلك أفعال النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة، ويكون ذلك من باب قولهم: (زيد يركب الخيل وإن لم يركب إلا واحداً منها) فإنه يفهم أن الركوب متعلق بجنس هذا الجمع لا بأجناس أخرى كالحمير وغيرها، ثم إن القاعدة الأصولية القائلة: (مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحدا) تحل الخلاف وتدخل خواص النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التعريف، لأنه إن أريد المقابلة بين الخطاب والأفعال فإن الخطب ليس بجمع فلا أشكال، وإن أريد المقابلة بين الأفعال والمكلفين فإنه يقال إن الجمع هنا يقتضي القسمة آحاداً، فتكون على التوزيع، ويكون المراد: (بكل فعل صادر عن كل مكلف).
بالاقتضاء أو التخيير: قيد ثالث يخرج به القصص المبينة لأحوال المكلفين وأفعالهم، والأخبار المتعلقة بأعمالهم، كقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات:96)، فإن ذلك ليس بحكم شرعي باتفاق الفقهاء.
والاقتضاء: معناه طلب الفعل أو الترك، وهو على أربعة أنواع هي:
1- طلب الفعل مع المنع من الترك وهو الواجب.
2- طلب الفعل مع عدم المنع من الترك وهو الندب.
3- طلب الترك مع المنع من الفعل وهو الحرام.
4- طلب الترك مع عدم المنع من الفعل وهو المكروه.
والتخيير: معناه إباحة الفعل والترك للمكلف دون ترجيح أحدهما على الآخر، وذهب بعض الفقهاء[8] إلى إهمال هذا القيد (بالاقتضاء أو التخيير) وقالوا هو مفهوم من قولنا أفعال المكلفين، لأن قيد التكليف مراد هنا، والمعنى خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف من حيث هو مكلف، لأن لفظ المكلف مشتق وهو يأذن بعملية الاشتقاق، فيخرج عنه نحو قوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات:96)، لأنها متعلقة بفعل المكلف ولكن لا من حيث كونه مكلفاً، فلا تكون من الحكم.
أو الوضع: الوضع هو الجعل، والمراد به هنا جعل الشارع الشيء سبباً لغيره أو شرطاً له أو مانعاً أو صحيحاً أو فاسداً أو عزيمة أو رخصة، وقد أتى بكلمة (أو الوضع) لتدخل كل هذه الأقسام في التعريف، لأنها من الحكم، واعترض بعض الأصوليين على إدخالها في تعريف الحكم[9]، واستدل بأن هذه الأنواع تدخل تارة تحت قيد الاقتضاء أو التخيير، فلا حاجة إلى زيادة كلمة (أو الوضع)، وتارة لا تكون من الحكم، فلا يصح إدخالها في تعريفه، أما من حيث إنها تدخل تحت تعريف الحكم تارة، فذلك لأن خطاب الوضع داخل في خطاب التكليف، إذ إن معنى جعل الزنا سبباً لوجوب الحد هو وجوب هذا الحد، وهو خطاب تكليفي، وكذلك معنى جعل طهارة المبيع شرطاً لصحة البيع هو جواز الانتفاع عندها وحرمته دونها، والحاصل أن مراد هم من الاقتضاء والتخيير أعم من أن يراد به الصريح فقط أو الضمني فقط، وخطاب الوضع داخل في نطاق التكليف ضمناً لما تقدم أنه دال عليه، فكان داخلاً فيه لذلك، فلا حاجة لأفراده بالذكر.
ولا شك بأن الاصطلاحين متقاربين من حيث الفائدة العملية، لما يوجد من تلازم بين مدلوليهما، وإن كان الاصطلاح الذي اتجه إليه الفقهاء أوضح وأدق في دلالته على المعنى المراد منه، ثم فيه تفريق بين الحكم ودليله، مما يجعل الحكم أكثر جلاء ووضوحاً.
وقد ترتب على هذا الاختلاف في الاصطلاح بين الفقهاء والأصوليين أن اعتبر الأصوليين الحكم قديماً، واعتبره الفقهاء حادثاً، لأن خطاب الله تعالى قديم أما أثره فحادث، ولما كان الحكم عند الأصوليين هو الخطاب نفسه كان الحكم قديماً، ولما كان عند الفقهاء هو أثر الخطاب كان حادثاً لذلك.
أقسام الحكم:
تبين معنا في تعريف الحكم أنه ينقسم إلى قسمين، حكم تكليفي وحكم وضعي، فالحكم التكليفي هو خطاب الله تعالى المتضمن طلباً لفعل من المكلف أو كف عنه أو تخيير فيه، والحكم الوضعي هو خطاب الله تعالى المتضمن ربط شيء بشيء آخر وتعليقه به على وجه السببية أو الشرطية أو المانعية.
ثم إن كلا من الحكمين التكليفي والوضعي ينقسم إلى أقسام متعددة سوف ندرسها تباعاً بإذن الله تعالى، وسوف نبدأ بدراسة أقسام الحكم التكليفي، ثم أقسام الحكم الوضعي، متبعين في ذلك مسلك الأصوليين رضي الله تعالى عنهم.
وللتمييز بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، نود أن نورد النقاط الرئيسة التي يتميز بها كل منهما عن الآخر، وهذه النقاط يمكن أن ندرجها في ثلاثة، هي:
أ) المقصود المباشر من الحكم التكليفي هو طلب فعل من المكلف أو منعه عن فعل أو تخييره فيه، أما الحكم الوضعي، فإن المقصود المباشر منه ليس ذلك، بل هو ربط شيء بشيء آخر، فإن نتج عن ذلك تكليف في بعض الأحوال كان ذلك التكليف أثرا غير مباشر لهذا الحكم، بخلاف الحكم التكليفي، فأثره المباشر هو التكليف، وليس فيه ربط شيء بشيء آخر، مثال الأول: قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الإسراء:78)، فإن فيه ربط وجوب الصلاة بدلوك الشمس، وهذا الربط نتج عنه وجوبها عند دلوكها، ولكن هذا الوجوب ناتج عن الدلوك المربوط به الوجوب لا عن الأمر بالربط مباشرة[10].
ب) الحكم التكليفي خاص بالمكلفين فلا يتعلق بغيرهم. أما الحكم الوضعي فهو يعم المكلفين وغيرهم من بني آدم، إذ يربط الشارع الضمان في المتلفات بأعمال الصبي المميز وغير المميز، كما يربط الصحة أحياناً ببيع الصبي المميز والمعتوه، وكل أولئك ليسوا من أهل التكليف[11].
وأما من حيث أن هذه الأنواع لا تدخل تحت اسم الحكم تارة، ولا هي من مضمونه، فذلك لأنها علامات معرفة للأحكام وليست أحكاماً، ثم هي لا تختص بأفعال المكلفين، بل إن بعضها لا يختص بأفعال العباد مطلقاً، ولذلك لا يصح اعتبارها من أقسام الحكم وأنواعه.
وقد صرح بحذف هذا النوع من الأحكام من تعريف الحكم العضد في شرحه على ابن الحاجب، فقال: (ونحن لا نسمي هذه الأمور أحكاماً وإن سماها غيرنا به، فلا مشاحنة في الاصطلاح) [12].
وقد تعرض صدر الشريعة في التوضيح لهذا القول بالتضعيف، فذكره بعد ما ذكر القول بموجب إدخال الحكم الوضعي في التعريف فقال: (الحق هو الأول، لأن المفهوم من الحكم الوضعي تعلق شيء بشيء آخر، والمفهوم من الحكم التكليفي ليس هذا، ولزوم أحدهما للآخر في صورة لا يدل على اتحادهما نوعاً) [13].
ولكن صاحب التلويح تعقب المصنف في قوله هذا بالرد عليه، فقال: (وأنت خبير بأنه لا توجيه لهذا الكلام أصلا، أما أولاً: فلأن الخصم يمنع كون الخطاب الوضعي حكماً يصطلح على تسمية بعض أقسام الخطاب حكما دون البعض، فكيف يجب عليه ذكر الوضعي في تعريف الحكم، بل كيف يصح، وأما ثانيا: فلأنه يمنع كونه خارجاً عن التعريف، ويجعل الخطاب التكليفي أعم منه شاملاً له، فأي ضرر له في تغاير مفهوميهما، بل كيف يتحد مفهوم العام والخاص[14].
هذا ولابد من الإشارة هنا إلى أن جمهور علماء الأصول اصطلحوا على ذكر الحكم الوضعي في تعريف الحكم ،وأفردوه باسم مستقل به عن الحكم التكليفي لما تقدم.
وقد عرف الآمدي الحكم الشرعي بتعريف غير التعريف الأول الذي اتفق عليه الجمهور، فقال: (الحكم خطاب الشارع بفائدة شرعية تختص به) [15].
فقد استبدل بكلمة (الله تعالى) كلمة الشارع، ليعم كل المصادر التشريعية غير القرآن الكريم، كالسنة الشريفة والإجماع والقياس وغيرهما، وقد بينا أنها داخلة أيضاً في التعريف الأول، لأنها جميعاً معرِّفة لحكم الله سبحانه وتعالى ومبينة له، ووجَّهنا كل ذلك.
هذا تعريف الأصوليين للحكم، وقد خالف الفقهاء هذا التعريف، وذهبوا إلى أن الحكم هو ما ثبت بالخطاب لا هو[16]، أو هو أثر الخطاب، فقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء:103)، حكم عند الأصوليين، أما الفقهاء فالحكم عندهم هو وجوب الصلاة المستمد من هذه الآية الكريمة، والآية دليل الحكم.
لذلك رأينا بعض الأصوليين يستبدل بكلمة (مكلفين) كلمة (عباد) في تعريف الحكم ليدخل الحكم الوضعي في التعريف.
ج) الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بما هو مقدور للمكلف، لأن القصد المباشر منه هو التكليف، والله سبحانه وتعالى قضت حكمته أن لا يكلف إلا بما هو مقدور للمكلف، رحمة منه ومنا، إذ التكليف بغير المقدور عبث والعبث محال على الشارع، أما الحكم الوضعي فليس فيه تكليف فجاز تعلقه بما هو غير مقدور للمكلف كما جاز تعلقه بما هو مقدور له أيضاً.
مثال الأول: قوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) (البقرة:43)، فإنه تكليف، وهو مقدور للمكلف، إذ الإعطاء ممكن له ومقدور مادام يجد ما يستطيع الإنفاق منه من المال، فإذا لم يجد ما ينفق منه لم يجب عليه شيء.
ومثال الثاني: قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)(الإسراء:78) فإن دلوك الشمس ليس في مقدور الإنسان ولا من صنعه.
أقسام الحكم التكليفي:
قدمنا أن الحكم التكليفي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، وبينا معنى كل من الاقتضاء والتخيير، كما شرحنا بإيجاز أنواع الاقتضاء، ومن خلال هذا الموجز الذي قدمناه في تعريف الحكم نستطيع أن نقسم الحكم التكليفي إلى خمسة أقسام يقتضيها العقل، ذلك أن الطلب إما أن يكون للفعل أو للترك، وكلاهما إما أن يكون بطريق الجزم والمنع من المخالفة أولا يكون كذلك، أو يكون تخييراً بين الفعل والترك[17].
ـ فإن كان طلباً للفعل وكان بطريق الجزم، سمي واجباً.
ـ وإن كان طلباً للفعل وكان بغير جزم، سمي مندوباً.
ـ فان كان طلباً للترك وكان بطريق الجزم، سمي حراماً.
ـ وإن كان طلباً للترك وكان بغير جزم، سمي مكروهاً.
ـ وإن كان تخييراً بين الفعل والترك على حد سواء، سمي مباحاً.
وعلى ذلك تكون أقسام الحكم التكليفي خمسة، هي الواجب والحرام والمندوب والمكروه والمباح.
هذا هو التقسيم الذي مشى عليه جمهور الفقهاء، وخالف في ذلك الحنفية، وزادوا قسمين اثنين على هذه الأقسام الخمسة، هما الفرض والمكروه تحريماً، فجعلوها سبعة بدل خمسة.
وذلك أنهم نظروا إلى الواجب المعرَّف في هذا الباب من زاوية خاصة، وقسموه إلى قسمين، فما كان ثابتاً منه بدليل قطعي في ثبوته ودلالته سموه فرضاً، وما كان ثابتاً منه بدليل ظني في ثبوته أو دلالته سموه واجباً.
كما أنهم نظروا إلى المحرَّم المعرف في هذا الباب من الزاوية الخاصة نفسها التي نظروا من خلالها إلى الواجب، فما كان منه ثابتاً بدليل قطعي سموه حراماً، وما كان ثابتاً منه بدليل ظني سموه مكروهاً تحريماً.
هذا التقسيم تفرد الحنفية باختياره دون غيرهم من الأئمة، حتى عرفوا به، وإن لهم (دون شك) في هذا الاختيار وجهاً قوياً ومستنداً من اللغة، ذلك أن الفرض في اللغة التقدير[18] وهو مناسب لما كان مقدراً بدليل قطعي من قبل الشارع ولا محل للرأي فيه، وهو حد الواجب عند الجمهور، أما لفظ الواجب، فهو في اللغة يطلق على اللازم والثابت كما يطلق على الساقط، فمن الأول قولهم: وجبت الشمس أي لزمت وثبتت، ومن الثاني: وجب الحائط بمعنى سقط، ومنه قوله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الحج:36)، أي سقطت[19]، فالمعنى الأول للواجب يتساوى فيه مع الفرض، إذ إن كليهما يفيد معنى اللزوم، أما المعنى الثاني فيفترق فيه عنه، إذ إن الواجب يعطي معنى السقوط دون الفرض، والطلب الثابت من الشارع بدليل ظني يتضمن هذا المعنى إذ أنه ساقط من المكلف اعتقاده، فكان هذا اللفظ أليق به دون الفرض.
هذا من ناحية اللغة، وأما من ناحية التقعيد الفقهي فهو دقيق أيضاً ومناسب، ذلك أن الفقهاء كادوا يتفقون على أن ما ثبت بدليل قطعي اعتبر منكره كافراً، وما ثبت بدليل ظني اعتبر منكره فاسقاً فقط، ولا يكفر لهذه الظنية.
ثم إن الفقهاء جميعاً نجدهم يفرقون بين كثير من الأحكام في أكثر العبادات والمعاملات من حيث أثرها على صحة تلك العبادات والمعاملات، فيجعلون فوات بعضها موجباً لفسادها، وفوات بعضها الآخر غير مفسد لها، وذلك دون أن يفردوا كلا من ذلك باسم خاص به.
كما أنهم في الصلاة يفرقون بين ما يقتضي تركه سجوداً لسهو منها، وبين ما لا يقتضي سجود السهو، كسنة الأبعاض عند الشافعية، فإن فوات واحد منها يقتضي سجودا السهو وينجبر به دون سنة الهيئة، ودون الواجبات التي يقتضي فوات واحد منها بطلان الصلاة.
ثم إنهم اضطروا في بعض الأحكام في العبادات إلى التفريق بين ما ثبت بدليل قطعي وبين ما ثبت بدليل ظني، فسموا الأول فرضاً وسموا الثاني واجباً جرياً على اصطلاح الحنفية، كما في الحج عند الشافعية.. كل هذه الفوارق التي نلحظها بين الفرض والواجب في اصطلاح الحنفية من الأحكام تدعونا لأن نرجح مذهبهم في تقسيم ما ثبت عن الشارع طلبه بجزم إلى ما كان ثبوته بدليل قطعي فنسيه فرضاً وما كان ثبوته بدليل ظني فنسيه واجباً.
وما دام الجمهور متفقين على التفريق بين ما ثبت بدليل قطعي وما ثبت بدليل ظني في كثير من الأحكام على الوجه المتقدم، فيصبح إفراد كل واحد منها باسم مستقل به عن الآخر علامة عليه إفرادا مستساغا ودقيقاً، وعلى كل فالخلاف بين الجمهور والحنفية إنما هو لفظي فقط لا يؤثر في جوهر الموضوع، إذ إن ما يترتب على ذلك من الأحكام متفق عليه، وقد عبر عن ذلك الأستاذ أبو النور زهير حيث قال: (وبذلك يكون غير الحنفية قد رتبوا على القطع والظن ما رتبه الحنفية على كل منهما، فلا خلاف بينهم في المعنى[20] كما أشار إلى ذلك في شرح العضد حيث قال: (والنزاع لفظي).
هذا ولابد من الإشارة إلى أن الحنفية قد يطلقون لفظ الفرض على الواجب ولفظ الواجب على الفرض تجوزاً في كثير من عباراتهم، فلا ينبغي أن يدعو ذلك إلى التشكيل في التزامهم بهذا الاصطلاح أبداً[21]، بل هم ملتزمون به في كل أبواب الفقه دون استثناء.
[1] شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/199.
[2] انظر حاشية السيد على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/221.
[3] انظر المصباح المنير ومختار الصحاح مادة (حكم).
[4] انظر التوضيح والتلويح عليه 1/13، وشرح العضد على المنتهى الأصولي 1/221، مسلم الثبوت وفواتح الرحموت 1/54.
[5] انظر حاشية السيد على شرح العضد 1/221. والتلويح على التوضيح 1/13.
[6] انظر التوضيح 1/15.
[7] شرح العضد على مختصر الحاجب 1/221.
[8] انظر التلويح على التوضيح 1/14 ـ وشرح العضد على ابن الحاجب: 1/222.
[9] شرح العضد على ابن الحاجب: 1/222.
[10] وهذا الفارق مفهوم من تعريف الحكم السابق.
[11] انظر في ذلك شرح العضد على ابن الحاجب: 1/222 ـ 223.
[12] العضد على ابن الحاجب: 1/222.
[13] التوضيح 1/14.
[14] التلويح على التوضيح 1/14 ـ وانظر فواتح الرحموت 1/55.
[15] انظر شرح العضد: 1/222.
[16] انظر التلويح على التوضيح 1/15.
[17] انظر شرح العضد على ابن الحاجب 1/335 ـ وانظر التلويح على التوضيح 2/123 ـ 124، وانظر فواتح الرحموت 1/57
[18] انظر المصباح المنير ـ مادة (فرض).
[19] المصباح المنير ـ مادة (وجب).
[20] انظر في ذلك شرح العضد على ابن الحاجب 1/232، والتلويح على التوضيح 2،124، ومذكرات الأستاذ محمد أبي النور زهير: 1/55.
[21] انظر في ذلك التوضيح والتنقيح عليه: 2/124.