مصادر التشريع الإسلامـي
تمهيــــد:
كل شريعة قامت على وجه هذه الأرض، وكل نظام أو قانون عاش فيها، لا بد أن يكون ناشئا عن أحد مصدرين اثنين لا ثالث لهما، فهي إما أن تكون من قبل الله سبحانه وتعالى خالق البشر ومربيهم، وإما أن تكون من صنع البشر أنفسهم.
فالنوع الأول هو ما يدعى بالشرائع السماوية، والنوع الثاني هو ما يسمى بالشرائع الوضعية، وعلى ذلك نرى أن شرائع العالم كله تنقسم إلى قسمين بحسب طبيعة مصدرها ومنشئها، وشريعتنا الإسلامية التي هي موضع دراستنا إنما هي شريعة من النوع الأول، إذ هي شريعة سماوية صادرة عن الله سبحانه، ولا دخل فيها لأي إنسان مهما ارتفعت رتبته وعلا مقامه، فالمشرع الأوحد عندنا هو الله سبحانه وتعالى، ولا يعترف المسلون لأحد غيره بحق التشريع، حتى النبي صلى الله عليه وسلم فإنما نقبل قوله وعمله وتقريره لأنه مخبر عن الله تعالى وناقل لأوامره ونواهيه ليس إلا، ولذلك أجمع المسلون على أن الأقوال والأعمال التي صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة الإنسانية لا تعتبر تشريعا ملزما بحال، كطريقته صلى الله عليه وسلم في أكله وشربه ونومه ...
وكذلك الفقهاء والعلماء والمجتهدون، فإنه لا دخل لهم في التشريع أبدا، وكل مالهم أن يفعلوه هو أن يعملوا عقولهم في فهم ما ورد عن الشارع من النصوص في حدود الضوابط التي وضعوها لهذا الفهم، دون الزيادة على هذه النصوص أو الإنقاص منهــا.
وعلى ذلك فإن المصدر التشريعي الوحيد في الشريعة الإسلامية إنما هو قول الله سبحانه وتعالى ليس إلا، قال سبحانه: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام:57)، فإنه هو المشرع الحقيقي ولا مشرع غيره. والقرآن كلام الله تعالى قامت على ذلك كل البراهين والأدلة النقلية والعقلية، وسوف نورد شيئا من ذلك في موضع حجية القرآن الكريم وأدلة هذه الحجية، ولذلك أجمع المسلمون على اختلاف نزعاتهم وآرائهم ومذاهبهم على أن القرآن مصدر من مصادر الشريعة، بل هو المصدر الوحيد فيها، وما عداه من المصادر المعتبرة إنما هو تابع للقرآن أو فرع عنه، لثبوت حجيته بالقرآن نفسه، فيكون اتباعه والاحتكام إليه واستنباط الأحكام منه وعده مصدرا أصليا إنما هو على سبيل المجاز لا الحقيقة، إذ إن إتباعه إنما هو اتباع للقرآن حقيقة، لأن القرآن هو الذي أمر باتباعه.
وعلى ذلك يكون القرآن هو المصدر الأصلي لهذه الشريعة، وما عداه من المصادر المتفق عليها والمختلف فيها إنما هي مصادر تبعية، أو مصادر مجازية إن صح التعبير، لأنها في ثبوت حجيتها محتاجة للقرآن ومتوقفة عليه.
وإلى هذا المعنى أشار الغزالي في المستصفى حيث قال: (واعلم أنا إذا حققنا النظر بأن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى: إذ قول الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحكم ولا ملزم، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم، كذا وكذا، فالحكم لله تعالى وحده، والإجماع يدل على السنة الشريفة ، والسنة على حكم الله تعالى، وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية، بل يدل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع، فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه).
لكننا نرى بعض العلماء بل أكثرهم يذهبون إلى أن القرآن والسنة والإجماع والقياس مصادر أصلية كلها، وما عداها مصادر تبعية، فيخالفون بذلك ظاهر ما تقدم تفصيله من اعتبار القرآن أصلا وما عداه تبعا له.
والجواب أن لهؤلاء الفقهاء عذرهم في هذا التقسيم، وهو تقسيم اعتباري على أي حال لا يؤثر في جوهر الموضوع في شيء، وحجتهم في هذا التقسيم هي أن هذه المصادر الثلاثة بعد القرآن الكريم هي مصادر غنية بالأحكام كالقرآن، بل إن بعضها أكثر منه غناء من حيث الكم، كالقياس، ثم إن هذه المصادر أثبتت في كثير من الأحيان أحكاما سكت عنها القرآن الكريم بتاتا ولم يتعرض إليها، كالسنة في كثير من مواضعها أو بعضها في بعض الأحيان تنسخ أحكاما جاء بها القرآن عند أكثر الفقهاء، فهي لهذه الأسباب تعد مصادر أصلية، بمعنى أنها مستقلة في إنشاء الأحكام عن القرآن الكريم، ولا يضر كونها ثبتت حجيتها بالقرآن في جعلها أصلية بحال، بخلاف المصادر الأخرى، فإنها لم تنفرد عن القرآن الكريم وهذه المصادر الثلاثة التي بعده في تشريعها للأحكام، بل هي تفسير لها أو استثناء منها أو علامة عليها، ولذلك فهي محتاجة إليها وفرع عنها، فكانت تبعية لذلك، كالاستحسان والاستصحاب وعمل الصحابي وغيره ... .
هاتان هما وجهتا نظر الفقهاء في بيان الأصلي والتبعي من المصادر، عرَّفتهما وبينت مناط الاختلاف فيهما، وأشرت إلى أن لكل منها وجهة نظر سليمة وموضوعية.
والحق أن القول الأول هو الأقرب للواقع، بل هو عين الواقع، وإن كان القول الثاني، أسهل في التبويب والتنسيق، وعلى كل، ذلك اصطلاح ولا مشاحَّة في الاصطلاح كما يقول الأصوليون، وإنني في هذه الدراسة الموجزة لمصادر التشريع الإسلامي سوف أمشي على القول الثاني لسهولته ووضوحه، فأقسم المصادر إلى قسمين: مصادر متفق عليها وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس، وتسمى بالمصادر الأصلية، ومصادر مختلف فيها، وهي ما عدا المصادر الأربعة الأولى، وتسمى بالمصادر التبعية.