الاستحسان
تعريفه:
الاستحسان في اللغة عد الشيء حسناً.
وفي الاصطلاح اختلف العلماء في تعريفه اختلافاً كبيراً، وقد عرفه صاحب التوضيح بعد ما ذكر الاختلاف فيه، فقال: (والصحيح أنه دليل يقع في مقابلة القياس الجلــي). والمعنى المراد من ذلك هو العدول بالمسألة عن حكم نظائرها لدليل أدق اقتضى هذا العدول، أي هو ترك القياس الظاهر لدليل اقتضى هذا الترك.
هذا هو الاستحسان عند عامة الحنفية، وذهب بعضهم إلى تخصيصه في صور محدودة، فقالوا: هو ترك القياس الجلي لقياس خفي، وبذلك خصوه بصورة واحدة من صور الاستحسان بحسب الإطلاق الأول، وهي حالة العدول عن القياس الجلي لدليل أدق هو القياس الخفي، دون غيره من الأدلة الأخرى، كنصوص الكتاب والسنة والإجماع،والضرورة وغيرها.
أنواع الاستحسان:
للاستحسان عند عامة الحنفية أنواع عدة بحسب اختلاف أنواع الدليل الذي ترك القياس الجلي من أجله، خلافاً لبعضهم الذي قيده في حالة واحدة فقط كما تقدم، وهذه الأنواع هــي:
أ - استحسان النص: وهي الأحكام التي عدل فيها عن القياس الجلي إلى نص خاص جاء به الكتاب العزيز أو السنة الشريفة المطهرة، مثال ذلك عقد السلم، فإنه في القياس باطل، لأن القواعد العامة في الشريعة تبطل العقد على المعدوم، والسلم عقد على معدوم، ولكن جاءت السنة الشريفة بنصوص خاصة في تصحيحه، منها قول بعض الصحابة: (منع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم)، فإنه دليل على الاستثناء من القواعد العامة.
ومنها شهادة خزيمة كما مر، فإنها مستثناة من القواعد العامة بنصوص السنة الشريفة.
ب) استحسان الإجماع: وهو الأحكام التي أثبت الإجماع شرعيتها خلافاً للقواعد العامة في الشريعة، من ذلك: عقد الاستصناع، فإنه باطل حسب القواعد العامة، لأنه عقدان في عقد، وهو ممنوع، ولأنه بيع ما ليس عند الإنسان، وهو باطل. ولكن الإجماع انعقد على جوازه، فكان مباحاً استحساناً لذلك.
ج) استحسان الضرورة: وهو الأحكام التي شرعت على خلاف القواعد العامة للضرورة، فإن الضرورات تبيح المحظورات، ومن أمثال ذلك، الأجير المشترك -كما تقدم-، فإن الأصل فيه عدم التضمين في حالة هلاك الشيء في يده بدون تقصير منه، إلا أن الضرورة قضت بتضمينه، وهي حاجة الناس الملحة إلى ترك ثيابهم وممتلكاتهم بين يديه، فلولا التضمين لتهاون في حفظها وأدى ذلك إلى تلفها وضياعها، فكان التضمين هنا محتاجا إليه ضرورة، ، فعدل فيه عن القياس لذلك، وينبغي أن يتنبه هنا إلى أن للحاجيات حكم الضروريات في حق العدول عن القياس.
د) استحسان القياس الخفي: وهو النوع الذي اقتصر عليه بعض الحنفية -كما تقدم-، وذلك بأن يعدل عن القياس الجلي إلى قياس خفي أولى منه بالأخذ والعمل، والقياس الجلي هو القياس الذي تظهر علته للمجتهد لأول نظرة، وأما القياس الخفي فهو القياس الذي لا يستطيع المجتهد تبين علته إلا بعد تدقيق نظر وسبر عميق، ومثال ذلك سؤر سباع الطير، فإن القياس الجلي يقتضي إلحاقه بسباع البهائم، بجامع نجاسة اللعاب في كل، فيكون نجسا، فإن نجاسة اللعاب علة واضحة لتنجيس السؤر، ولكن القياس الخفي الذي يظهر بعد النظر والتدقيق يقتضينا أن نحلق سؤر سباع الطير بسؤر الآدمي لا بسؤر سباع البهائم، فنحكم بطهارته، وذلك لأن المعنى في طهارة بسؤر الآدمي هو عدم تماس لعاب نجس منه بالماء، وذلك لطهارة لعابه، وهو موجود في سباع الطير إذ هي تشرب بمناقيرها ومناقيرها طاهرة، فحصل فيها عدم تماس لعاب نجس بالماء كما حصل للآدمي، ولا يضر حصوله في الآدمي لطهارة لعابه وحصوله في سباع الطير لعدم تماس لعابها مع الماء، فكان إلحاق سؤرها بسؤر الآدمي أولى، وهو قياس خفي.
حجية الاستحسان ومذاهب الفقهاء فيها:
أول من أوضح فكرة الاستحسان وقال بها هم الحنفية.
أما المالكية والحنابلة فلم يقولوا بها تحت هذا الاسم الخاص به، وإن كانوا يعملون به في تفريعاتهم للأحكام تحت أسماء متعددة كما سيأتي.
وأما الشافعية فقد رفضوا الأخذ به، واعتبروه خروجا على أحكام الشريعة، حتى إن الشافعي ثبت عنه قوله: (من استحسن فقد شرع).
ولكن تدبر هذا الاختلاف والتحقيق فيه كفيل بإزاحة الستار عن حقيقته، وإذ ذاك يتبدى لنا أنه لا خلاف بين الحنفية والشافعية في حجية الاستحسان في حقيقة الأمر، وأن الاختلاف بينهما لفظي فقط،.
ذلك أن الاستحسان إن كان معناه ترك القواعد العامة في الشريعة للهوى فهو مردود عندهما من غير خلاف، وإن كان معناه ترك القواعد العامة لنصوص القرآن الكريم و السنة الشريفة والإجماع فذلك محط اتفاق بينهم، كيفما سمي ذلك، فالحنفية يسمونه استحسان النصوص أو استحسان الإجماع، والشافعية يسمونه قرآنا أو سنة أو إجماعا دون إضافة لفظ الاستحسان إليه.
وإن كان تركا للقواعد العامة من أجل الضرورة، فهذا مسلم أيضا عندهما، لأن الضرورات تبيح المحظورات بالاتفاق.
وإن كان تركا للقياس الجلي لقياس خفي أدق منه، فهو محل اتفاق أيضا، لأنه ترك قياس مرجوح إلى قياس راجح، فليس فيه خروج على القياس.
وبذلك نستطيع أن نقول إن الاستحسان بالقيود والشروط السابقة محل اتفاق بين المجتهدين على حجيته، وإن كانوا اختلفوا في تسميته، فإن ذلك اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح.
حكم الاستحسان ومرتبته بين مصادر التشريع:
الاستحسان يختلف حكمه باختلاف دليله الذي ثبت به، فإن كان نصا من القرآن الكريم أو السنة الشريفة اعتبر حكمه بحكم ذلك النص ثبوتا ودلالة، وإن كان دليله الإجماع فحكمه حكم الإجماع، وهو قطعي إذا ثبت الإجماع بطريق متواتر، وإلا فظني، وإن كان \ليله القياس الخفي أو الضرورة، كان ظنيا لظنية القياس والضرورة، وعلى ذلك الاعتبار تكون مرتبته بين الأدلة الأخرى بحسب مرتبة الدليل الذي يثبت به على النحو المتقدم.