السنة المطهـــــرة
تعريفها:
السنة الشريفة في اللغة الطريقة المعتادة، حميدة كانت أو ذميمة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة حسنة له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)[1].
والسنة في الاصطلاح الأصولي[2] ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير القرآن الكريم من قول أو فعل أو تقرير، والسنة بهذا التعريف الاصطلاحي بينها وبين الحديث عموم وخصوص مطلق، إذ الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وسلم أما السنة الشريفة فقوله أو فعله أو تقريره، فكل حديث سنة ولا عكس، وقيل الحديث ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه رضي الله عنهم من قول أو فعل أو تقرير، أما السنة الشريفة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقط دون ما روى عن الصحابة، فإنه ليس بسنة، وعلى كل، فذلك اصطلاح ولا مشاحَّة في الاصطلاح.
هذا تعريف السنة الشريفة في اصطلاح الأصوليين، وهو مدار بحثنا هنا، أما السنة الشريفة في اصطلاح الفقهاء، فهي مرتبة بين الواجب والمباح، وهي كل أمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم وتركه أحيانا، أو فعله أحياناً وتركه في أكثر الأحيان، أو هي الأمر المطلوب لا على سبيل الحتم، بحيث لا يعاقب تاركه بل يعاتب، إلى غير ذلك من التعريفات الكثيرة التي يوردها الفقهاء في تعريف السنة الشريفة.
وكذلك تطلق السنة الشريفة في مقابلة البدعة، فتكون السنة الشريفة بهذا المعنى ما عمله النبي صلى الله عليه وسلم وقاله أو أقرّ عليه، أو ما كان على وفق ذلك، والبدعة ما كان منافيا له.
أنواع السنة الشريفة:
من تعريف السنة الشريفة لسابق عند الأصوليين نلاحظ أنها أقسام ثلاثة، هي:
السنة القولية والسنة الفعلية – والسنة التقريرية.
فالسنة القولية: هي كل ما نقل لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله الشريفة، وهي كثيرة تكاد لا تدخل تحت الحصر، ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلواته وجلواته، وكانوا يعنون عناية فائقة في حفظ كلامه واستذكاره وروايته، لعلمهم بأنه أصل من أصول هذه الشريعة، حتى إن بعضهم كان يدون عنه كل ما يقول، من أمثال عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقره على ذلك، ومن أمثلته قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)[3]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان)[4] وغير ذلك.
والسنة الفعلية: هي كل ما رواه الصحابة الأجلة عن أفعاله صلى الله عليه وسلم وأعمال وعبادته وكل تصرفاته، فقد أحصوا – لشدة حرصهم – أفعاله كلها ونقلوها لنا، من ذلك كيفية وضوئه وصلاته وصومه وتهجده، ومعاملته لنسائه، وأقاربه وصحابته وغير ذلك ويعرف فعله صلى الله عليه وسلم بقول الصحابي: (فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا).
والسنة التقريرية: هي أن يقال قول أو يفعل فعل أمام النبي صلى الله عليه وسلم أو أمام غيره فيراه أو يسمع به فيسكت عنه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مشرِع لا يجوز سكوته على معصية، ولذلك يعتبر سكوته عن هذا الفعل أو القول إقرارا بمشروعيته، أي إن سكوته صلى الله عليه وسلم بمثابة قوله: (هذا حلال أو هذا مشروع)، وإذا كان ذلك كذلك كان سنة، ومن باب أولى ابتسامته واستبشاره واستحسانه للفعل أو القول الذي جاء بين يديه، فإنه دليل على رضاه عنه وإقراره لمشروعيته أيضا، فمن أمثلة النوع الأول قول أحد الصحابة: (أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأكل منه ولم ينهنا عن أكله) رواه الترمذي، ومن النوع الثاني ما روي من سؤاله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله إلى اليمن قاضيا، حيث قال له: بم تقضي يا معاذ؟ قال بكتاب الله، قال فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندها: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي الله ورسوله)[5]، فهذا الاستحسان دليل الرضا والإقرار لما ذهب إليه معاذ.
مراتب السنة الشريفة من حيث ثبوتها:
القرآن الكريم كله متواتر بجملته وتفصيله، ولذلك لا محل لتفصيل مراتبه من حيث الثبوت، فإنه في مرتبة واحدة هي مرتبة القطع واليقين، إذ هو حكم التواتر.
أما السنة الشريفة، فهي متواترة بمجموعها، بمعنى أنه تواتر لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم صدرت عنه سنة هي أقوال وأفعال وتقريرات، ولكن مفردات السنة الشريفة وتفصيلاتها ليست متواترة كلها، بل فيها المتواتر، وفيها ما هو دون ذلك، ولذلك قسمها الأصوليون إلى أقسام ومراتب تبعاً لطريق ثبوتها ودرجته.
فقد ذهب جمهور الأصوليين إلى أنها من حيث ثبوتها على مرتبتين: السنة المتواترة، والسنة الآحادية، وذهب الحنفية إلى أنها على ثلاث مراتب، هي: السنة المتواترة، والسنة الآحادية، والسنة المشهورة، وهي مرتبة ثالثة بين التواتر والآحاد.
السنة المتواترة:
التواتر في اللغة التتابع، وفي اصطلاح الأصوليين ما رواه قوم عن قوم يحيل العقل تواطؤهم على الكذب، وقد بينا في تعريفنا للقرآن وتحليلنا له شروط التواتر وأركانه، فلا حاجة إلى إعادة ذلك هنا.
وعلى ذلك فالسنة المتواترة هي: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته التي وردت إلينا مستوفية شروط التواتر من حيث سندها، والسنة المتواترة قليلة جداً بشكل إجمالي، وهي في أفعاله أكثر منها في أقواله صلى الله عليه وسلم ، ذلك أن السنة الشريفة القولية المتواترة قليلة جداً، وهنالك كتب كثيرة عنيت بجميع السنة الشريفة المتواترة.
ومن السنة الشريف القولية المتواترة قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا وصية لوارث) فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه متواتر السند في المعنى.
ومن السنة الشريفة الفعلية المتواترة كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وحجه صلى الله عليه وسلم ، فقد رويت لنا كل أفعاله تلك بأسانيد متواترة.
السنة المشهورة: المشهور في تعريف الحنفية هو: ما تواتر في القرنين الثاني والثالث وكان آحادياً ـ أي لم يبلغ حد التواتر ـ في القرن الأول، وهو فوق الحديث الآحادي من حيث الثبوت وليس مثله كما سوف يأتي.
وهذا هو مذهب الحنفية، أما الجمهور فإنهم يدخلونه في حديث الآحاد.
السنة الآحــادية:
وهي ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد أو أكثر لم يبلغوا حد التواتر في كل القرون، فمن بلغ عدد رواته حد التواتر في أحد القرون دون القرون الأخرى فهو آحادي. هذا عند الجمهور، أما على مذهب الحنفية فالآحادي عندهم ما لم يبلغ مرتبة التواتر في القرنين الثاني والثالث فقط، دون القرن الأول، فلو بلغ عددهم مرتبة التواتر في القرنين الثاني والثالث دون الأول فإنه مشهور وليس بأحادي كما تقدم.
مراتب العلم المستفاد من السنة الشريفة:
يحدد الفقهاء والأصوليون للعلم مراتب أربعة هي: القطع أو اليقين، والظن، والشك، والوهم.
فالقطع واليقين: ما كان العلم فيه جازماً لا احتمال معه للنقيض مطلقاً.
والظن: ما كان جانب الإيجاب فيه راجحا على جانب السلب، أي إن احتماله للنقيض مرجوح لا راجح.
والشك: ما تساوى فيه جانب الإيجاب مع جانب السلب، أي تساوى فيه احتمال الشيء ونقيضه.
والوهم: ما كان جانب السلب فيه راجحاً على جانب الإيجاب، وكان احتمال النقيض فيه غالباً.
هذا مذهب الجمهور، أما الحنفية فيضيفون إلى ذلك مرتبة خامسة وسطاً بين اليقين والظن هي مرتبة طمأنينة الظن، وهي ما كان جانب الإيجاب فيها راجحاً رجحانا كبيراً يقربه من اليقين.
هذا والأصوليون متفقون على أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بطريق القطع أو الظن، فقط، أما الشك والوهم فلا يجوز أن تدار الأحكام عليهما بحال.
وقد قسم جمهور الأصوليين السنة الصحيحة بحسب طرق ثبوتها إلى مرتبتين وهما: التواتر الآحاد، وقالوا: الحديث المتواتر يفيد القطع أي العلم اليقيني، أما السنة الآحادية فإنها تفيد الظن، وذهب الحنفية إلى زيادة الحديث المشهور بين المتواتر والآحادي وقالوا إنه يفيد طمأنينة الظن وهي مرتبة فوق الظن ودون اليقين، هذا من حيث الثبوت فقط، لأن الحديث المتواتر قد يفيد الظن فقط دون اليقين إذا كان ظني الدلالة، ولكننا نحن الآن نقرر الأحكام الثابتة على فرض أن هذه الأحاديث قطعية الدلالة، فإذا كانت ظنية الدلالة فإنها تنزل بمرتبة العلم المستفاد من الحديث المتواتر أو المشهور إلى الظن، لهذه الظنية في الدلالة، لا لطريقة الثبوت، وهذا بحثا آخر يتعلق بباب الدلالات.
حجية السنة الشريفة :
السنة الشريفة دليل أصلي من أدلة التشريع الإسلامي، وقد ثبتت حجيتها بالقرآن والسنة والإجماع والعقل.
أما الكتاب: فآيات كثيرة تدل على أن الله فرض علينا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يقوله ويفعله ويقره من الأعمال والتصرفات، من ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59)، وقوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء:80)، فإن في هاتين الآيتين الكريمتين أمر صريح وبيان واضح بأن طاعة الله وطاعة الرسول شيء واحد لا تقبل إحداهما إلا بالأخرى، وما طاعة الله إلا اتباع كتابه، وما طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا إتباع سنته، وقد أثبتنا حجية الكتاب قبل قليل، فلم يبق إلا اعتبار السنة الشريفة حجية بدلالة ذلك، ثم قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36)، وقوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)، فإن في هاتين الآيتين إلزام من الله تعالى باتباع حكم النبي صلى الله عليه وسلم ، وما الحكم إلا جزء من أقواله أو أفعاله صلى الله عليه وسلم ، وهو من السنة الشريفة، ثم قوله تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى)(النجم:3-4)) فيه دليل على أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من السنة الشريفة إنما هو وحي من عند الله تعالى، وما كان من عند الله واجب الاتباع، لأن الله هو المشرع. فلذلك كانت السنة الشريفة واجبة الاتباع، فإن قيل: إن كانت السنة الشريفة وحياً فما الفرق بينها وبين القرآن الكريم، أجيب بأن القرآن الكريم جاء عن طريق الوحي بلفظه ومعناه، أما السنة الشريفة فمعناها من الله تعالى، أما ألفاظها فمن النبي صلى الله عليه وسلم فإن قيل: فما الفرق بين الحديث النبوي والحديث القدسي، إذ الحديث القدسي معناه من الله تعالى ولفظه من النبي صلى الله عليه وسلم ، أجيب عنه أيضاً، بأن الحديث القدسي ألقي معناه في روع النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي المباشر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصرح بهذا المعنى أحيانا فيقول: (نفث في روعي...) أما الحديث النبوي فمعناه من الله تعالى عن طريق التسديد لا عن طريق الوحي المباشر، ومثل هذه الآيات الدالة على حجية السنة الشريفة كثير في القرآن الكريم.
وأما السنة الشريفة: فأحاديث كثيرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير فيها بصراحة إلى أن طاعته واجبة، وأن أمره إنما هو من الله سبحانه وتعالى، منها:
1- قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (تركت فيكم أمرين ما إن اعتصمتم بهما فلن تضلوا أبدا، كتاب الله وسنة نبيه)[6]، فإن في هذا القول النبوي الكريم تسوية بين القرآن الكريم والسنة الشريفة في الحجية.
2- ما رواه المقداد بن معديكرب من قوله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أحدكم أن يقول: هذا كتاب الله ما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه، ألا من بلغه عني حديث كذب به فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه)، فإن هذا الحديث الشريف نص في الباب.
3- حديث معاذ بن جبل المتقدم في تعريف السنة الشريفة التقريرية المتضمن معنى قوله: (أقضي بالقرآن ثم بالسنة ثم اجتهد رأيي)، حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله، فإن في هذا إقراراً صريحاً بحجية السنة الشريفة .
وأما الإجماع: فهو ما ثبت لدينا بطريق لا شبهة فيه من أن الصحابة كانوا يلتزمون سنته صلى الله عليه وسلم وقضاءه في حياته، ولا يخالفونه في شيء، ولا يطلبون منه دليلاً غير قوله وفتواه، والتزامهم بهذا المبدأ بعد وفاته، فإنهم كانوا إذا لم يجدوا في القرآن الكريم بغيتهم لجؤوا إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم يتساءلون فيما بينهم هل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحادثة شيء؟ هل قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الأمر بشيء؟ فإن وجدوا قضوا بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يجدوا أعملوا عقولهم وقاسوا هذا الأمر على الأمور الأخرى المنصوص عليها في القرآن الكريم أو السنة الشريفة وقد عُلم ذلك منهم دون معارضة أو منازعة ممن له رأي معتبر، فكان ذلك إجماعاً.
وأما المعقول: فانه يتجلى في عدة أمور أهمها:
أ) كثير من الأحكام التي وردت في القرآن الكريم جاء مجملاً أو عاماً أو مطلقاً أو مشتركاً، وهذا كله يحتاج إلى بيان لمجمله ومشتركة، وتقييد لمطلقه، وتخصيص لعامه، إذا المعنى المراد منه لا يفهم إلا بذلك، والسنَّة هي التي تولت هذه المهمة، مهمة البيان بأمر الله تعالى حيث قال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:44)، فكانت السنة الشريفة محتجاً إليها لفهم الكتاب، وقد اعتبرنا الكتاب حجة واتباعه واجبا فيما مضى، وما كان محتاجاً إليه لفهم الكتاب الذي هو مصدر الأمر والنهي الواجب الاتباع فهو واجب، لأن القاعدة الأًصولية تقول:مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ب) إن الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ القرآن الكريم وبيانه معاً، لأن التبليغ لا يتم إلا بالبيان والتبليغ كان بتلقين آيات القرآن، أما البيان فكان بالسنة المطهرة الموضحة له، وقد قامت الأدلة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الخطأ في التبليغ والبيان معاً والسهو فيهما، من مثل قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3-4)، وقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، وقوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) (الأعلى:6)، وغيرها.
هذا ولا بد من الإشارة إلى أن بعض الناس ممن سفهوا عقولهم، ذهبوا إلى أن السنة الشريفة ليست بحجَّة، واستندوا في دعواهم هذه إلى أمور حسبوها أدلة وما هي إلى أوهام وشكوك، ولذلك رأيت أن أصرف النظر عنها ولا أتعرض لذكرها، سيما وهي موضحة ومشار إليها في كتب الأصول، ويستطيع الاطلاع عليها كل من أراد ذلك، ثم إنها أتفه من أن تبحث أو يتعرض لها.
مرتبة السنة الشريفة من الكتاب الكريم في الحجيَّة:
السنة حجة وواجبة الاتباع للأدلة المتقدمة، ولكن هل هي في مرتبة القرآن الكريم، أم هي في مرتبة أدنى منه؟.
والجواب أن السنة الشريفة ن حيث مصدريتها للأحكام الشرعية تعد في مرتبة القرآن الكريم تماما، إذ هي دليل قاطع على حكم الله تعالى سبحانه ما دامت صحيحة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما تقدم من الأدلة، فلا فرق والحال هذه بين حكم الله تعالى الذي ورد على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه (القرآن الكريم) وبين حكم الله الذي ورد على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه دون لفظه (السنة الشريفة)، ما دام مصدر الحكم في الحالتين هو الله تعالى، ولذلك أجاز جمهور الفقهاء نسخ السنة الشريفة بالقرآن الكريم، ونسخ القرآن الكريم بالسنة الشريفة، أما الشافعية فقد خالفوا ذلك ولم يجيزوا نسخ القرآن الكريم بالسنة، ولكن هذه المخالفة ليست بسبب نزول السنة الشريفة ن مرتبة القرآن عندهم، بدليل أنهم لم يجيزوا نسخ السنة الشريفة بالقرآن الكريم أيضاً، ولكن لأن كلا من السنة الشريفة والقرآن الكريم مصدر مستقل بذاته. والنسخ يقتضي رجحان الناسخ على المنسوخ، ولا رجحان هنا لأحدهما على الآخر فلا ينسخ به.
وهذا بطبيعة الحال إذا تساوت السنة الشريفة بالقرآن الكريم من حيث الثبوت، بأن كانت السنة الشريفة متواترة، إذ القرآن الكريم متواتر كله جملة وتفصيلاً، أما السنة الشريفة الآحادية، فهي في مرتبة دون القرآن الكريم بالإجماع، ولكن لا لأنها سنة بل لأنها دون مرتبته في الثبوت، فهو متواتر قطعي وهي آحادية ظنية.
هذا من حيث مصدرية السنة الشريفة للأحكام، أما من حيث الحاجة إليها في استيفاء الأحكام، فهي في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم، ذلك لأسباب عدة أهمها:
أ) القرآن الكريم قطعي الثبوت كله بالإجماع، أما السنة الشريفة فهي آحادية ظنية الثبوت في معظمها، إذا المتواتر منها بقليل، وحتى في هذا القليل تختلف أنظار الفقهاء، حتى يكاد لا يخلو حديث متواتر واحد من الاختلاف في تواتره بين الفقهاء، وما كان قطعي الثبوت بالإجماع لاشك أولى بالتقديم في الرجوع إليه من المختلف على قطعيته[7].
ب) السنة الشريفة :بينة للكتاب وشارحة لنصوصه، فهو على ذلك أصل بالنسبة لها، وهي له تبع، وطبعي أن يحتاج إلى الأصل قبل التبع، ثم إنه لو سقط المبيَّن لسقط البيان ولا عكس، ولذلك كانت بعده.
ج) ما جاء في حديث معاذ بن جبل حينما أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقد قدم القرآن الكريم على السنة الشريفة وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ذلك دليلا على تقديم القرآن الكريم عليها، ولكن ينبغي أن ينحصر هذا التقديم في الحاجة إليها فقط، ولا يتعداه إلى مصدريتها، لأنها في ذلك في مرتبة تساوي القرآن الكريم تماما كما تقدم.
د) القرآن الكريم محصور في نصوص محدودة يسهل الرجوع إليها واستقصاؤها، أما السنة الشريفة فغير محصورة، بل هي واسعة جدا، فكان في تأخير الرجوع إليها بعد القرآن الكريم وجها مقبولا، هذا ولا بد من التنبيه هنا إلى أن أكثر الأصوليين ساروا على أن السنة الشريفة في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم دون تفصيل، ولا بد من حمل قولهم هذا على الوجه الثاني دون الأول كما أوضحت، وأن تغاضيهم عن هذا البيان والتفصيل إنما كان للعلم به لا لإنكاره، فيتنبه له.
شروط حجيِّة السنة الشريفة:
السنة الشريفة حجة كما تقدم، سواء أكانت قولية أم فعلية أم تقريرية، ولكن هذا ليس على إطلاقه، فإن تصرفاته صلى الله عليه وسلم الفعلية أو القولية أو التقريرية تنقسم إلى قسمين:
أ- قسم يفعله بصفته التشريعية التبليغية عن الله تعالى.
ب- وقسم يفعله بصفته البشرية الجبلية.
فمن القسم الأول كل ما يتعلق بالأحكام والحلال والحرام، ومن القسم الثاني كل الأمور الخاصة به التي مبناها على الجبلة والطبيعة البشرية كطريقته صلى الله عليه وسلم في نومه ومشيته ولباسه وترتيبه للجيوش وتنظيمه لأثاث بيته وغير ذلك.
فما كان من القسم الأول فداخل في نطاق التشريع والإلزام، ويعد مصدرا أصليا للشريعة الإسلامية لما تقدم.
وما كان من القسم الثاني فإنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لا إلزام ولا حجية فيه على أحد، ولذلك فإننا نرى الفقهاء يستثنون من السنة الشريفة الملزمة أمورا ثلاثة لا يعتبرون فيها حجية ما. وهذه الأمور هي:
أ- الأعمال التي يقوم بها النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى طبيعته البشرية، وجبلته الإنسانية، كطعامه وشرابه وقيامه وقعوده ومشيته ولباسه وغير ذلك.
ب- الأقوال التي تصدر عنه بمقتضى خبرته الإنسانية غير المعتمدة على الوحي وغير المتصلة بالأمور التشريعية، كصف الجيش، وطبخ الطعام وغيره، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر أنه صف الجيش على شكل معين وفي موضع محدد، فسأله أحد الصحابة وهو الحباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلك الله إياه ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الحباب: إذا ليس لك هذا بمنزل، وأشار بتغييره، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فدل هذا على أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أولا ليس بتشريع ملزم، وكذلك حادثة تأبير النخل، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم ثانيا: أنتم أعلم بأمور دنياكم، دليل على ذلك أيضا، لأن هذه الأمور تقوم على الخبرة الإنسانية المجردة عن الوحي، ونحن إنما اعتبرنا السنة الشريفة حجة لاستنادها إلى الوحي فلما انفصلت عنه لم يعد فيها حجية.
جـ- ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل وقام دليل خاص على اعتباره خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يعم غيره، فإنه لا يعتبر تشريعا لعامة المسلمين لهذا الدليل، من ذلك إباحة الله له التزوج بأكثر من أربع نسوة مع تحريم ذلك على المؤمنين بنص القرآن الكريم، أو قام الدليل على اعتباره خاصا بحالة واحدة، كشهادة خزيمة.
فما عدى هذه الأمور الثلاثة فهو سنة ملزمة للمؤمنين، وهو مصدر من مصادر التشريع الإسلامي الأصــلية.
مكانة السنة الشريفة من القرآن الكريم من حيث طريقتها في التشريع[8]:
السنة كما قدمنا تبع للقرآن، فهي مبينة لنصوصه وشارحه لمجمله وعامه ومطلقه، ولكننا في بعض الأحيان نجدها مؤكدة لما جاء في القرآن الكريم دون زيادة عليه أو إنقاص منه، ونجدها أحيانا تأتي بأحكام جديدة لم يتعرض لها القرآن الكريم أبدا، وعلى ذلك فإننا يمكن أن نلاحظ أن نسبة السنة الشريفة إلى القرآن الكريم من هذا الوجه تتجلى في أربعة أمور هي:
1 - أن تكون مفسرة لما جاء في الكتاب الكريم مجملا أو مشتركا، أو مقيدة لما جاء مطلقا، أو مخصصة لما جاء عاما،وهذه هي المهمة الأصلية للسنة المطهرة.
فمن تفسير المجمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (صلوا كما رأيتموني أصل)، فإن فيه بيانا لقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة)، فإنه مجمل.
ومن بيان المشترك تفسير النبي صلى الله عليه وسلم القرء بالحيض في أحاديث أثبتها الحنفية ولم يسلم الشافعية بثبوتها، ومن تخصيص العام قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها)، فإنه مخصص لعام قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)(النساء:24).
ومن تقيد المطلق قطعه صلى الله عليه وسلم يد السارق اليمنى من الرسغ، فإنه مقيد لقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)(المائدة:38).
2- أن تكون مؤكدة لما جاء في القرآن الكريم، فتكون بذلك دليلا ثانيا للحكم بعد القرآن الكريم، ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) فإنه تأكيدا لقوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188).3- أن تثبت حكما زائدا على القرآن الكريم سكت عنه، ولم يتعرض له ولم ينص عليه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم للمدعي: (شاهداك أو يمينه)[9]، ومنه قضاؤه صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين .. فإنها نصوص نبوية مثبتة لأحكام سكت عنها القرآن الكريم.
4- أن تنسخ حكما جاء به القرآن، وهذه نقطة خالف فيها الشافعية جمهور الفقهاء، حيث لم يجيزوا نسخ القرآن الكريم بالسنة كما تقدمت الإشارة إليه، ولكن يقولون إن السنة الشريفة في هذه المواضع معرفة لدليل النسخ لا ناسخة، فإن نسخ القرآن الكريم لا يكون إلا بالقرآن، والأمر مبسوط في كتب الأصول، ومن أمثلة نسخ القرآن الكريم بالسنة على مذهب الجمهور قول النبي: صلى الله عليه وسلم (لا وصية لوارث)، فإنه ناسخ لقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة:180)، وينبغي أن يتنبه هنا إلى أن الشافعية لا يريدون بمنعهم نسخ القرآن الكريم بالسنة، النزول بالسنة عن القرآن الكريم واعتبارها مصدرا من الدرجة الثانية بعده، بل إنهم يعتبرونها بمرتبة القرآن الكريم تماما مشيا مع الجمهور، وقولهم بعدم نسخ القرآن الكريم بها كان لاعتبارات أخرى غير نزولها عن مرتبة القرآن الكريم، بدليل أنهم لم يجيزوا نسخ السنة الشريفة بالقرآن أيضا، ولو كان الأمر هو نزول السنة الشريفة عن القرآن الكريم لديهم لقالوا بنسخها بالقرآن، لأن الأعلى يصلح ناسخا للأدنى، ولكنهم لم يقولوا بذلك.