الحكم الوضعـــي
سبق لنا تعريف الحكم في أول هذا البحث لغة واصطلاحا، كما سبق تقسيم الحكم إلى قسمين: وضعي، وتكليفي. وقد انتهينا من دراسة القسم الأول وهو (الحكم التكليفي) بجميع أقسامه، وسننتقل إلى دراسة القسم الثاني وهو (الحكم الوضعي):
تعريف الحكم الوضعي:
الوضع في اللغة الإسقاط والترك، يقال وضع فلان دَينه عن فلان أي أسقطه، ووضع فلان الشيء بين يدي فلان تركه[1]، وعلى ذلك يكون الحكم الوضعي لغة هو الحكم بترك الشيء أو إسقاطه.
وفي الاصطلاح: (أثر الخطاب بتعلق شيء بالحكم التكليفي وحصول صفة به باعتباره) [2]، وتعريفنا له بأثر الخطاب هو ما سار عليه الفقهاء، لأنهم جعلوا الحكم أثر الخطاب لا الخطاب، فإن الخطاب عندهم دليل الحكم لا الحكم ذاته، على خلاف الأصوليين الذي جعلوا الحكم هو الخطاب نفسه، وقد تقدم مزيد بيان لذلك في أول مبحث الحكم، وإذا أردنا توضيح معنى هذا التعريف أكثر قلنا هو: (ما ربط الله تعالى به الأحكام التكليفية على وجه السببية أو الشرطية أو المانعية ...)[3]، والمعنى أن الله سبحانه وتعالى كلف المسلمين بأحكام تعبدية أو تشريعية كثيرة، وربط تكليفهم بها بأحكام أخرى، أو ظروف وأحوال معينة، لتكون علامات لهم معرفة على توجه الخطاب عليهم، كربط الله تعالى وجوب الصلاة بدخول الوقت، وربط وجوب الزكاة بملك النصاب، وربط صحة التملك الناتج عن البيع بسلامة البيع واستكماله لشروط صحته، فإن كلا من وجوب الصلاة ووجوب الزكاة وقيام الملك في الأمثلة المتقدمة أحكام تكليفية، وكلا من دخول الوقت، وملك النصاب، وسلامة البيع، أحكام وضعية لا توجد الأحكام التكليفية حتى توجد، فتكون هذه الأحكام الأخيرة علامات موضوعة على توجه الخطاب للمكلف بالأحكام التكليفية.
أنواع الحكم الوضعي:
يقسم جمهور الأصوليين الحكم الوضعي إلى ثلاثة أقسام، وذلك من حيث طبيعة ارتباط الحكم التكليفي به وتوقفه عليه، وهي: السبب، والشرط، والمانع.
ويزيد بعض الأصوليين الآخرين كالشاطبي والأمدي قسمين اثنين آخرين على هذه الأقسام الثلاثة، فتصبح خمسة وهما: كون الحكم التكليفي صحيحا أو باطلا أو فاسدا، وكونه عزيمة أو رخصة، وذلك خلافا لكثير من الأصوليين الذين يدخلون هذين القسمين في الحكم التكليفي لا الوضعي.
وعلى كل، فإن الخلاف هو مجرد اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح، هذا وقد ذهب بعض الأصوليين الآخرين أيضا إلى عد الحكم الوضعي خمسة أقسام، عدا القسمين الأخيرين الذين جرى فيهما الاختلاف، فيزيد على الأقسام الثلاثة الأولى الماضية قسمين هما: العلة، والعلامة[4]، مع أن أكثر الأصوليين على أن العلة نوع من أنواع السبب، والعلامة قريبة من الشرط، ولذلك فلا داعي لإفرادهما بنص خاص، وهو ما سوف نسير عليه هنا، ونقسم الحكم الوضعي إلى خمسة أقسام حسبما فعل الشاطبي رحمه الله تعالى تيسيراً للبحث والدراسة . . .