مرتبة العفـــو [1]
هنالك نوع سادس من الأحكام له شبه بالمباح من ناحية وله شبهة بالحرام من ناحية أخرى، ولذلك فإن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى تسميته بمرتبة العفو، أخذا من عفو الله تعالى عن فاعله، وعدم معاقبته عليه رغم أنه حرام في أصله، ومن هذا النوع جميع المحرمات التي رافقتها ظروف شرعية خاصة اقتضت رفع الإثم عن فاعلها، مثل ارتكاب الكفار المحرمات قبل إسلامهم، كتزوجهم بأزواج آبائهم، وبأكثر من أربعة، وكشربهم الخمر، ولعبهم الميسر، إلى غير ذلك، حيث جعل الإسلام جابَّا لها ومسقطا للإثم عن فاعلها، ومن ذلك جميع المحرمات قبل أن يرد عن الشارع تحريمها، كشرب الخمرة قبل تحريمها، والتزوج بأكثر من أربع قبل تحريمه، فإنه لا يلحق الفاعل منه إثم أبدا، لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ولئلا يؤدي ذلك إلى التكليف بما لا يطاق، لأن التكليف بما هو غير معلوم تكليف بما لا يطاق، والتكليف هذا ممنوع شرعا رحمة من الله تعالى.
وقد سمى الفقهاء هذا النوع بالعفو وجعلوه مرتبة ثالثة بين المباح والحرام ولم يعتبروه من المباح رغم مشاركته له في الحكم، لأنه يختلف عنه في أن المباح يتساوى نفعه وضرره. أما هذا فضرره واضح لا يخفى، وهو راجح على نفعه، مثل الخمرة، فإن الله تعالى أشار بادئ الأمر إلى رجحان ضررها على نفعها دون أن يحرمها، فقال تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمها أكبر من نفعهما)، ومع ذلك فإن حكمها في ذلك الوقت وقبل التحريم القاطع هو عدم المعاقبة على شربها، ولذلك افترقت عن المباح ولم تعتبر نوعا منه.
الترجيـــح:
ولكنني أرى أن بالإمكان اعتبار هذه المرتبة من أنواع المباح، وأن جانب الضرر فيها متكافئ مع جانب النفع، بسبب الظروف الخاصة التي أحاطت بها، ورفعت الإثم عن فاعلها، فالخمرة نفسها قبل تحريمها يمكن اعتبار ضررها مساو لنفعها وليس راجحا عليه، وذلك بالنظر لما سوف يسببه تحريمها من مشقة بالغة على نفوس الصحابة المتعشقين لها، وأما قوله تعالى: (وإثمهما أكبر من نفعهما) فإنما هو منصب على ذاتيتها دون الظروف الخاصة المحيطة بها، وهذا لا يمنعنا أبدا من ملاحظة تلك الظروف باعتبارها تشكل مع الخمرة كلا لا يتجزأ، بل إن تأخير تحريمها كان دليلا على المصلحة في إبقائها، وهي التخفيف على نفوس المؤمنين.